طب الفراعنة | مبادئ الطب الشرعي عند المصريين القدماء

لم يتوقف تفوق المصريين القدماء في مجال الطب عند معرفة الأمراض ومعالجتها فقط، بل تعداه إلى دراسة وفهم أسباب الوفاة، فالمصري القديم وضع مبادئ الطب الشرعي أو ما يعرف بـ”طب الفراعنة”.
ويقول يوليوس جيار، في كتابه “الطب والتحنيط في عهد الفراعنة”، إن أحد أهم الدلائل على تفوق المصريين في ذلك المبحث؛ هو ما وجد في بعض المدونات الطبية والتي تعرضت إلى حالات الإجهاض المتعمد، واعتبرته جريمة توجب القصاص، والذي قد يصل إلى حد الإعدام خصوصا إذا ما ثبت أن شخصا ما قد تعرض بالأذى للأم الحامل، وأدى ذلك إلى إجهاض الحمل.

طب الفراعنة

ويشير جيار إلى أن قواعد الدفن في مصر القديمة اقتضت أن يتم الكشف على الجثة قبل التصريح بالدفن، وأن طبيبا حكوميا، يشبه إلى حد ما طبيب الصحة في وقتنا الحالي- كانت مهمته أن يفحص الجثة ويعاينها بالمعاينة الأولية، فإذا ثبت أن الوفاة طبيعية أو بسبب إصابات مرضية مزمنة أو حوادث عارضة، صرح بالدفن، أما في حالة الاشتباه في فعل إجرامي، كانت تحول الحالة إلى الطبيب الشرعي.

طبيب القانون

وكان مسمى الطبيب الشرعي في مصر القديمة “طبيب القانون”، وهم وبحسب  جيار، كانوا مجموعة من الكهنة المتخصصين في الطب الجنائي، كانت وظيفتهم تحديد السبب الجنائي للوفاة وإجراء التحريات اللازمة، وتضييق دائرة الاتهام على المشتبه بهم، وأخيرا تحرير تقرير مفصل عن الواقعة وسبب الوفاة والمتهمين، ورفع التقرير لهيئة القضاء والتي تقوم بدورها بتوقيع العقوبة المناسبة على المجرم.

يلمح جيار إلى أنه في الحالات التي كان يثبت فيها تورط نساء حوامل في جرائم قتل، كانت تقدم المعايير الإنسانية على إقامة العدل، إذ كانت تترك المرأة حتى تلد وترضع طفلها، وبعد الفطام كان يطبق عليها الجزاء العادل إما بالسجن أو الإعدام.

الطب في زمن الفراعنة

ويسوق برنوا اليو، في كتابه “الطب في زمن الفراعنة”، 3 حالات وفاة ملكية حدثت بفعل فاعل طبقا للمدونات الطبية التي ارتبطت بها، الحالة الأولى للملك سقن نرع الأسرة السابعة عشر (1560 ق.م)، والذي بحسب تقرير الطبيب الشرعي مات نتيجة ضرب رأسه بآله حديدية وطعنه بعنف عدة مرات، وهو الثابت تاريخيا من أن سقن نرع استشهد في معاركه ضد الهكسوس، والحالة الثانية للملك مرنبتاح من عصر الأسرة التاسعة عشر (1213-1203ق.م)، وهو المعروف بفرعون الخروج، الذي طارد بني إسرائيل  أثناء فرارهم خارج مصر.

مدونة طبية

وتشير المدونة الطبية الشارحة لأسباب موته، إلى أن مرنبتاح كان رجلا مسنا يعاني من تصلب في عظام الرقبة والعمود الفقري وكان بدينا بعض الشيء، وأنه مات متأثرا بعدة جروح وهي إصابات في عظام الجمجمة، وفقد جزء من جلد وعظم مقدمة القدم اليسرى وكسر في الترقوة وكسر في العنق. ويلمح  اليو إلى أن هذا التقرير المصاحب لوفاة مرنبتاح آثار دهشة العلماء حول وفاة مرنبتاح، لأنه بالتسليم بأن مرنبتاح هو فرعون الخروج فقد مات غرقا في مياه البحر، ولكن تشير إصابات الجروح أنه مات أثناء معركة، ليطرأ سؤالين كيف مات مرنبتاح؟ وكيف استطاع عجوز مسن شبه قعيد بسبب أمراض العظام أن يطارد شعب بني إسرائيل؟

مؤامرة

والحالة الثالثة التي يسوقها برنوا اليو، في كتابه “الطب في زمن الفراعنة”، هي حالة الملك رمسيس الثالث.. من الأسرة العشرين (1184-1153 ق.م).. التي عرفت بمؤامرة الحريم. إذ اشتركت زوجته  (تي) مع بعض حريم القصر والخدم في قتل الملك.. لتجلس ابنها الأمير “بنتاوور” على العرش.

وبحسب تقرير الوفاة، فقد كان رمسيس الثالث رجلا مسنا، يعاني من أمراض الشيخوخة.. وحدثت وفاته نتيجة قطع نافذ للرقبة من جهة الخلف.. ويلمح اليو إلى أن الأمر برمته حول فورا إلى رئيس القضاة.. الذي أمر بتحويل الملف إلى جهات التحقيق لتعقب الجناة والقصاص منهم. وسجلت إحدى البرديات نص ما وجه به القاضي الأجهزة المعاونة..

يورد برنوا منه الجزء التالي:
“أنا آمر القضاة قائلا أما بخصوص الكلام الذي يدور على ألسنة الناس فلا علم لي به، فاذهبوا وافحصوا الأمر.. فإذا حققتم وتبينتم المتهمين فأمروهم أن ينتحروا بأيديهم بدون إخطاري.. ووقعوا العقاب على كل من يستحق بدون استشارتي أيضا.. ولكن احترسوا من عقاب البريء، ها أنا ذا.. إذ أكرر لكم أن كل شخص ارتكب أو اشترك في هذه الجناية يجب أن ينال نصيبه من العقاب.. أنا أمين ومحروس إلى الأبد، لأنني ضمن الملوك العادلين أمام آمون رع ملك المعبودات وأمام أوزوريس حاكم الأزلية”.

الأزرق المصري

يشير الأثري حسن عوض، إلى أن بعض باحثي الآثار توصلوا إلى تركيبة مسحوق أزرق.. يسمى “الأزرق المصري”، أحد درجات اللون الأزرق واسمه الكيميائي “سيلكات نحاس الكالسيوم”.. وكان يصنع بخلط النطرون والنحاس والرمل وطحنهم وتعريضهم للحرارة العالية.

ويلمح عوض إلى أن الباحثين يعتقدون أن هذا المسحوق كان يستخدم كـ”عفار” يرش على الأرضيات والحوائط والأجسام لمعرفة البصمات، كما ثبت إمكانية أن يظهر هذا المسحوق تحت الأشعة تحت الحمراء، لافتا إلى أن الموضوع مازال قيد البحث والتحري، وفي حالة إثبات هذه النظرية يمكن القول إن القدماء المصريين كان لهم السبق في الطب الجنائي وعلم الأدلة الجنائية.
هوامش
1- الطب والتحنيط في عهد الفراعنة “بي دي إف” –  تأليف يوليوس جيار ولويس ريتر – تعريب أنطون ذكري –  مطبعة السعادة 1926 – من ص 93 إلى ص 96.
2- الطب في زمن الفراعنة “بي دي إف” – تأليف برونوا اليو – ترجمة كمال السيد المجلس الأعلى للثقافة 2004 – ص 170 إلى 172.

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر