«طب وثقافة وناس»: شعراء كرة القدم.. شعراء غرفة العمليات

في عام 1987، عامي الأول كطبيب مقيم، أصدرت لين باير، الحاصلة على شهادتين واحدة في العلوم وواحدة في الصحافة، كتابها الأول: كيف تتجنبين استئصال الرحم. والعام التالي (1988) أصدرت كتابها الأكثر شهرة: الطب والثقافة: اختلاف طرق العلاج بين الولايات المتحدة، إنجلترا، فرنسا- كان حائط برلين ما يزال قائما ويقسم ألمانيا إلى شطرين. فأضافت ألمانيا الغربية إلى زمرة الدول المعنية بالسؤال.

وفي العام الذي حصلت فيه على الماجستير (1992)، صدرت من الكتاب نفسه طبعة ثانية منقحة. ونفس العام الذي فشلت فيه في الحصول على الدكتوراه (1996). أصدرت كتابها الثالث، وربما الأخير: تجّار المرض: كيف يجعلك الأطباء، وشركات الأدوية، وشركات التأمين تمرض.

لم تستخدم لين باير في كتابها الأخير كلمة trader والتي تعني تاجر أيضا. ولكنها استخدمت الكلمة ذات الأصل اللاتيني monger، الكلمة التي حظيت في القرون البعيدة بسمعة جيدة، حتى لوثها بائعو زيت الثعابين في القرى. فأصبحت مجرد بادئة تدل على رداءة الصنف الذي يٌروج له، مثل مروجى الشائعات، وتجار الحروب وباعة الأسماك الفاسدة. وفي السنة التي انتهيت فيها من ترجمة “تاريخ الطب” من اللغة الفرنسية (2001)، ماتت لين باير بقاتل النساء المتسلسل: سرطان الثدي.

(1)

في 2016، وربما في نهاية العام الذي سبقه، كتبت في نص لي قائمة بالأشياء التي أحبها، من بينها: السير الذاتية للشعراء المجهولين. لكن الحقيقة أنني أحب السير الذاتية لشعراء كرة القدم، مثل سقراط كابتن منتخب البرازيل، في أجمل نسخة لهذا المنتخب، بالمصادفة كان طبيبا يعالج الأطفال بالمجان تقريبا. ويقال إنه كان شيوعيا، لم يستطع اللعب في إيطاليا، لأنه لا يستطيع العيش واللعب لغير نادي كورنثيانز في ساو بالو: بقيت في كرة القدم من أجل الوزن السياسي، ومواجهة القمع الذي يمارسه العسكر.

وأحب أوليڤر ساكس، صاحب يقظات، والرجل الذي حسب رأس زوجته قبعة، طبيب الأعصاب، اليهودي، المثلي، شاعر الطب الحديث كما يقولون. لكنني لا أعرف شاعر الطب القديم. ربما لا أحب مكتشف البنسلين “فيلمنج” بنفس القدر الحب الذي أكنه لقائمة طويلة من الأطباء المجهولين. هل تعرف ييلاباراجاداسوبيراو، مثلا؟

(2)

في 1817، وصف الطبيب الإنجليزي جميس باركنسون مرض الشلل الرعاش للمرة الأولى. فعرف المرض باسمه، وصار يوم ميلاده في الحادي عشر من أبريل يوما عالميا للتوعية بالمرض، وشعاره التوليب الأحمر.

بعد قرن بالتمام، 1917، وصف طبيب النفس والأعصاب النمساوي كونستانتينفراهر فون أكونومو (من أصل يوناني، ومولود في رومانيا) مرض التهاب الدماغ الخمولي الذي ظهر في أوروبا وأمريكا الشمالية كوباء بين 1915و 1926 (لم يربط أحد بين الوباء والحرب العالمية الأولى!!). أصاب المرض مليونا من الناس، مات نصفهم تقريبا، ومن بقي منهم في قيد الحياة، لم يعد إلى الحياة مرة أخرى.

بعد أربعين عاما (1957) ظهر الدوبامين كموصل عصبي في الدماغ. وفي العام 1968 نجح جورج كوتزياس، يوناني آخر، في استخدام الليفودوبا (L dopa) في علاج مرض باركينسون.

وفي العام التالي، كان أوليڤر ساكس طبيب أعصاب بمستشفى بيث ابراهام، برونكس، نيويورك. جرب الدواء على مرضى الشلل الرعاش ومرض التهاب الدماغ الخمولي. ووضع خبراته هذه في كتاب يقظات أو إيقاظات (Awakenings) (1973).

في 1990 تحولت ذكريات/ ايقاظات ساكس إلى فيلم. لعب روبرت دي نيرو دور المريض الخمولي، فرشح لجائزة الأوسكار، لكنه لم يفز به. أما روبن وليامز الذي لعب دور الطبيب في السينما خمس مرات. من بينها دور الطبيب مالكولم ساير أو أوليڤر ساكس، ففاز بالأوسكار عن دوره كطبيب نفسي في فيلم جود ويل هانتنج.

الغريب أن روبن وليامز أصيب في أخريات أيامه بمرض نادر: خرف أجسام ليوي المصاحب غالبا لمرض باركينسون أو الشلل الرعاش. يقال إنه قال لزوجته تصبحين على خير يا حبيبتي، دخل غرفته، لم يكن قطع شريانه كافيا، فشنق نفسه بالحزام. يغامرني الشك أحيانا أن خيارتنا في الحياة تلعب دورا في الطريقة التي نموت بها، مات كابتن جمعية الشعراء الموتى، فكتبت الصحافة: مات أطرف رجل عاش.

(3)

يفترض الناس، وربما الأطباء أيضا، أن الطب واحد.

وفي ظني، أو في ملتي واعتقادي كما يقول أبو العلاء، أن الناس في العالم القديم عبدوا آلهة كثيرين. ثم جمعوهم في إله واحد. وفي ظني أيضا، أن الطب الذي بدأ سحريا، ثم دينيا، كان متعددا كالآلهة، حتى جمعته الرأسمالية في كتاب واحد. ومثلما تقدم نفسها كطريقة للإنتاج عالمية الآفاق. قدمت للناس طبا واحد عالمي الآفاق أيضا، اسمه الآن الطب الغربي الحديث، وفي الكتب المتخصصة يسمونه الطب الأرثوذكسي، أو الطب المستقيم.

ومثلما استولت على خيرات الشعوب البعيدة، استولت على طب هذه الشعوب، أطلقت على الغنيمة اسم الطب البديل، كوصمة أو علامة على انخفاض القيمة، وعندما توحشت، ابتلعت البديل. لكنه لم يكن قابلا للهضم تماما فاعتبرته مكملا غذائيا يلجأ إليه وقت أو حسب الحاجة، وأطلقت عليه وصف الطب التكميلي.

الغريب أنها لم تؤمن أبدا أن الإنسان واحد. وعندما ينقسم الواحد على كثيرين، حسب اللون، والعرق، والطبقة، والنوع يحصل كل فريق على كسر عشري من الخدمة أو من الفرصة المستحقة للعلاج.

(4)

تعرّف القواميس والموسوعات الطب بأنه فن وعلم تشخيص الأمراض وعلاجها. لم يذكر التعريف الناس صراحة في متنه، لكن حضورهم ضمني، فنحن نشخص الأمراض التي تصيب الناس، ونعالج الناس من الأمراض التي تصيبهم. الأغرب من غياب الناس هو حضور كلمة الفن في التعريف. كأنها تضيف بعدا إنسانيا يفتقده العلم مثلا، أو رغبة أصيلة من صانعي القواميس في ضم القديم إلى الحديث. لكنهم يتناسون أن إيبوقراط عندما وصف الطب بأنه فن، أضاف له صفتين: الطويل والصعب، لكنه قال أيضا إنه يأتي في مؤخرة الفنون جميعا، لأن من يمارسونه لا يحسنون ممارسته.

أما الثقافة فمن الصعب الاستقرار على تعريف يرضي الجميع. فهناك من يرى أنها: نظام مشترك من القيم والمعتقدات وأنماط السلوك المكتسبة، ويمكن تطبيقه على المجموعات العرقية، والمجموعات الإقليمية، والمجموعات المهنية. وهناك من يعتقد أن الإنسان حيوان معلق في شبكات غزلها بنفسه، الثقافة هي تلك الشبكات، ويبدو أن هذه الشبكات هي نفسها النظام المشترك المغزول من القيم والمعتقدات وأنماط السلوك والعلامات. وبالتالي فإن تحليلها ليس علما تجريبيا يبحث عن القانون، بل عمل تفسيري يبحث عن المعنى.

**

الثقافة إذن لا تسبب السلوكيات أو الأحداث الاجتماعية، بل هي السياق الذي يمكن من خلاله وصف أو فهم تلك السلوكيات والأحداث. بصياغة أخرى تدور الثقافة حول الهوية أو ذات الفرد في علاقة مع جماعة. والجماعة هي شبكة من العلاقات تحيط بالذات. أن تكون جزءا من ثقافة يعني أن ترتبط بمجموعة من القصص مع آخرين، داخل سياق محدد، الثقافة هي السياق، المجمع التفسيري، أو دائرة الفكر بتعبير فتجنشتاين، أو العقل الجمعي بتعبير لودفيج فليك.

بهذا الفهم الذي يري الثقافة شبكة، والشبكة غزل من خيوط كثيرة، مليئة بالثقوب، يصبح تشخيص الأمراض وعلاجها -كعلاقة بين أفراد أو ذوات تجمعهما قصة عنوانها الألم أو الرغبة في الشفاء- خيط واحد في الغزل الكبير.

الطب إذن جزء من كل، فما الذي يحدث حين يتقاطع هذا الخيط مع باقي الخيوط في الشبكة. ما الذي يبقى عالقا ليس كسمكة سيئة الحظ بل كطالع حسن يعلي من قيمة الصياد. وما الذي يفر من الثقوب. أو ما الذي يحدث حين يتقاطع الطب مع اللون، والجنس، والنوع، والعرق.

***

 

في غرفة العمليات

لن تحتمل جبروت عينيه

ستضع عينيك في الأرض وأنت تعبره

حتى لا يراك

ربما تعتاده وهو يقول بصوت رخيم

لا شيء جديد

سيضع الدباسة التي تخيط الأمعاء بتكة واحدة

ويكلم نفسه

هذه أيضا حركة قديمة بأدوات جديدة

بعد أعوام كثيرة

ستكتشف – بين الحكمة والجبروت-

طابورا من النمل

يحمل ذرة واحدة من السكر

إلى بيت خرافي الممرات

تحت قشرة العالم

اقرأ أيضا:

لقاءات حزينة مع فكرة الناس عن الهوية

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر