عرض رواية “كوبيس بيروت” للكتابة غادة السمان

كتب- مارك أمجد

تدور رواية “كوبيس بيروت” في السبيعينيات، حينما يستيقظ الشعب صبيحة يوم السبت على أهوال الحرب الأهلية اللبنانية، التي اندلعت بين الملل السنية والمارونية، وكان العدو الإسرائيلي هو الذي أشعلها لأنه المستفيد الأول من تفتيت جاره لبنان.

الرواية بأكملها مسرودة على لسان بطلتها التي حبست داخل بيتها في انتظار إحدى مصفحات الجيش اللبناني كي تأتي وتنتشلها وتنقلها للجانب الآمن من البلاد، وهي المهمة التي بدت مستحيلة في ظل وجود القناصة المختبئين على الأسطح وبين هياكل السيارات التي تفحمت، وهؤلاء القناصة يقتلون كل كائن حي في الشوارع، وحينما يقضون على البشر يتوجهون ببنادق قنصهم للكلاب في الأزقة والعصافير في السماء.

فكرة الرواية

ترصد رواية “كوبيس بيروت” كيف تحولت بيروت بين ليلة وضحاها من جنة عاهرات أوروبا (حسب وصف المؤلفة) إلى ساحة معارك ودماء، خاصة شارع الحمراء السياحي، الذي تهشمت واجهاته الزجاجية ولطخ الدم أرصفته واكتظ بسيارات تشحن في صناديقها مسلحين يحملون “الكلاشينكوف” ويسرقون خزن أشهر محلات الموضة في الشرق الأوسط.

وتصف الرواية كيف فقدت أسر رجالها وأبنائها وهم عائدون من أشغالهم، وكيف صار المرء يتلقى الرصاصة وهو جالس أمام مقود سيارته أو راكب على دراجته النارية، يخاف أن يزيد من سرعته فيتناسب ذلك مع توقيت القذيفة أو يبطئ من سرعته فيلحق هو بالقذيفة، وفي النهاية تنفجر الدراجة ويتضح أن القذيفة كانت داخل هيكلها.

وبدون قصد، تعود الرواية لأيام الحروب الصليبية لكنها هذه المرة تحدث في بيروت، لكن أيضا باسم الدين، حيث كل ملّة تعتقد أنها بشعاراتها وأسلحتها تناصر دين الله القويم، ولا تعلم أي فرقة منها أن من يورّد لهم السلاح شخص أجنبي في النهاية لا يهمه سوى جني المال وتقسيم لبنان، منتهزا تعدد الطوائف في بلد الأرز.

وصلت الحال بتلك الحرب البشعة إلى تشكيل متاريس وكمائن على الطرق، حيث ضمانك الوحيد للنجاة بحياتك والمرور هو أن تتطابق خانة الملة في بطاقتك مع خانة الملة في بطاقة جماعة المسلحين على المتراس.

أسلوب الكاتبة

ولا تخفي غادة السمان في “كوبيس بيروت” مشاعرها تجاه لبنان، المهووسة بارتداء الأقنعة أمام العالم، حتى أتت الحرب الأهلية وأزالت مساحيق التجميل عن وجهها، حيث تعرّي “السمان” العلاقات الإنسانية التي نخرتها الحرب، ففي الحرب، بحسب توصيف غادة، تذوب أقوى الرباطات ويأكل الناس أحبائهم من فرط الجوع لو استساغوا لحومهم، مثلما تأكل القطة أولادها متى جاعت.

وتحكي “غادة” عن عشيقها يوسف، وكيف وقفا سويا أمام الجميع بسبب علاقتهما المحرمة نظرا لاختلاف ديانتهما، وإن كانت “السمان” تقبلت فكرة أن يعارض الناس حب اثنين من ديانتين مختلفتين، فهي لم تستوعب إطلاقا أن تقوم مجازر أهلية على نفس الخلفية.

