عمار علي حسن يكتب: الكاتب الحر طه حسين

كانت حياة طه حسين منذ بدايتها إلى نهايتها كفاحا مريرا في سبيل التحرر والانطلاق. وبغية امتلاك القدرة على التفكير العقلاني بعيدا عن أشكال الوصاية والتبعية والاستلاب كافة. فهو كان يرى أننا لا ينقصنا العلم وحده، إنما تنقصنا معه حرية الرأي.[1] ولذا لم يكن من قبيل المبالغة أن تقول سوزان إنه “قد دفع غاليا ثمن جريمته أن يكون إنسانا حرا”[2]. فهو كان يؤمن بأن الكتابة لا تكون كما ينبغي لها أن تنشأ. ثم تمضي في طريقها الطبيعية دون حرية، بل اعتبر الكتابة هي في حد ذاتها فعلا حرا، ولا جدال في هذا.

وكان طه هنا معجبا أشد الإعجاب بالفيلسوف اليوناني سقراط الذي كانت حريته قرينة وجوده. فيصفه قائلا: “يعلّم الناس وهو يحاورهم أن للإنسان ضميرا حرّا، ليس لأحد سلطان عليه، ولا ينبغي أن يكون موضوعا للمساومة، ولا سلعة تعرض للتجارة، وأن حرية التعبير وحرية الضمير وحرية التفكير هي التي تجعل الإنسان إنسانا” [3].

والإيمان بالحرية كان متأصلا في عقل طه حسين ونفسه، إلى درجة أنها كانت تسبق العدل في سلم القيم لديه. فهو يرى أن “الحرية غريزة أقوى وأشد التصاقا بالفرد من العدل، والشعور بالعدل يقوى ويشتد كلما قويت الحرية واشتدت”[4]. ولذا كان من الطبيعي أن يؤكد لزوجته: “أنني لن أؤيد الاستبداد على الإطلاق”[5]. وأن يعلن: “لست أنا بالذي يشتري منصبا مقابل عبودية البلاد”[6]، وقد التزم بما قال إلى حد كبير.

**

وحتى التزام الكاتب كان عنده مرتبطا بالحرية، ففي نظره “كل أديب ملتزم بما يعتقد، وإذا أُكره على أن يكتب شيئا لا يؤمن به، فلن يكون لما يكتبه تأثير في النفس والوجدان، أو يكون عملا أدبيا لا تشيع فيه حرارة الصدق، أو أصالة الخلق، أو يكون شبيها بجسم لا حياة فيه”[7]، وهو في هذا يخالف الكثير مما ساقه أصحاب “نظرية الالتزام” الذين تخلوا عن الحرية، ولو جزئيا في سبيل تحقيق الأهداف الكبرى لأمتهم، أو حزبهم أو تنظيمهم أو جماعتهم.

وقد حدد طه معوقات الحرية في “التقاليد الموروثة، والتقاليد المستحدثة، وسلطان الحكومة، وسلطان الجماعة، وظروف الحياة”[8]، ونادي بتذليل كل العقبات التي تحول دون حرية الكاتب، أو تنقص منها، وألا تكون هناك “ظروف سياسة تحد حرية الأديب، وظروف مالية تحول بين الأديب الناشئ وبين القراء، وظروف تعليمية تحول بين الشباب وبين العلم باللغة التي هي المادة الأولى للأدب”[9]، وإن كان هناك قيد آخر نفسي، حين يكتب الأديب وهو خائف يترقب، ليس لأن هناك من وما يقهره فحسب، بل لأنه استجاب لهذا القهر إلى درجة أعاقته أو عرقلته، ولم يقدر على منعها حتى بالحيلة والرمز والإشارة، وكلها تحتاج إلى مهارات فنية عالية، وتمكن لغوي كبير.

