على رائحة الشاي والأنفاس الصوفية الحية.. يوم في رحاب «القهوة الأحمدية» بطنطا

«ما لذة العيش لولا صحبة الفقرا، هم السلاطين والسادات والأمرا».. كانت هذه أولى الدندنات التي سمعتها وأنا جالسة في مقعدي بـ«القهوة الأحمدية» بساحة مسجد السيد البدوي بطنطا. قالها السيد عبد التواب، وهو رجل قَدِم من أسيوط لينعم بصحبة الراحة في مسجد السيد البدوي.
ورحب السيد بالحديث إلى «باب مصر» معللًا بأنه لا يحب الحديث إلى الصحافة ولا الظهور فيها، لكن ما دام الأمر يتعلق بالقهوة الأحمدية فسيختلف رأيه بالطبع؛ القهوة التي رأتها عيناه لأول مرة منذ 65 عامًا مع أبيه في زيارته الأولى للسيد البدوي، حيث ضمهم المكان بعد سفر طويل، بعدما تفاجأوا بإغلاق المسجد لأعمال الصيانة في ذلك اليوم.
ذاكرة القهوة الأحمدية
يقول عبد التواب: «منذ ذلك اليوم وأنا أعشق الجلوس في هذه القهوة، مُنحت يومها ألذ كوب شاي كشري شربته في حياتي. ولا يزال هذا طلبي إلى الآن رغم تغير الجودة. هنا في القهوة كانت حكاياتي مع رواد مسجد سيدي البدوي، تعلمت على أيديهم الكثير من أصول الفقه والحديث والتفاسير والتسابيح، التي لا تخلو من صيغ الصوفية. وهو ما جذبني للمجيء إلى هنا 6 مرات في العام، بين كل شهرين مرة».
وذكر أنه يعمل مقاولًا، وارثًا مهنته عن أبيه مثل وراثته لحب القهوة والمسجد. مؤكدًا أنه شهد تجديد القهوة خمسة مرات حتى الآن. قائلًا إنها تغيرت جدًا، لكن هناك روحا فيها لا تغادره، روح ترتبط بتاريخ جلوس الأولياء فيها، واسمها وصل إلى الرؤساء والوزراء في يوم من الأيام.
السر في السيد البدوي
أوضح عبد التواب أن القهوة تعاقبت عليها أجيال كثيرة لأنها تخطت القرن من الزمان. لكنه ما زال يندهش في كل مرة تطرح عليه أفكاره حول ترك الدنيا والعمل في هذه القهوة. المكان الوحيد الذي يتمنى قضاء باقي عمره فيه، والسر يرجع إلى السيد البدوي.
ويقول: «يجذبني الأحمدي نحوه جذبًا، لا أصدق في السحر بقدر ما أصدق في قوة الجذب. آتي إلى هنا فأشعر أنني مجذوب. لا أعد نفسي من المتصوفة لأنهم أعلم مني، ولا أعد نفسي من الأولياء رغم تحقق رؤاي. لكني أعد نفسي من عاشقي هذا المكان أكثر من الأماكن الأخرى مثل مسجد الشاذلي في المنوفية والقنائي في قنا. هنا فقدت ووجدت غايتي على أعتاب القهوة».
وحكى عبد التواب عن مصادفة تكررت أكثر من أربع مرات متتالية، عندما يدخل القهوة وهي فارغة. يدخل ورائه الزبائن كأنه يفتح لهم الباب! حتى أن عادل، نادل في القهوة، لاحظ القصة وطلب منه مباركة المكان. فكان رد السيد وقتها عنيفًا على نفسه، حيث ترك القهوة دون زيارة المسجد، وتسوق من طنطا لأبنائه وعاد إلى بلدته مرة أخرى.
ذاكرة تاريخية خالدة
وأشار إلى أن ارتباطه بالقهوة رسالة يريد الله أن يعرفها، وهي أنه مهما تقرب من الأولياء، فلن يرتقي إلى منازلهم إلا بأمر الله. لذا كان غضبه متصاعدًا وحرم نفسه من الزيارة في المرة التي هيأ له الشيطان فيها أنه «عبدٌ مطاعٌ ووليٌ آمر». عاد بعدها بشهرين ليستغفر الله يومه كله في كل جزء من القهوة كي يكون شاهدًا له يوم القيامة.
شكلت القهوة الأحمدية بطنطا، الواقعة في ساحة مسجد السيد البدوي، نسيجًا ثقافيًا واجتماعيًا مختلفًا. تأثرت بها ذاكرة المدينة، حيث افتتحت في العام 1902. وضمت بين جدرانها أعلاما بارزة، من رؤساء ووزراء وأئمة وسياسيين ومشايخ وقراء وفنانين. وكانت في وقت من الأوقات منبرًا بديلًا للمهمشين الذين لا تصل أصواتهم إلى الإعلام الرسمي.
من يجلس على القهوة الأحمدية؟
كانت القهوة ملاذًا من الرئيس أنور السادات وحتى الشيخ محمد متولي الشعراوي، مرورًا بعمالقة التلاوة المصرية والإنشاد، على رأسهم الشيخ محمود خليل الحصري، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، والشيخ مصطفى إسماعيل، والشيخ سيد النقشبندي. وحتى فنانو مصر، مثل عبد السلام النابلسي، وكرم مطاوع، وشكري سرحان.
قضيتُ يومًا كاملًا في القهوة أراقبها عن قرب. وكان السؤال الثائر في عقلي طوال الوقت هو: لماذا الشعور العميق بالسكون هنا؟ وتعددت الإجابات في نفسي، هل لأن المكان تاريخي وأنا أنجذب للأماكن العتيقة؟ أو أن ذكر الله فيها هو الغالب. لذا كان السكون؟ إذًا، هل لا يجلس على القهوة سوى الصالحون فقط والأولياء؟
راقبت الجدران الصامدة وبها تشققات يخفيها الطلاء، والسور الحديدي الذي يلفها ويبرق متأثرًا بعوامل الزمن. تأملت المشربيات الطويلة، والصور الفوتوغرافية المعلقة، والآيات المكتوبة بالخط العثماني والأذكار. دققتُ أكثر في وجوه القهوة المختلفة، كراسيها، طاولاتها، ووجوه الناس وأُنسهم!
حكايات القهوة الأحمدية
لم يجذبني حكايات الناس بقدر ما جذبني تأملاتهم في المسجد. كانت أحاديثهم تدور بين الانتخابات البرلمانية المقبلة. وغلاء أسعار الحلويات في محيط السيد البدوي. والزبائن الذين «خفّت رجلها عن القهوة»، وطقوس المولد القادم وأمنياتهم في حضوره.
وفي زاويةٍ من زوايا القهوة رأيته، يذكر الله بصوت خفيضٍ ويرفع يديه إلى السماء، ممسكًا بيده سبحة، وبالأخرى يقلب الشاي بالنعناع، قد تجده إنسانًا عاديًا في حاله. لكنه سرعان ما ترك مقعده وراح يساعد نادل القهوة في تنظيفه ومسحه للأرض، وذكر الله يعلو، يمسح طاولة وينظر للمسجد. ويقول: «ارض عني يا رب»، يرش الماء ويقول: «عدت للقهوة يا رب».
وظننته من المجاذيب حتى طمأنني عامل في القهوة أنه ترك العمل بها منذ عامين، لسبب لا أحد يعلمه، واختفى. هذه أول زيارة له. حاولت الحديث معه ولكنه رفض، فعلمت أن في القهوة سرا لا يعلمه إلا الله.
القهوة الأحمدية: مؤسسة اقتصادية مصغرة
تعمل القهوة الأحمدية كمؤسسة اقتصادية مصغرة. إذ تعد مصدرًا لرزق العديد من الأفراد، من القهوجي والصبي والعاملين بها، إلى بائعي السجائر والسبح والأذكار والتمائم. وتدور فيها دورة رأس مال يومية صغيرة تعتمد على العلاقات الاجتماعية والثقة، ويكسوها الرفق والسكون. أما أسعار المشروبات، فهي معقولة، لا مغالاة فيها رغم شهرة القهوة. وتناسب مختلف الفئات المترددة عليها.
ولاحظتُ تنوعًا كبيرًا في مرتادي القهوة، رغم أن اليوم كان هادئا. هناك نساء يعملن بجوارها، ومشايخ زائرون للضريح. وأزواج وخُطَّاب، وبائعون متجولون، وأسر صغيرة تأكل على طاولاتها وتتأمل في المسجد. معتبرين القهوة محطة لفسحتهم القصيرة.
وتحتضن القهوة حكايات شعبية تمثلت في روادها. حيث ارتادها العديد من المشايخ الحاملين للسبح، وآخرون يرتدون أزياء خضراء، يتحدثون عن الأوراد، وطرق القرب من الله، وصيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بالطرق الصوفية. إلى جانب حديث جاد جدًا عن الأحداث الأخيرة في الإفتاء. وأحاديث جامعة أخرى عن العيد وموعد الأضحية، وصمت مطبق في بعض الأحيان إلا من ساحة المسجد.
منبر هامشي يطل على المسجد الأحمدي
يتغير الزمان ويدور، وتبقى حركة القهوة كما هي. بطرازهاٍ الإسلاميٍ الآسر، لا يتغير ديكورها حتى في أيام المولد والمواسم المختلفة، ما عدا رمضان. تطل القهوة على المسجد الأحمدي بواجهة أنيقة. ويتفرع منها ممر طويل تحيط به طاولات متعددة ودكك خشبية، تحافظ على تراثها الأصيل بنقوش بارزة على جدرانها الخارجية.
ولا توجد شاشة داخل القهوة، ولا صوت عال لقرآن أو موسيقى. فقط أحاديث الناس وتفاعلاتهم هي الخلفية، مع تأملات عميقة في مسجد له تاريخ. هكذا كانت القهوة منذ البداية، وستظل. يقول محمد فتحي، أحد العاملين بها، إن جده كان يعمل في القهوة منذ عام 1946، وكانت تموج آنذاك بأخبار البلاد. وبعدها أخبار حرب فلسطين وغيرها، وكان الناس يعبرون عن آرائهم بمنتهى الحرية دون خوف.
وأشار فتحي إلى أن القهوة حافظت على دورها خلال ثورة 25 يناير وثورة 30 يونيو. فلم تغن وسائل التواصل الاجتماعي الناس عن التعبير عن ألمهم حيال البلد وحبهم تجاهها. فكانت القهوة منبرًا هامشيًا في طنطا لحديث الناس، ولكن أثره عميق.
ذاكرة حية
في النهاية، تبقى القهوة الأحمدية أكثر من مجرد مقهى؛ إنها ذاكرة حية لمدينة طنطا، تحفظ بين جدرانها قصصًا وحكايات لأجيال تعاقبت على الجلوس فيها. كانت مكانًا تلتقي فيه الأرواح الطيبة قبل كلماتها، وكانت ملاذًا لي أيضًا بين أيامٍ عصيبة.