دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

«عائشة لا تستطيع الطيران».. وللحقيقة وجهها القبيح!

«عائشة لا تستطيع الطيران» فيلم لا مثيل له في السينما المصرية. القليلون جدا ممن مروا على هذه السينما حلموا بأن يصنعوا فيلماً كهذا. ربما، في زمن آخر، كان يمكن أن يفكر أسامة فوزي في صنع فيلم مثله، إذا أتيحت له الفرصة..ولكنها لم تتح.

أما مراد مصطفى، مخرج «عائشة..»، فقد استغل هذه الفرصة التي يتيحها الإنتاج المشترك وصناديق الدعم الكثيرة المتوفرة الآن، ليصنع الفيلم الذي يرغب فيه بالضبط، دون التفات لظروف سوق، أو ذوق جمهور، أو شروط رقابية.

لا مساومات

صحيح أنه فعل ذلك من قبل في أفلامه القصيرة: “حنة ورد”، و”خديجة”، و”ما لا نعرفه عن مريم”، و”عيسى” أو (“أعدك بالجنة”)، وكل منها أثار ما أثار من جدل، وحصد ما حصد من جوائز دولية. لكنها تظل أفلاماً قصيرة من التي يسهل التسامح معها من قبل الإنتاج والسوق وأعين الرقباء.

في “عائشة..”، وبدلا من تقديم بعض المساومات، كما يفعل صناع الأفلام القصيرة حين يتحولون إلى الروائي الطويل، يتشبث مراد مصطفى أكثر برؤيته، ويرفع سقف المسموح به إلى حدود غير مسبوقة في سينما تعاني، طوال عمرها من الخجل والخوف والنفاق الأخلاقي، وقد باتت، خلال العقد الماضي، أكثر خجلاً وخوفاً ونفاقا!

“عائشة لا تستطيع الطيران” فيلم مزعج، نعم، وصادم، ومستفز، ولا عجب أن يثير الزوبعة التي أطلقها بعض “محبي السينما” على مواقع التواصل الاجتماعي، فقد “ضرب” الفيلم مفهومهم عن معنى الفن ووظيفته ورسالته. وهو فيلم لا يمكن تقديره إلا إذا وضعناه في سياقه، مع ما يشبهه من أعمال فنية، وليس ضمن سياق السينما السائدة المعتادة.

بوستر الفيلم.. مشاع إبداعي
بوستر الفيلم.. مشاع إبداعي
أزهار القبح

منذ ما يقرب من 175 عاما، أصدر الشاعر الفرنسي شارل بودلير ديوانه “أزهار الشر”، الذي دشن ما يعرف بالشعر الحديث، ومهد لما يعرف بقصيدة النثر، وفوق ذلك دشن ما نطلق عليه الآن “جماليات القبح”: أي الكيفية التي يحول بها الفنان أقبح الأشياء في العالم إلى شعر أو لوحة أو فيلم.

وبودلير عندما فعل ذلك كان ينطلق من شيئين: الصدق مع النفس والقارئ، وضرورة قول الحقيقة كما يراها الفنان، مهما كانت منفرة ومزعجة.

ولعل أشهر قصائد الديوان وأكثرها تأثيراً على الفنون كلها، هي قصيدة “جيفة” أو “جثة” التي يقول فيها:

“تذكرين يا حبيبتي ما رأيناه صباح هذا اليوم المشرق من أيام الصيف الجميلة؟

حين التفتنا، فرأينا جثة متعفنة راقدة على فراش من العشب تناثر عليه الحصى. وقد رفعت ساقيها في الهواء كامرأة شبقة، تحترق وتنضح بالسموم. وتكشف عن بطنها المنتفخ بالغازات بوقاحة واستهتار.

كانت الشمس تسلط أشعتها على هذه الجيفة كأنما تريد أن تطهوها فترد إلى الطبيعة ما أعطته، وتبعثره في ذرات لا تحصى.

وكانت السماء تنظر إلى هذه الجثة الفخيمة كأنها زهرة تتفتح، ورائحة العفن شديدة حتى كدت تسقطين على الأعشاب مغشياً عليك.

كان الذباب يطن حول الأحشاء الآسنة التي تنبعث منها أسراب من الحشرات السود تنحدر كأنها سائل ثقيل على هذه الأسمال الحية، وهي تعلو وتهبط كالأمواج، وتندفع في صخب، فيخيل إلى المرء أن الجسد الذي ينتفخ بأنفاس خفية يواصل الحياة من خلال تكاثر أجزائه”.

تفتح الوعي

تعرض بودلير وديوان “أزهار الشر”، وخاصة قصيدة “جيفة”، إلى حملة كراهية هائلة، ومن المؤكد أن أغلب قراء عصره انزعجوا وشعروا بالغثيان وتألموا. لكن القصيدة والديوان فتحا أعين الناس ووعيهم على إمكانية التحديق في وجه القبح والرعب.

ومن الطريف مثلا أن نقرأ ما كتبه شاعر كبير آخر هو راينر ماريا ريلكه عن قصيدة “جيفة” في كتاب “رسائل عن سيزان”، حيث يرى أنها فتحت وعي الإنسان الحديث على الحقيقة، ويبين أيضا تأثيرها الهائل على الرسام بول سيزان، الذي كان يحفظها ويرددها يومياً، ومنها استقى مفهومه عن رسم الواقع.

وجدير بالذكر أيضا أن بودلير كان أول من كتب شعرا عن مصاصي الدماء وآكلي لحوم البشر!

واقعية وقبح وغرائبية

من الملفت أن مراد مصطفى في “عائشة لا تستطيع الطيران”- لا أعلم هل فعل ذلك عن وعي أم لا- يستخدم أدوات بودلير في خلط قبح الواقعي برعب الغرائبي. يتنقل بخفة مبهرة بين الكاميرا التقريرية التي تسير في الشوارع المزدحمة وتصعد الكباري وتستقل وسائل المواصلات العامة وتتسلل إلى الحواري الغارقة في المخدرات والعنف والتحرش، وبين الصور السريالية كما في ريش الطيور الذي ينمو على جسد البطلة، وأحلامها المفزعة بالموتى وبأكل لحم المتحرش بها… ولعل أغرب هذه الصور، رغم واقعيته، المشهد الذي ترتدي فيه قناع باتمان لتلعب مع طفل يرتدي قناع الجوكر!

أسلوب محكم

منذ المشاهد التأسيسية الأولى، يمتلك “عائشة لا تستطيع الطيران” عالمه الخاص وأسلوبه الفني المحكم: فتيات إفريقيات يصطففن للحصول على مبلغ مالي لكل منهم، يتعامل معهن رجال تقليديون بتلك اللغة غير المهذبة التي تظهر في النبر الذي تنطق به كلمة “يا بت”، “تعالي يا بت”. لا نعرف في هذه اللحظة من هؤلاء الفتيات، وما إذا كان المال الذي يحصلن عليه إعانة أم أجر مقابل عمل.

وعلى أية حال لن نستمع إلى أي كلمة أخرى لما يقرب من ثماني دقائق، تتابع فيهم الكاميرا واحدة من هؤلاء الفتيات. تأخذ المال وتغادر المكان (وسيتبين لاحقا أنه مكتب تشغيل “خادمات” يعتمد على هؤلاء المهاجرات البائسات). ثم قطع حاد على الفتاة تسير مسرعة بجوار سور كوبري غمرة. تبتعد الكاميرا لنراها في زاوية أوسع، ثم زاوية مرتفعة أكثر اتساعاً: مجرد فتاة سوداء ترتدي حجابا فضفاضا على جلباب بسيط، تشق طريقها بسرعة وحدة وسط الزحام.

***

يعقب ذلك قطع حاد آخر على الفتاة تنظف بيتا قديما فقيرا وتطعم سيدة عجوز مريضة. ثم قطع آخر على الفتاة تنظف في بيت آخر. ولكن هذه المرة، بعد أن تنتهي، نسمع صوتها لأول مرة. تسأل مخدومتها بنبرة سودانية مميزة عما إذا كانت تحتاج إلى شيء، ثم تتجمد مكانها لبرهة، قبل أن تأخذ مفتاح الشقة، لتضعه في قالب إسفنجي، ثم تعيده إلى مكانه وتنصرف. ونخمن هنا أنها تصنع نسخة من المفتاح لسرقة منزل السيدة المريضة!ثم قطع حاد على شاشة سوداء تحمل عنوان الفيلم.

بكلمات شحيحة وكاميرا تتحرك بسلاسة غير مرئية في شوارع وأزقة المدينة، مثل منظار طبي يكشف ما تمر به أعيننا كل يوم ولا نراه، يواصل الفيلم متابعة رحلة عائشة إلى بطن الجحيم. يختار مراد مصطفى مواقع تصويره بعناية: كلها أماكن واقعية نعرف الكثير منها، لا يوجد ستوديو أو أي نوع من الديكورات الجاهزة هنا، ومع ذلك يبدو كل مشهد ولقطة كلوحة مرسومة بالأسلوب والألوان والثيمة نفسها: قليل من الإضاءة، غلبة البني والأصفر بدرجاتهما، إطارات تعزل الشخصيات داخل مربعات ومستطيلات صغيرة، وانتقال محسوب بدقة للكاميرا والشخصيات بين لحظات من السكون التام، وأخرى من الحركة المفرطة.

جحيم المختلفين

منذ فيلمه الأول “حنة ورد”، هناك “ثيمة” تتردد عبر أعماله وهي وضع شخص هامشي غريب في مجتمع يسوده التعصب والجهل وضيق الحال. ويختار مراد مصطفى شخصياته من الأقلية “الإفريقية”، سواء كان النوبيين أو السودانيين، أو النساء اللواتي يتعرضن لقهر وظلم شديدين. ويلتقط عادة حالات حقيقية، مثل التي نقرأ عنها في الصحف ومواقع التواصل كل يوم، وإن كنا لا نفكر في أن نرى هذه الشخصيات والحالات على الشاشات.

هناك حس وثائقي واقعي في الحكايات، وأماكن التصوير، وطريقة التمثيل، حيث يندر الحوار أو يكاد ينعدم، ولكنه طبيعي وواقعي جدا حين ينطق.  وبالمقابل، عن طريق زوايا التصوير وحركة الكاميرا، تتخلق في هذا الواقع الخشن البارد جماليات بصرية وشعرية من نوع خاص جدا: مقبض ومقلق وممتد التأثير.

يصل هذا الأسلوب إلى ذروته في “عائشة”، حيث تتيح الإمكانيات المادية الأكبر تصوير مساحات أكبر وأحداث أعنف. وسأكتفي بالإشارة إلى اثنين من أجمل مشاهد الفيلم: الأول واقعي شبه وثائقي، والثاني مؤلف ومصنوع بالكامل.

في المشهد الأول، تذهب عائشة لزيارة فتاة زميلة تعرفت عليها، تسكن في شقة مشتركة مع عدد من الفتيات السودانيات المهاجرات، حيث يعددن الطعام ويغنين ويرقصن، رغم البؤس المخيم على مصائرهن.

أما المشهد الثاني، فهو المعركة التي يختتم بها الفيلم، والتي يمكن اعتبارها أفضل تصميم معركة في تاريخ السينما المصرية- ودعك من المعارك “الفشنك” تقليد هوليوود التي أغرقت الأفلام في السنوات الماضية.

زرقاء اليمامة

في الحالتين، وعلى مدار الفيلم كله، تكتفي عائشة بالمراقبة والصمت. لكنها في صمتها أبلغ تعبير عن فداحة ما ترى. وهي، بشكلٍ ما، بعينها المريضة المصابة بالمياه الزرقاء، تشبه “زرقاء اليمامة”: العرافة العمياء التي كانت ترى المستقبل في الأسطورة العربية. ولست أعلم أيضا ما إذا كان صناع الفيلم يقصدون هذا التشبيه أم لا. ولكن في كل الأحوال فإن عائشة رأت، وما رأته هو قلب الجحيم اليومي الذي يعيش فيه الناس ولكن لا يرون.

وبينما يشيحون بوجوههم عنه، كما لو كان جيفة متعفنة على الطريق، فإن عائشة – وفيلم عائشة- يحدقان دون وجل في وجه الجحيم.

اقرأ أيضا:

من الكورونا والحرائق إلى السقوط من فوق ونش: الموت في موقع تصوير!

الفيلم الفائز بنجمة «الجونة» الذهبية: «شاعر» ضد الشعر وسينما ترفض السينما!

عن أفضل أفلام مهرجان «الجونة»: الكابوس الأمريكي كما تنبأ به أورويل وجسده ترامب!

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.