تأخذ الرواية شكل القالب التوثيقي فنجدها تسجل مواقفها اليومية مع الحرب لحظة بلحظة والناس الذين اضطرت لحمل جثثهم وكيف اجتازت تجربة الجوع وسقوط القذائف ومقتل يوسف حبيبها أمام عينيها.تؤكد غادة مسألة التوثيقية حينما تصارح القارئبمدى حرصها على تدوين كل تفصيلةمرّت بها، طوال فترة الحصار التي قضتها في بيتها منتظرة مدرعة الانقاذ التي لا تأتي،كل ذلك في كراسة أسمتها “كوابيس بيروت”، مما يكشف أن المؤلفة كانت قد قررت من لحظة التدوين الأولى أنها مخطوطة رواية بهذا الاسم وليست مجرد مذكرات.

لكن الروائية لا تقع في فخ الذاتية ونجدها في أكثر من كابوس تسرد سيناريوهات وحشية مر بها نماذج مختلفة من أهل لبنان طوال فترة الحرب. كالساقطة الفرنسية التي قتلوا حبيبها الثري العربي وهامت على وجهها تبحث عن كلبها الذي تعادل ذكورته ذكورة كل الرجال الذين عرفتهم. ورب الأسرة الذي تحول لقاتل بعد أن تعرض أكثر من مرة لعملية سطو وهو عائد بالعشاء لأسرته، وأخو الراوية نفسها الذي قُبض عليه بتهمة حيازة سلاح غير مُرخّص فأصيب في السجن بلوثة، والرجال الذين قتلوا زوجاتهم وأبنائهم لحمياتهم من الجوع ثم انتحروا بعدها مباشرة.

تصنع المؤلفة في كوبيس بيروت من بعض النماذج غير الحية شخصيات تتكلم وتحكي عن تجربتها مع الحرب، مثل ذلك الفصل الذي تفرده لواحدة من مانيكانات العرض في إحدى واجهات شارع الحمراء التي تتفاجئ بخراب المحل وهروب الأثرياء العرب الذين كانوا يأتون بزوجاتهم وعشيقاتهم لشراء أغلى المعاطف المكسوة بالفراء، لكنهم اختفوا فجأة بعد أن رتبوا لقاءات مع أصحاب المتاجر ودفعوا عربونا باهظا. والموت أيضا تحوله المؤلفة لشخصية منفردة بذاتها وتوصف على لسانه رأيه في أهالي بيروت الذين باتوا يحبونه أكثر من أنفسهم ولا يقدرون على الاستغناء عنه يوما واحدا منذ بدأت الحرب.

عن غادة السمان

كاتبة وأديبة سورية. ولدت في دمشق لأسرة شامية عريقة، ولها صلة قربى بالشاعر السوري نزار قباني. والدها الدكتور أحمد السمان حاصل على شهادة الدكتوراه من السوربون في الاقتصاد السياسي وكان رئيسا للجامعة السورية ووزيرا للتعليم في سوريا لفترة من الوقت. تأثرت كثيرا به بسبب وفاة والدتها وهي صغيرة. كان والدها محبا للعلم والأدب العالمي ومولعا بالتراث العربي في الوقت نفسه، وهذا كله منح شخصية غادة الأدبية والإنسانية أبعادا متعددة ومتنوعة. سرعان ما اصطدمت غادة بقلمها وشخصها بالمجتمع الشامي (الدمشقي) الذيكان “شديد المحافظة” إبان نشوئها فيه.
أصدرت مجموعتها القصصية الأولى “عيناك قدري” في العام 1962 واعتبرت يومها واحدة من الكاتبات النسويات اللواتي ظهرن في تلك الفترة، مثل كوليت خوري وليلى بعلبكي، لكن غادة استمرت واستطاعت ان تقدم أدبا مختلفا ومتميزا خرجت به من الاطار الضيق لمشاكل المرأة والحركات النسوية إلى افاق اجتماعية ونفسية وإنسانية. من أعمالها مجموعة ” الأعمال غير الكاملة”.

عن الكتاب

كوبيس بيروت صادرة عن منشورات غادة السمان ببيروت طبعة أولى عام 1976 في 360 صفحة من القطع المتوسط، وصدرت الطبعة السادسة عام 1987، تُرجمت إلى البولونية عام 1984 في طبعة مكونة من 20 ألف نسخة، وتُرجمت إلى الروسية عام 1987 في طبعة مكونة من 50 ألف نسخة، وتُرجمت بالأخير إلى الألمانية.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر