صلاح جاهين: أحوال مصر في رسومات وقصائد

عشق صلاح جاهين مبنى روز اليوسف القديم في شارع محمد سعيد.  وكان للمبنى بوابة ضخمة يعلوها قوس من الحديد والبوابة لها قفل ثقيل الوزن، كما أحبّ السلالم الرخامية المتآكلة من صعود الأقدام وهبوطها عليها. كان المبنى به صالة واسعة تحيط بها الغرف وكان دائما يقول إن هذا المكان يشبه السامر. كان يشعر بأن كل شخص في غرفته يقوم بأعمال بهلوانية خاصة به، كان المكان بالنسبة له مثل سوق عكاظ.

في هذا المبني تعرف صلاح جاهين على “صباح الخير” ومن عملوا بها، وفي صباح الخير تعرف على كل المحررين وعلى رأسهم أحمد بهاء الدين وبدأ في نشر رسوماته في الصفحة التي كان يكتبها بهاء وفي تلك الفترة تعرف أيضا على فتحي غانم وبهجت ورجائي وحجازي وعرف جمال كامل من خلال كلية الفنون الجميلة وشاهد عند بهاء شابا أسمر قال له بهاء إنه من الطليعة الصحفية وأنه خريج جامعة أميريكية قسم صحافة وكان هذا الشاب هو لويس جريس.

وعندما انتقلت روزاليوسف من المبنى القديم إلى المبنى الجديد قال جاهين: وجدت ممرات ضيقة وغرفا منفصلة عن بعضها ولم أجد الجرن الذي كان موجودا في المبني القديم والذي يلتف حوله كل الناس، كان صلاح جاهين يرى أن سمة صباح الخير الأساسية هي عدم وجود الصور الفوتوغرافية بها وهذا ما يميزها عن باقي المجلات حتى أنه كان يقول: “من أول لحظة لم تكن هناك منافسة حقيقية بيننا وبين أي مجلة أخرى لأن صباح الخير لها قراء والمجلات الأخرى لها قراء آخرون، فأنا لم أر في حياتي طالبا يقرأ المصور أو آخر ساعة لكن ما أعرفه أن الطلاب يقرأون صباح الخير، لم أر كذلك في أي دكان حلاقة مجلة صباح الخير وأنما كانت هناك دائما مجلات أخرى لأن الزبائن هناك دائما يحبون أن يشاهدوا الصور الموجودة فيها”.

ناوين يعملوها

وعندما أصبح رئيسا لتحرير المجلة أعلنها صراحة بخفة دمه المعهودة: “استولى الرسامون الكاريكاتوريون ومن لف لفهم على مجلة صباح الخير وأظنك كنت ملاحظا منذ البداية بما لديك من الفراسة والدراية أن هؤلاء الناس ناوين يعملوها”.
وكانت هذه رسالة صلاح جاهين منذ بدأ عمله في صباح الخير عام 1956 وهي طرح التساؤلات، كيف نعيش وكيف نتعلم وكيف نحصل على العمل وكيف نكتسب الثقافة وكيف تكون علاقتنا مع الأجيال السابقة وكيف نحب؟.

فعندما يضع صلاح جاهين صورة ليلى وقيس نجده يثير مشكلة البنت التي تعلمت وتطبعت بأخلاق هذا العصر عندما تواجه شابا ما زال متأثرا بالتقاليد القديمة فكان كل موقف بين قيس وليلى هو موقف بين عقليتين متعارضتين مما نجده تفتيشا في المجتمع الذي تتناقض فيه القيم والأخلاق وكذلك صور نادي العراة كشف فيها حقيقة أن تطور المجتمع يحدث فقط في الظاهر، فها هم جميع أبطال نادي العراة قد تجردوا  من ملابسهم وأصبحوا عراة ومع ذلك تجد عقلياتهم ما زالت هي هي لم تتخل عن تقاليدهم القديمة والمرأة العارية ما زالت تقول لصديقتها: “أنا كنت مش لابسة امبارح فستان جميل جدا”. فهي ما زالت تفكر في الفساتين والمظاهر الخارجية.

لم تكن رسوماته لمجرد التسلية أو البحث عن نكتة، وإنما كانت تحمل فلسفة عميقة. من أمثلة ذلك  رسوماته فى  مجلة صباح الخير على صفحتين تحت عنوان “صباح الخير يا…… ” فكانت تناقش في كل عدد ظاهرة وقضية عامة وكثيرا ما كان يضم في تلك النافذة مقولات نثرية أو مقاطع شعرية كانت طازجة في حينها وجمعها فيما بعد، فمعظم ما ورد في ديوان “قصاقيص ورق” كان مقطوعات شعرية نشرها للمرة الأولى في نافذته “صباح الخير يا… “.

دفتر أحوال

في هذا الباب، ناقش جاهين مشاكل أفلام السينما في صباح الخير يا أفلام الموسم، ومشكلات وتطلعات الفتاة الجامعية في صباح الخير يا بنات الجامعة وجمهور كرة القدم في صباح الخير يا غواة الكرة ومشكلات المستشفيات الحكومية وما بها من إهمال في صباح الخير يا مستشفيات البلد وكذلك ظاهرة الانتحار وقد رسم نفسه عام 1958  وهو يحاول أن ينتحر.

كما ناقش في نفس النافذة ظواهر أخرى كالمخدرات والمرور والتماثيل التي في الميادين وتطرق إلى التنافس بين روسيا وأمريكا وإلى بعض المهن مثل الصحافة والطب والتدريس فكان باب “صباح الخير يا…. ” بمثابة دفتر أحوال للمجتمع المصري آنذاك فهو قد مزج فيه بكل مواهبه من شعر ونثر وكاريكاتير.

ولم يكتف صلاح جاهين بالرسم فقط فقد ابتكر شخصيات مثل شخصية المليونير “ع. عليوة” أو علي عليوة هذا الإسم الذي ظل مدة طويلة مادة خصبة للكتابة والسخرية من كافة كتّاب المجلة فــ “ع. عليوة” يمثل كل شخصية وصولية انتهازية جمعت ثروة وشهرة من خلال طرق غير مشروعة يؤخذ رأيه في المجلات وعلى صفحات الجرائد في الأمور العامة والمشاكل السياسية والاجتماعية، فكتب عنه صلاح جاهين ذات مرة: “رجل عيونه مبعجرة وأنفه مكعبرة وجيبه ضيق وحواجبه مثل الضربة.. هذا الرجل شخصية مشهورة!! وما الذي شهره؟ هل هى صفاته؟ هل هي قدرته وذكاؤه ودرايته؟ أنها الدعاية الرخيصة وشراء الأقلام والدعوات الخاصة في الكباريه إياه والحفلات الصاخبة والليالي الحمراء التي يتيحها لمن يطبلون له ويزمرون. سيقول البعض أني حاقد أو إني فاشل لم أحظ بعطفه ورعايته وأن ما أكتبه عنه كلام موتورين حاقدين حاسدين ولكن لا يهمني سأستمر وليكن بعد ذلك ما يكون”.

ومن الطرائف وقتها أن كل من أسمهم “علي عليوة” أرسلوا لصباح الخير يصرخون ولسان حال كل منهم يقول الناس تظن أنكم تتحدثون عني أنا.

الرحالة المغامر

وفي عام 1960 يسافر صلاح جاهين في رحلة إلى سوريا ولبنان ومن هناك يرسل ملحمة نثرية كاريكاتورية مبدعة عن أدب الرحلات بطريقته الخاصة فيكتب “الرحالة المغامر صلاح جاهين يكتشف مدينة ساحرة اسمها دمشق” ويكتب بالرسم والنثر ما الذي اكتشفه في سوريا فيكتب عن سوق الحميدية وعن الأكلات السورية وعن ضواحي دمشق وآثارها ومعالمها المختلفة، ثم يكتب مرة أخرى عن الرحالة المغامر وهو يكتشف مدينة اسمها بيروت ويتحدث عن شوارعها ومعالمها ومصايفها وكازينوهات بيروت وكذلك عن زيارته للفنانة فيروز وفي نهاية رحلته يكتب: “ودعت بيروت.. حاولت أن أركب الترام عائدا ولما كنت حرفوشا وليس في الترام مكان مخصص للحرافيش كغيرهم من الأصناف فقد فضلت العودة ماشيا من بلاد الله لخلق الله.. بلد تشيلني وبلد تحطني”.

موجات الارتداد

وينتقل صلاح جاهين إلى الأهرام عام 1962 وتحديدا في 17 مارس 1962 وتنشر الأهرام على صفحتها الأولى: “صلاح جاهين ينضم إلى أسرة الأهرام” وجاء في تفاصيل الخبر: “أن الأهرام سيبدأ في تقديم خدمة جديدة للقارئ بالرسم الكاريكاتوري الذي سيأخذ دوره على صفحات الأهرام إلى جانب الخبر والصورة والمقال مع انضمام رسام الكاريكاتير صلاح جاهين إلى أسرة الصحيفة” ، وبين أول رسمة في الأهرام وآخر رسمة أربعة وعشرين عاما خاض فيها معارك عدة بدأت من أول عام انضم فيه للأهرام حتى وفاته عام 1986 وناقش أيضا عبر رسوماته كافة قضايا ومشاكل المجتمع من الستينات للسبعينات حتى منتصف الثمانينات وعاصر وعانى من اختلاف السياسات المختلفة وتقلب الأوضاع السياسية في الدولة.

وقد حكى فى حوار معه عن هذه التحولات: “عندما عاد مصطفى أمين وعلي أمين وأحمد أبوالفتح إلى الحياة السياسية وبعد إقالة هيكل وتولي علي أمين مسؤلية مدير تحرير الأهرام تم استدعائي لمكتبه فدخلت إلى مكتب علي أمين فوجدت أركان حرب جريدة أخبار اليوم جالسين مصطفى أمين وأحمد أبوالفتح وكان الكاريكاتير الذي رسمته في هذا اليوم يعلق على خبر يقول استعداد نيكسون لدفع تعويضات لبناء مدن القناة وهو– نيكسون- يخاطب أحد المدن قائلا” هو احنا تايهين عن مدن القناة.. داحنا اللي مكسرينها “ويرد مصطفى أمين قائلا: من الذي هدم مدن القناة يا صلاح؟ الأمريكان ولا عبد الناصر؟” ويقول أبوالفتح: “نصبح عبيدا للأمريكان بضع سنوات أفضل من أن نكون عبيدا لروسيا”.

وكانت هذه أولى مراحل أرهاق صلاح جاهين النفسية فهو لم يستطع أن يقول أو يرسم أو يعبر عن شيئا بحرية قبل أن يعرضه عليهم وأدرك حينها أن موجات الإرتداد عاتية وستكتسح كل شيء يقف في طريقها. فكانت بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير.

اقرأ أيضا:

حكاية رباعيات صلاح جاهين التي أغضبت «مباحث الصحافة»

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر