«صنع الله إبراهيم» في الصحافة العالمية: كاتب لم يهادن

خيّم الحزن على الأوساط الثقافية العربية والعالمية برحيل الروائي المصري الكبير «صنع الله إبراهيم»، الذي غادر الحياة عن عمر ناهز 88 عامًا، تاركًا خلفه إرثًا أدبيًا فريدًا شكل مرآة للتحولات السياسية والاجتماعية في العالم العربي منذ أواخر القرن العشرين. ولا سيما في مصر.
لم يكن صنع الله إبراهيم مجرد كاتب روائي، بل كان «مؤرخ الظلم الاجتماعي» كما وصفته العديد من الصحف العالمية. و«الثائر الأدبي» الذي كسر الحواجز بين الوثيقة والسرد. ليُرسخ مكانته كأحد أبرز رموز الأدب العربي في حقبة ما بعد الاستعمار.
يستعرض «باب مصر» رثاء الصحف العالمية لصنع الله إبراهيم، الذي ترجمت كتاباته لأكثر من لغة، والاحتفاء بمسيرته الغزيرة. مع إعادة نشر مواقفه الجريئة، وكتاباته التي تجاوزت حدود الرواية لتتحول إلى أدوات لفهم تعقيدات الواقع العربي. وقد أجمع كثيرون على وصفه بالصوت الحر، الكاتب المُلتزم، والمثقف الذي لم يُساوم.
معارض هيمنة الغرب
نعى موقع قناة “فرانس 24” الفرنسية الروائي المصري الكبير صنع الله إبراهيم. ووصفه بأنه كان من أبرز الأصوات الأدبية المعارضة للقمع السياسي، والليبرالية الجديدة، وهيمنة الغرب على العالم العربي.
ولد إبراهيم في القاهرة عام 1937، وذاع صيته في مختلف أنحاء العالم العربي بوصفه “مؤرخًا للظلم الاجتماعي”. بفضل أسلوبه السردي الوثائقي المكثف، واستقلاله الفكري الواضح.
وأشار التقرير إلى أن أعماله تميزت بتداخل العوالم الشخصية والسياسية. ووثقت تحولات العالم العربي في مرحلة ما بعد الاستعمار، مع تركيز خاص على التجربة المصرية. وتعد روايته الأشهر “ذات” (1992) نموذجًا لذلك، إذ ترصد التحولات الاجتماعية والسياسية في مصر من ثورة 1952 وحتى حقبة الانفتاح والليبرالية في التسعينيات. من خلال سيرة امرأة مصرية عادية تنتمي إلى الطبقة المتوسطة.
تاريخ نضال
بدوره، نقل موقع “كولومبيا جورج نيوز” ما ورد في تقرير “فرانس 24″، مُذكّرًا بتاريخ إبراهيم النضالي. إذ تعرض للسجن لأول مرة في عام 1959 بسبب انتمائه اليساري خلال حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وهو ما شكّل بداية مسيرته ككاتب يساري لم يتنازل عن مواقفه حتى آخر أيامه.
وقد شكلت السنوات الخمس التي قضاها في السجن نقطة انطلاق لمسيرته الأدبية، إذ استوحى منها روايته الأولى “تلك الرائحة” التي نُشرت عام 1966. وواجهت الحظر بسبب جرأتها وتناولها المباشر للواقع السياسي والاجتماعي.
شهرة عالمية
تناول التقرير الشهرة العالمية التي نالها صنع الله إبراهيم، في الأوساط الثقافية العربية والعالمية. خاصة بعد ترجمة عدد من أعماله إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية.
كما أشار تقرير “كولومبيا جورج نيوز” إلى موقف إبراهيم في عام 2003، حين أثار جدلًا واسعًا برفضه جائزة ملتقى الرواية العربية التي كانت ستمنحها له وزارة الثقافة. في موقف اعتبر إشارة مباشرة إلى الممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية خلال انتفاضة الأقصى الثانية.
كتابات رمزية
من أبرز أعماله أيضًا رواية “اللجنة” (1981)، التي تُعد من أشهر كتاباته وأكثرها رمزية. إذ تنتمي إلى أدب الكابوس السياسي وتتناول بذكاء قمع البيروقراطية والمراقبة. أما “التلصص” (2007)، فهي عمل أقرب إلى السيرة الذاتية، يستعيد فيه الكاتب تفاصيل طفولته خلال الحرب العالمية الثانية.
مصر على مدار 50 عاما
كما نعت صحيفة “gliasinirivista” الإيطالية، صنع الله إبراهيم، من خلال إعادة نشر مقابلة أجريت معه في يونيو 2006 بالقاهرة، حيث استقبل “جوليانو باتيستون” في منزله. ونشرت المقابلة حينها في صحيفة “إل مانيفستو” بتاريخ 3 أغسطس 2006. إلى جانب مقابلات مع الكاتبين جمال الغيطاني وعلاء الأسواني.
وسأله المُحاوِر عمن يرغب في فهم التحولات التي أثّرت على الحياة السياسية والاجتماعية في مصر على مدى الخمسين عامًا الماضية. فأجاب: “في ذلك الوقت، كان لكل أمة “أب” للبلاد، رجل حكيم، أو على الأقل اعتبر نفسه كذلك: ديجول الفرنسي، وكينيدي الأمريكي، وستالين السوفيتي، وسوكارنو الإندونيسي، ونهرو وغاندي الهنديان، وكوامي نكروما الغاني. أما ناصر، الذي كان جنديًا، فكان رمزًا للمصريين ورمزًا للمقاومة والكفاح ضد الاحتلال الأجنبي. ويكمن إرثه في دفاعه عن الاستقلال الوطني واستعادته”.
مواقف سياسية
تطرق المحاور إلى سؤاله عن حكومة الرئيس محمد حسني مبارك، فأجاب إبراهيم: “بعد اغتيال السادات، ظنّ المصريون أن مبارك سيفي بوعوده. كان هذا الوهم قويًا”. واستشهد بموقف الأديب نجيب محفوظ، مبينا أنه رغم مكانته الأدبية الرفيعة، ظل موقفه من بعض القضايا محل جدل. خاصة حين يتعلق الأمر بحرية النشر والتعبير.
وأضاف في الحوار المُعاد نشره: “ظل محفوظ ـ وهو الأب الروحي لجيل كامل من الروائيين المصريين ـ يرفض السماح بنشر روايته المثيرة للجدل “أولاد حارتنا” داخل مصر ما لم تحصل على موافقة الأزهر. وهو ما يثير تساؤلات حول مدى استعداده للدفاع عن المساحة العلمانية في المجتمع. وعلى الرغم من إدراكه العميق لما جرى في مصر سياسيًا واجتماعيًا، فإن محفوظ لم يكن ممن يعلّقون على الأسباب علنًا. فالرجل الذي أمضى حياته موظفًا حكوميًا، احتفظ في مواقفه العامة بمسافة محسوبة من السلطة”.
رحيل أحد أعمدة العربي
تحت عنوان «صنع الله إبراهيم.. رحيل أحد أعمدة الأدب العربي ومؤرخ الظلم الاجتماعي»، نشر موقع “المونيتور” تقريرا عن مسيرة صنع الله إبراهيم. ووصف مسيرته الأدبية الحافلة بأنها تميزت بالنقد الحاد.
فيما أشار موقع “ذا فويس – صوت المغرب” إلى مسيرة الروائي المصري، واعتبر أنه “نجح في ترسيخ مكانته كأحد أبرز كتاب العالم العربي في حقبة ما بعد الاستعمار”. بعدما كسر الحواجز بفضل أسلوبه القريب من السرد الوثائقي. إذ ترجمت العديد من رواياته إلى الإنجليزية والفرنسية.
أديب يساري
«أثبت مؤلف رواية ذات نفسه كأحد أبرز الُكتاب النقديين في العالم العربي في فترة ما بعد الاستعمار»- هكذا نعت صحيفة “لوفيجارو” الفرنسية الأديب صنع الله إبراهيم.
وأشارت الصحيفة إلى الفترة التي قضاها في السجن بسبب معتقداته اليسارية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وتأثيرها على كتاباته وفكره الأدبي.
الثائر الخالد
في تقريرها باللغة الفرنسية، وصفت صحيفة “لوموند” صنع الله بـ”الثائر الخالد في الأدب العربي”. وجاء هذا الوصف نظرا لتركيز التقرير على فترة سجن الكاتب اليساري، التي أثرت على أدبه فوصف المجتمع المصري وعيوبه.
وجاء فيه: “ترك عمل صنع الله إبراهيم بصمةً على الأدب العربي، أسلوبًا وموضوعًا. فقد وثّق المجتمع المصري، وتجربة السجن، والمُثُل الثورية لليسار العربي في ستينيات القرن الماضي”.
طالب شيوعي
تأثر إبراهيم بنشأته في عائلة متوسطة الحال، وألهمته قصص الأديب الراحل نجيب محفوظ. وتتابع الصحيفة أن شخصيته الأدبية لم تتجسد خلف مكتب تقليدي، بل داخل سجن. فحين كان طالبا في كلية الحقوق بدأ حملة سرية للحركة الشيوعية. ما أدى إلى اعتقاله عام 1959 وقضائه خمس سنوات في السجن.
رمز للأدب المعاصر
وصفت مجلة “ماروك إيبدو” المغربية صنع الله إبراهيم بالكاتب المصري الكبير، وأحد أعمدة الأدب العربي. وأضاف التقرير أنه كان رمزًا من رموز الأدب المصري المعاصر. وترك بصمته من خلال قصصه الملتزمة التي جمعت بين التحليل الاجتماعي والنقد السياسي والتأمل في الحالة الإنسانية.
كما أشار إلى أن أعماله تميّزت بعمقها الفريد والتزامها الدائم بقضايا المجتمع والتاريخ، والتي بدورها جذبت انتباه أجيال عديدة من الكُتّاب العرب.
الصوت الحر
«الصوت الحر للأدب العربي» – بهذا الوصف نشر موقع “فرانس إنفو” تقريرا عن صنع الله إبراهيم بعد رحيله. ونعته بأنه كان كاتبًا ملتزمًا يتمتع بأسلوب تقريري راقٍ، وله مكانة كواحد من أبرز الأصوات النقدية. مستكشفًا بجرأة التوترات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في عصره.
ابن جيل الستينيات
لم يقتصر اهتمام الصحافة العالمية على رثائه باللغتين الإنجليزية والفرنسية فقط. بل نشرت العديد من المواقع والصحف الإسبانية تقارير مطولة عنه.
فقد كتب موقع “بيريوديستاس” الإسباني عن رحيل الكاتب المصري، تاركا إرثاً ثقافياً كبيراً على الساحة الأدبية العربية. ووصفته بأنه كان إنساناً متواضعاً، يسكن في شقة مساحتها 80 متراً مربعاً في الطابق السابع، في حي مصر الجديدة. وينتمي إلى ما يسمى بجيل الستينيات. وكان معروفًا بأسلوبه المميز في المزج بين السرد الوثائقي والروائي، وإدخال المقتطفات والتقارير الصحفية. وتناول قضايا المجتمع المصري والعربي بعمق ونقد لاذع.
مؤرخ الظلم الاجتماعي
أشار التقرير الإسباني أيضا إلى أن صنع الله إبراهيم كان مؤرخًا للظلم الاجتماعي. واشتهر بنثره الموجز وأسلوبه الوثائقي واستقلاليته الشديدة. وذكر أنه درس القانون، وانضم إلى الحركة الديمقراطية الماركسية للتحرر الوطني. ودرس السينما في برلين الشرقية والصحافة في موسكو. قبل أن يستقر بشكل دائم في القاهرة عام 1974 ليتفرغ للأدب. وكان عمله الأول، الرواية القصيرة “تلك الرائحة” (1966)، من أوائل الروايات في الأدب المصري ذات التوجهات الحداثية والواقعية. وقد أثارت جدلاً حاداً، ومنعت السلطات بيعها.
أما روايته “اللجنة” (1981)، وهي نصٌّ يليق بكافكا. حيث يتوق بطلها للانضمام إلى منظمةٍ غامضة، ويخضع مرارًا وتكرارًا لتحقيقاتٍ في ماضيه، علامةً فارقةً في الأدب العربي الحديث. حتى أن الكاتب الفرنسي “توماس أزويلوس” حوّلها إلى روايةٍ مصورة عام 2016.
أديب ملهم
أشارت الصحيفة الاسبانية إلى أن صنع الله إبراهيم كان من أهم الأصوات الأدبية التي أثرت على أجيال متعاقبة من الأدباء. إذ ترك بصمة واضحة على المشهد الثقافي العربي بكتاباته الجريئة والعميقة.
كما استلهم أجيال من الكتاب العرب أسلوبه البسيط، المحمل بالسخرية والمتجذر في الحياة اليومية. وقد ترجمت العديد من أعماله إلى اللغة الإنجليزية منذ عام 1971، وإلى اللغة الفرنسية منذ عام 1987.
مؤرخ أدبي لعصره!
كذلك نشرت صحيفة ” لافوز دي جاليثيا” الاسبانية تقريرا آخر، وصفته فيه بأنه لم يترك وراءه مسيرة أدبية امتدت لأكثر من خمسة عقود فقط. بل إرثًا إنسانيًا جعله من أبرز الشخصيات المؤثرة في الحركة الأدبية العربية المعاصرة. ورأت فيه أحد أهم روائيي القرن العشرين في العالم العربي، ورائدًا في فتح آفاق جديدة للنقد الاجتماعي من خلال أسلوب سردي مبتكر وواقعي للغاية.
كما أشارت إلى أنه بعد تخرجه في كلية الآداب بجامعة القاهرة، أصبح شخصية محورية في الأدب العربي، لالتزامه بالقضايا الإنسانية وتصويره الدقيق للواقع المصري والعربي. وقدرته على توثيق الأحداث التاريخية والاجتماعية والسياسية المهمة من خلال الأدب. وقدّمت أعماله رؤية فريدة لحياته الشخصية، مما جعله مؤرخًا أدبيًا لعصره.
عمل غزير الإنتاج
من أبرز رواياته: رواية “شرف” التي تناولت قضايا اجتماعية وتعتبر ثالث أفضل رواية عربية في التاريخ. و”ذات” التي رصدت التحولات الاجتماعية من خلال وثائق شخصية. و”نجمة آب” و”بيروت” و”النيل: مآسي” و”وردة” و”العمامة والقبعة”. وترجمت العديد من هذه الأعمال إلى الإسبانية، مثل “الخارج عن القانون” و”اللجنة” و”اللون الأحمر” التي يتجلى فيها أسلوبه النقدي. ويعكس بصدق ظروف المعيشة في شوارع العالم العربي.
وقد لعبت الفلسفة دورًا محوريًا في أعماله، لا سيما فيما يتعلق بمفاهيم الحرية والهوية والعدالة الاجتماعية. فلم يكن إبراهيم مجرد كاتب، بل كان أيضًا مفكرًا اجتماعيًا ومؤرخًا لعصره. وأصبحت نصوصه أداة أساسية لفهم التعقيدات السياسية والثقافية والاجتماعية لمصر الحديثة والعالم العربي عمومًا. ولا تزال أعماله مراجع أساسية لمن يسعى لفهم التطور التاريخي والثقافي للشرق الأوسط.
اقرأ أيضا:
مُترجمو كتابات صنع الله إبراهيم: تأثر بـ«همنجواي» وتحرر من رهبة «النص الأصلي»