**

ورغم أن طه حسين كان منحازا للعدالة القانونية والاجتماعية، وعاش حياته يدافع عنها. فإنه لم ير العدل يمكن أن يقوم دون تحرر، فهو يقول: “ستظل الإنسانية مضطربة بين هذين المذهبين: مذهب العدل وما يقتضي من وسائل قد تكون منكرة في كثير من الأحيان، ومذهب الحِّرية وما يَستتبع من نتائج ليست أقل من وسائل العدل نكرا، ومن يَدري! لعل يوما من الأيام قريبا أو بعيدا يُرى ذلك الفيلسوف الذي يبتكر للإنسانية مزاجا معتدلا من الحياة يتحقق فيه العدل من غير عنف، وتتحقق فيه الحرية من غير ظلم، ويذوق الناس فيه سعادة لا يَشوبها بؤس ولا شقاء”[10]، من هنا فالعدل يجب في نظره أن يلازم الحرية، وأن تكون إحدى غايات الأخيرة رفع الظلم عن كاهل الناس.

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

وكان طه حسين يريد للحرية أن تنشأ وتزدهر في حياة الفرد حين يكون قادرا على الإتيان بأقصى درجة من الفعل الاجتماعي، ولذا رأى أن الشباب جديرون بالحرية قبل غيرهم كي ترتقي أذواقهم، ثم يعدد عوائق حريتهم كما سبقت الإشارة، ويطالب بإزالة كل هذا قائلا: “حرر الشباب قبل كل شيء، ولو تحريرا موقوتا من هذه القيود كلها أو بعضها. دعهم يفكرون كما يريدون، ودعهم يحيون كما يريدون، وأرشدهم بالقدوة الصالحة، والأسوة الحسنة، والنصح الرفيق”[11].

**

وقد حسم طه حسين هذا الأمر حين سأل تلاميذه ذات يوم: هل تحبون أن تكونوا عبيدا في بلد من الأحرار؟ أم أحرارا في بلد من العبيد؟ وظل ينصت إلى إجاباتهم وقتا كافيا، ثم قال لهم: الأفضل أن يكون الواحد منكم عبدا في بلد من الأحرار، لأن الأحرار لن يستعبدوا أحدا.[12] ولذا كان من الطبيعي أن يقول جابر عصفور، وهو من أحفاد طه حسين، بوصفه تلميذ تلميذته: “تعلمنا منه، فكرا ونقدا وتأريخا ودرسا أدبيا وسيرة حياة، أن الحرية هي أصل الوجود والطاقة الخلاقة التي ينطوى عليها الإنسان، كي يتأبى بها على شروط الضرورة، ويقهر بها العدم”.[13]

على هذا الدرب، كان الرجل مؤمنا بأن الأوامر تُفسد العلم والفن معا، فكلاهما له أمره المختلف، فالعلم يقوم على التساؤل والتشكك والافتراض ودراسة الاحتمالات والبدائل، والفن لا يمكن أن يقوم إلا مع حرية الإبداع والتجريب. وحين يطرح العلم والفن منطقهما هذا فلابد من الإنصات إليهما، دون ذلك يكون الفشل الذريع، والخسران المبين.

لهذا طالب طه بحرية أدبية تكافئ الحرية السياسية، فقال: “لابد أن يتكون في مصر رأي عام في الأدب يدفع إلى الحرية الأدبية، كما تكون فيها رأي عام في السياسة يدفع إلى الحرية السياسية”[14]، وهو بهذا أراد تنبيه المجتمع إلى ضرورة الوقوف إلى جانب الأدباء وهم يطلبون حرية الإبداع، التي كان كثير من الناس، ولا يزالون، يرفضونها، أو لا يرونها ذات أهمية.

فضلا عن ذلك، قدم طه مثلا ناصعا على عدم انشغال الكاتب بالمال، إلى درجة تحد من حريته، وهو أمر يمكن تلمس مظاهره في وقائع عديدة جرت له. فقد قبِل الإشراف على المعجم الكبير للغة العربية بلا مقابل، رغم أن المكافأة التي خصصت لهذا يومها وصلت إلى ثلاثين جنيها، وكان مبلغا معتبرا بمقاييس زمنه. ولم يكن يتقاضى مكافآت عن جلسات المجمع، وكذلك معهد الدراسات العربية.[15]

**

وأنفق طه حسين بسخاء يناسب استطاعته، لأن أسرته كانت تريد عيشا مريحا. وهناك واقعة تدل على هذا، فمعروف أن الشاعر كامل الشناوي كان مسرفا، ينفق كل ما يكسبه على نفسه وأصدقائه ولا يدخر شيئا، وقد وصف ما هو عليه قائلا: “لا أمسك المال إلا كما تمسك الماء الغرابيل”، وحين انتقده طه حسين، مذكرا إياه بحديث القرآن عن أن المبذرين هم إخوان الشياطين. رد عليه متساءلا: ماذا جمع الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل العالم وربح مئات الألوف من الجنيهات؟ وماذا اقتني غير البيت الذي يسكنه الآن، وكان حتى وقت قريب يستأجر السكن، وينفق عرقه على الديون.[16]

ومع كل هذه المناداة بالحرية ونشدانها، والأنماط التي عرضها طه حسين لها، فإنه لم يبلغ بها مستوى متكاملا من التأسيس الفلسفي أو النظري، إنما كان قوله وجهده مجرد نزوع إلى التحرر، أو التعبير الحر،[17] لكن هذا لم يكن بالقليل في زمنه، حين كانت قيود الحرية السياسية والدينية والأدبية والمعرفية قوية محكمة، لها تجذر في البنية الاجتماعية، تقاوم كل من يتبناها ويدافع عنها.

فصل من كتاب «بصيرة حاضرة: طه حسين من ست زوايا» للدكتور عمار علي حسن.. يصدر قريبا عن مركز أبوظبي للغة العربية في إطار الاحتفال بمرور 50 عاما على رحيل العميد.

المراجع:

[1] طه حسين، “الكتابات الأولى”، مرجع سابق، ص: 81.

[2]  سوزان طه حسين، مرجع سابق، ص: 98.

[3]  طه حسين، “رحلة الربيع والصيف”، (القاهرة، دار المعارف، 1969)، الطبعة الثانية، ص: 9.

[4]  إبراهيم عبد العزيز، “طه حسين.. وثائق مجهولة”، مرجع سابق، الجزء الرابع، ص: 40.

[5] سوزان طه حسين، مرجع سابق، ص: 53.

[6]  المرجع السابق، ص: 58.

[7]  محمد الدسوقي، “أيام مع طه حسين”، مرجع سابق، ص: 18.

[8] طه حسين، “نفوس للبيع”، (القاهرة، دار المعارف، 2005)، الطبعة الأولى، ص: 111.

[9]  طه حسين، “خصام ونقد”، مرجع سابق، ص: 11.

[10]  طه حسين، “ألوان”، (القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013)، ص: 207.

[11]  طه حسين، “مرآة الضمير الحديث”، (القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013)، ص: 75.

[12]  إبراهيم عبد العزيز، “طه حسين.. وثائق مجهولة”، مرجع سابق، الجزء الثالث، ص: 39.

[13] جابر عصفور، “تحرير العقل”، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2016)، الطبعة الأولى، ص: 321.

[14]  طه حسين، “حافظ وشوقي”، (القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2014)، ص: 15.

[15]  محمد الدسوقي، “طه حسين يتحدث عن أعلام عصره”، مرجع سابق، ص: 12.

[16]  كامل الشناوي، “زعماء وفنانون وأدباء”، (القاهرة، دار المعارف، 1987)، الطبعة الثانية، ص: 194 ـ 197.

[17]  ميثم الجنابي، مرجع سابق.

اقرأ أيضا:

طه حسين يكتب «حق الخطأ» تعليقا على معركة الشيخ عبد الحميد بخيت المنسية

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر