عم “روبي”.. آخر صانع للسواقي في بلد السواقي

كان يستند برأسه على حائط ورشته العتيقة، ترك الزمن آثاره على هيئة خطوط غائرة ترسم ملامحه وسنوات العمر التي مرت على وجهه.. عم “روبي” الذي تجاوز عمره سبعة عقود، هو من أقدم صانعي السواقي في الفيوم، والوحيد الآن بعد اندثار هذه الصناعة بفعل الحداثة وانحسارها الآن في ورشته التي توارثها عبر أجيال.

تقترن الفيوم بالسواقي، لأنها المحافظة الوحيدة التي اشتهرت بها وبصناعتها منذ قدماء المصريين، ويرجع ذلك لاختلاف طبيعة الأرض واختلاف مناسيبها، فتنخفض الأرض بشمالها 26 مترًا تحت سطح البحر، وبجنوبها 42 مترًا تحت سطح البحر، ولذلك كانت تدور في أراضيها السواقي.

“قديمًا كانت الورشة كل يوم ثلاثاء تزدحم بالزبائن من مختلف مراكز المحافظة، للبيع والشراء فى السوق الأسبوعي، الآن لا يوجد إلا الوحدة والفراغ والحسرة علي أيام جميلة مضت”.. هكذا يصف عم روبي وضع هذه الحرفة في الفيوم.

ويضيف: “خلاص يا أستاذة (الكار انتهى) فين أيام زمان كانت الفيوم فيها سواقي متتعدش، وكنا فى السنة بنعمل من 10 إلى 15 ساقية، دا غير الصيانة لباقي السواقي في موسم السدة الشتوية، كان العمل في الساقية بيحصل فى الأرض اللي هيتركب الساقية فيها في مدة من 5 إلى 6أيام، ونروح من مكان إلى آخر، أنا وعائلتي كنا المسؤولين عن ذلك، أما الآن مفيش شغل ممكن ساقيه كل كام سنة، أو نعمل صيانة ساقية قديمة”.

ويتابع: “عملت مع أبويا من الصغر أنا وأخواتي والآن بعد موتهك مفيش غيري، عندي ولد وحيد مشتغلش في الشغلانة لأنها خلاص مبقتش تجيب همها، هو عنده عيال محتاجين مصاريف”.

ويتحسر عم روبي، ويتلفت بعينيه في أرجاء المكان الخاوي من الزبائن والعمال، ويقول: “كان يوجد معي عمال عندما كان هناك عمل لهم، أما الآن وبعد توقف الحال، اتجه الصنايعيهة ومن بينهم إبني وأبناء إخوتي للعمل في مهن أخرى فإبنى فتح ورشة لغسيل السيارات، وأبناء إخوتي اتجهوا للعمل الحكومي أو ورش تصنيع الأثاث”.

ويضيف: “مين يا أستاذه هيعمل ساقية تتكلف من 10 إلى 12 ألف جنيه في هذا الزمن، زمان كانت تكلفة الساقية ألفين وثلاثة بس كان الفلاح مجبر علي كده لأنه الحل الوحيد للري، أما الآن مع وجود مواتير رفع وتأجيرها الأمر اختلف طبعًا هيوفر عليه الفلوس وكمان الوقت، كما حدث مع (نوارج الدراس) الخاص بدرس القمح والتي كانت من الأخشاب وتجرها الدواب وكنا نصنعها أيضًا، ولم تعد موجودة هي الأخرى لظهور الميكنة الحديثة لدرس القمح”.

ويكمل: “كما أن ارتفاع أسعار الأخشاب كان له تأثير ملحوظ ليس على صناعة السواقي والنوارج فقط، فقد كنا نصنع مستلزمات الفلاح الخاصة بالزراعة مثل الفأس والذي يتكلف الآن من 50 إلى 60 جنيهًا، قل الطلب عليه بظهور الفأس الصيني الذي يباع بـ 15 أو 20 جنيهًا، وأصبحنا لا نعمل جديد ولكن نشتغل على تصليح القديم فقط والذي يحتاج لتجديد اليد الخشبية فقط أو لصيانة اليد القديمة التي تتكلف 4 جنيهات للتصليح فقط”.

سبع سواقي كانت بتنعي …… على اللي نابها من المظالم
فضلت حياتها تدور وتدعي …… الله أكبر عليك يا ظالم

هذه الكلمات لصالح جودت، وغنتها شادية في إحدى الأفلام، فصوت السواقي لمن يسمعها يثير جو من الشجن والحزن الدفين بالفعل، وأيضًا صوت عم “روبي” وهو يحكي عن السواقي تلمح في عينيه بريق وحب دفين لصنعة السواقي، وتسمع في صوته كثير من الحزن حتى أنه في بعض الأوقات كانت تقف الكلمات منه فلا يتكلم ولكن يخبط كفيه بحركة تدل على الأسف والحزن.

يشرح عم روبي أنواع السواقي، ويقول: ليست كل السواقي تسمي ساقية فهناك نوعان، الأول وهى التي تسمي ساقية بالفعل والتي تصنع من خشب الأشجار وتعمل بجر الدواب، وهي رخيصة نسبيًا لنوع الخشب وحجمها الصغير، وهذه تصلح لرى الأراضي المرتفعة التي لا تصلها المياه.

أما النوع الثاني ويسمى “التابوت” وهي الأغلى سعرًا لأن الخشب المستعمل فيها يكون خشب أبيض من الموسكي أو العزيزي الغالي الثمن، لكي يكون خفيف الوزن لأنها تعمل عن طريق قوة ضغط المياه، ويصل ارتفاعها من 9 إلى 12 مترًا في بعض الأحيان.

وهذا النوع يوجد الآن في ميدان السواقي فهناك أربعة توابيت “سواقي” كما يطلق عليها بعد أن كانوا سبعة، فيما مضى، لأن هذه المنطقة كانت أراضي زراعية هي ومنطقة المسلة الآن، والتي أصبحت جميع الأراضي عبارة عن أبراج سكنية ومحال تجارية، وأصبحت السواقي للفرجة فقط.

يقول عم روبى: “مينفعش أشتغل شغلانه تانية غير دي.. مقدرش أعملها، وكمان الورشة بشم فيها ريحة جدودي، وفي سني ده هروح فين، المهم عندي إني جوزت بناتي الثلاثة، كل اللي خايف منه المرض وأنا ماليش تأمين صحي وربنا يستر ويصلح حال البلد”.

وتركته ورائحة الورشة العتيقة العبقة برائحة الأخشاب ورطوبة الأرض الترابية المنداة بالمياه تملأ المكان، وكلماته الأخيرة ترن في أذني إلى الآن “هنعمل إيه، أدينا عايشين وربنا يفرجها”.

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر