دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

عن أفضل أفلام مهرجان «الجونة»: الكابوس الأمريكي كما تنبأ به أورويل وجسده ترامب!

كثيرة هي الأفلام، كالهم على القلب، وأغلبها مثل «الجانك فود»، حلو الطعم قليل النفع، وأحيانا بالغ الضرر. وقليلة هي الأفلام الجيدة التي يكتمل مضمونها القيم بجمالها الفني، ويكتمل إبداعها الشكلي بمحتوى هذا الشكل. قليلة هي الأفلام التي تشبه فيلم «أورويل 2+2=5»، أحدث أعمال صانع الأفلام الكبير راول بيك، والذي يعرض ضمن مسابقة الأفلام الوثائقية بمهرجان “الجونة” الحالي (16- 24 أكتوبر).

على مدار ساعتين، يشيد بيك ما يمكن أن تعتبره أغنية “روك” طويلة من الصور، أو درسا في التاريخ، أو خطابا سياسيا تحريضيا من الدرجة الأولى، يتتبع فيه خيوطا منفصلة متصلة: الأول هو حياة الأديب جورج أورويل (1903- 1950) وتأثير هذه الحياة على رؤيته للعالم وكتاباته، خاصة عمله الأخير والفريد “1984”، الذي يستعير منه راول بيك نصف العنوان الثاني “2+2=5”.

***

يبين الفيلم كيف أن تجربة أورويل كضابط إنجليزي في المستعمرات البريطانية أجبرته على ارتكاب العنف والنهب مع بقية زملائه، لكنها فتحت عينيه على حقيقة الاستعمار، وأثقلت ضميره الذي دفعه إلى الكشف عن هذه الحقيقة في كل كتاباته.

الخط الثاني هو استكشاف تجسدات رؤية أورويل الديستوبية في الواقع، من خلال رصد أشكال أنظمة الحكم الديكتاتورية والشمولية على مدار القرن الأخير، في الشرق والغرب والجنوب والشمال، من هذا الكوكب التعيس الذي يشقى بسكانه.

أما الخط الثالث فهو الحاضر الآني، الشاغل الرئيسي للفيلم، والذي يزداد شبها بديستوبيا الرواية. ورغم أنه يشير إلى روسيا بوتين وبعض بلاد أوروبا والكثير من دول العالم الثالث، إلا أن الفيلم يركز على الولايات المتحدة الأمريكية في عهد “الملك” دونالد ترامب، الذي يجاهر بإجرامه وسياساته الاستعمارية والرأسمالية وانتهاكاته للقوانين وحقوق الإنسان، حتى تحول عهده إلى صورة “جروتسكية” مقززة من “1984”.

***

وراول بيك، المولود عام 1953 في هيتي، هو واحد من أبرز صناع السينما السياسية في العالم. ورغم أنه قام بصنع عدد من الأفلام الروائية المهمة، إلا أن أعماله الوثائقية هي الأشهر والأهم. وقد رشح فيلمه “أنا لست عبدك” I Am Not Your Negro، عام 2016 لجائزة الأوسكار، وحصل على جائزة “سيزار” الفرنسية كأفضل فيلم وثائقي.

راول بيك ليس مجرد صانع أفلام سياسية، ولكنه منخرط في السياسة حتى قبل أن يولد، فهو ابن عائلة سياسية هربت من الديكتاتورية في هايتي خلال الستينيات ليستقروا في الكونغو، وتنقلوا بحكم عمل الأبوين في الأمم المتحدة إلى بلاد عدة. وقد ذهب راول إلى مدارس مختلفة في الكونغو وأمريكا وفرنسا وألمانيا، حيث درس الهندسة والاقتصاد، لكنه واصل حلمه بتعلم السينما. واضطر خلال فترة دراسته إلى العمل كسائق تاكسي في نيويورك، وصحفيا ومصورا فوتوغرافيا في ألمانيا.

بدأ بيك مسيرته في السينما عام 1982 بفيلم قصير كمشروع تخرج في ألمانيا، حيث أسس شركة إنتاجه بعد ذلك، ثم صنع أول أفلامه الطويلة “الركن الهيتي” (1986)، الذي يتناول حياة رجل من هايتي يعيش في نيويورك ويحاول أن يتعافى من تأثير التعذيب على يد الأمن في عهد الديكتاتورية. يلتقي ذات يوم بالصدفة بواحد من الذين عذبوه، ويتعين عليه الاختيار بين الانتقام والغفران! وهي حكاية تشبه – للغرابة- فيلم “مجرد حادث” للإيراني جعفر بناهي، المعروض في “الجونة” أيضا.

مشهد من رواية 1984 لجورج أورويل
مشهد من رواية 1984 لجورج أورويل
***

في عام 1990 صنع بيك فيلمه الشهير”لومومبا، مصرع نبي”عن اغتيال الزعيم باتريس لومومبا عام 1961، في مؤامرة من بلجيكا (التي كانت تحتل الكونغو) والمخابرات الأمريكية. وقد قام لاحقا في عام 2000، بتحويل القصة التاريخية إلى فيلم روائي بعنوان “لومومبا”، حظي بنجاح كبير.

على مدار عقود، قام بيك بصنع العديد من الأفلام الوثائقية في هايتي وخارجها عن موضوعات متعددة، وتنقل بين الوثائقي والروائي بسلاسة. وقد أعقب رائعته “لست عبدك” بفيلمه الروائي “ماركس شابا” (2017)، عن الصداقة والعمل المشترك بين كارل ماركس وفريدرك إنجلز.

في العام الماضي صدر لراول بيك فيلمه “إرنست كول: فقد وعثر عليه”، الذي عرض في مهرجان القاهرة، ويتناول حياة المصور الصحفي الجنوب إفريقي إرنست كول الذي وثق بالصورة نظام الفصل العنصري والانتهاكات الاستعمارية في جنوب إفريقيا خلال سبعينيات القرن الماضي.

***

يميل راول بيك إلى إعادة قراءة التاريخ من خلال الشخصيات الملهمة والمهمة، كما يفعل في فيلمه الأخير الذي يتأمل فيه حياة جورج أورويل وروايته “1984”. ومن الطريف أن الرواية التي نشرت عام 1949 تعرضت هي أيضا نفسها للمنع والملاحقة القضائية بتهم الدعاية السلبية وترويج الأفكار الهدامة، قبل أن تصبح واحدة من أكثر الروايات انتشارا وترجمةً لمعظم اللغات الحية.

ويمكن للقارئ أن يلاحظ انتشار الرواية الكبير وظهور عدة ترجمات لها في مصر خلال السنوات الماضية. وقد شهدت أول محاولة لترجمة “1984” أثناء دراستي بكلية الألسن عام 1984 (!) حين تم توزيعها على بعض الطلبة ليقوموا بترجمتها.

الرواية التي تدور في بلد خيالي يحكمه نظام شمولي مستبد، يمنع فيه حرية التعبير أو القراءة، ويتعرض فيه المواطنون لمراقبة أفكارهم، ويخضعون لعمليات غسيل مخ مستمرة من خلال التليفزيون والمنشورات الدعائية للدولة.

***

استخدم أورويل في روايته العديد من المصطلحات المبتكرة مثل “الأخ الكبير”، الذي يراقب كل شيء، و”جرائم الفكر” التي تعني حرية التعبير والتفكير، وكذلك مصطلح (2+2=5) الذي يستخدمه بيك في عنوان الفيلم، حيث يجبر الناس على إنكار المنطق والعقل والترديد -عن اقتناع- أن 2+ 2 تساوي 5!

في فيلمه، يستخدم بيك عددا لا يحصى من المواد الأرشيفية التاريخية ومقاطع من الأفلام التي اقتبست عن “1984” ورواية أورويل الرمزية الهجائية الأخرى و”مزرعة الحيوانات”، متتبعا الخطوط الثلاثة السابق ذكرها، ليخلق حالة من التأثير الهائل على المشاهد، الذي يخرج من الفيلم (وأتحدث عن نفسي على الأقل) يتنازعه الإحساس بأننا نعيش بالفعل داخل مدينة 1984 الفاسدة، والغضب الممزوج بالحيرة عما يجب فعله ضد هذه الأنظمة المجرمة التي باتت تحكم العالم.

اقرأ أيضا:

الفيلم المصري في الأوسكار.. «الشوشرة» مستمرة!

«اختيار مريم» واعتصام «زاوية»: جريمة تعلن عن نفسها!

كيف تقتطع تصريحا من سياقه وتثير زوبعة: «محمود حميدة» وعروس البحر وهجمة الترند!

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.