شيخ عازفي السمسمية بالإسماعيلية: نحارب من أجل ألا تموت أصوات القنال

في أحد شوارع الإسماعيلية النابضة بالحياة، شارع عبد الحكيم عامر، وعلى أحد مقاهي المنطقة الشهيرة «قهوة أبو صباع»، التقينا بالريس «طارق السني»، أحد أقدم وأبرز العازفين على آلة السمسمية، تلك الآلة الموسيقية التي لا تحمل فقط نغمات وأغاني جميلة، بل تختزن بين أوتارها تاريخًا من المقاومة، والشجن، والفرح الشعبي، وجذورًا ضاربة في عمق الحضارة المصرية القديمة.
وفي هذا الحوار الممتد، يأخذنا السني في رحلة زمنية تبدأ من معابد الكرنك، مرورًا بفترة الاحتلال الإنجليزي، وصولا إلى حاضرٍ يحاول فيه وأبناء جيله إنقاذ هذه الآلة من الانقراض، وسط غياب تام لأي دعم.
-
بداية.. ما أصل آلة السمسمية؟
السمسمية، باسمها الحالي، هي نتاج تطور له جذور عميقة. فأصلها في التاريخ القريب هو آلة تدعى “الطنبورة“، وهي كبيرة الحجم وقد جاءت من السودان. أما في التاريخ القديم، فتمتد جذورها إلى الحضارة الفرعونية. وأعتقد أن كثيرين لا يعرفون أن النقوش القديمة في معابد مثل الكرنك والأقصر تظهر نسخًا بدائية من السمسمية. كانت تستخدم في الطقوس الدينية، وكان لها شكل يشبه القيثارة. ومع مرور الزمن واختلاط الثقافات، تحولت إلى الطنبورة، ثم لاحقًا تطورت في مصر إلى الشكل الحالي وأصبحت تسمى “السمسمية”. ويقال إن الاسم مشتق من كلمة “مسمسمة” باللهجة المصرية، أي صغيرة وخفيفة ومليئة بالنغم.
-
مما تصنع آلة السمسمية؟ وهل تدخل فيها خامات خاصة؟
السمسمية مرآة للبساطة الشعبية المصرية، وتصنع أساسا من الخشب الطبيعي، وغالبًا ما يستخدم خشب الزان أو الصنوبر لصنع هيكلها الرئيسي، لكونهما خفيفين وقويين في آن واحد. أما الأوتار، ففي الماضي كانت تصنع من شعر الخيل أو من خيوط معدنية بدائية، واليوم تُستخدم أسلاك معدنية رفيعة كتلك المستخدمة في الجيتار. ويغطى وجه السمسمية (السطح الذي تخرج منه النغمات) أحيانا بجلد رقيق ليمنح صوتًا أكثر دفئًا. أما زخرفتها، فهي تتم يدويًا، وغالبًا ما يضع الصانع لمسته الخاصة لتكون كل آلة فريدة من نوعها، كأنها قطعة فنية تنطق بروح صانعها.

-
متى بدأت السمسمية فعليًا الانتشار في مصر؟ وهل ارتبطت بلحظات تاريخية معينة؟
انتشرت السمسمية بشكل كبير في مدن القناة وقت حفر قناة السويس، حيث كان العمال المصريون يصطحبونها معهم في استراحاتهم بين فترات العمل. كانت ملاذهم الوحيد للترفيه وسط المعاناة. لكنها لم تكن آلة للتسلية فقط، ففي فترة الاحتلال الإنجليزي لمصر، تحولت السمسمية إلى سلاح فني، وكانت تغنى على أوتارها أغاني المقاومة الشعبية في السويس وبورسعيد والإسماعيلية، تحث الشعب والجنود على الصمود. «كانت تعزف للحرية وللوطن وللكرامة». ولا أبالغ إن قلت إنها آلة المقاومة الأولى في مدن القناة.
-
هل تختلف السمسمية من مدينة لأخرى في شكلها أو عدد أوتارها؟ وما الذي يميز الإسماعيلية عن غيرها؟
بكل تأكيد. في الإسماعيلية، تكون السمسمية غالبًا ذات خمسة أوتار أو ستة، وهذا الشكل هو الأكثر شيوعًا. أما في بورسعيد، فقد تجدها بسبعة أوتار، وأحيانًا تصل إلى 10 أو أكثر، حسب ذوق الصانع والعازف. الشكل الخارجي لا يختلف كثيرا، ولكن تحاول كل مدينة أو فرقة أن تطوع السمسمية بما يتناسب مع بيئتها ونمطها الفني. ومع ذلك، تظل السمسمية روحًا واحدة بأجساد متعددة.
-
من هم أبرز العازفين على آلة السمسمية الذين كان لهم أثر كبير في مسيرتها الفنية؟ وما هي أهم الأغاني؟
هناك أسماء لامعة لا يمكن أن تنسى، فقد ساهم عدد من الفنانين الموهوبين في حفظ هذا التراث ونقله عبر الأجيال، خاصة في الإسماعيلية. من بينهم: الفنان إبراهيم العتملي، والفنان فوزي الجمل، وموسى بركة، وسيد مصطفى، والريس الوزيري. كل واحد منهم كانت له بصمته الخاصة وأسلوبه المميز في العزف والتلحين. وقد شكلوا مجتمعًا فنيًا متماسكًا كان له الفضل في استمرار السمسمية إلى يومنا هذا.
أما الأغاني، فهناك أعمال لا تزال حاضرة في ذاكرة الجمهور وتطلب كثيرًا في المناسبات، مثل: «غصن الحبيب»، و«يا بنت حساني أبوكي وصاني»، و«مولد في مدينة طنطا». هذه الأعمال ليست مجرد أغان، بل قصص مغناة تعبر عن مشاعر الناس وأفراحهم وتقاليدهم، وكلها رويت على أوتار السمسمية، التي كانت دائمًا صوت الشعب والوجدان.
-
كيف يتم تناقل هذا الفن بين الأجيال؟ وهل توجد مؤسسات أو مراكز تعلم هذا الفن؟
للأسف، لا توجد معاهد أو مدارس متخصصة في تعليم السمسمية. نعتمد فقط على التناقل الشفهي، حيث نتوارثها أبًا عن جد، من جلسة على مقهى إلى سهرة على شاطئ القناة، من يد إلى يد، ومن قلب لقلب. وهذا أمر يقلقني جدًا، لأن الجيل الجديد محاصر بموجات موسيقية حديثة تلهيه عن تراثه، مثل المهرجانات الشعبية الحديثة.
-
كيف يمكننا الحفاظ على آلة السمسمية وتعليمها للأجيال الجديدة؟
هذا هو التحدي الأكبر، الحفاظ على السمسمية لا يكون فقط بالحفاظ على شكلها، بل بروحها. وأول خطوة نحتاجها هي التوثيق، سواء عبر تسجيلات صوتية ومرئية للعازفين القدامى -وهذا ما نفعله في فرقتنا «الصحبجية»- أو من خلال كتابات تؤرّخ للآلة وتشرح طرق صناعتها وعزفها. كما نحتاج إلى إدماجها في الأنشطة المدرسية، لا سيما في مدن القناة، ويستحسن إدراجها ضمن مناهج التربية الموسيقية إذا أمكن. ويمكن دعم ورش عمل ميدانية يشارك فيها الأطفال ويتعلمونها عمليًا.
أما المراكز الثقافية، فيمكنها أن تلعب دورًا محوريًا إذا خصّصت ركنّا ثابتًا لها ضمن أنشطتها. كذلك الإنترنت وسيلة قوية يمكننا استغلالها في إنشاء قنوات تعليمية على يوتيوب، وصفحات تعرف الشباب بهذا التراث، وتجعله جزءًا من هويتهم، بدل أن يبقى حبيس الذاكرة.
-
هل تلقيتم أي دعم من وزارة الثقافة؟ أو هل تم إدراج السمسمية ضمن جهود الحفاظ على التراث؟
للأسف، لا توجد أي جهود ملموسة من وزارة الثقافة لدعمنا. نحن وحدنا نحارب على جبهتين: جبهة الحفاظ على التراث، وجبهة مواجهة الإهمال. لكن، ورغم هذا التهميش، فقد تم اعتماد السمسمية رسميًا من قبل منظمة «اليونسكو» كواحدة من عناصر التراث الثقافي، وهذا اعتراف دولي مهم، لكنه لم يترجم إلى دعم فعلي على أرض الواقع.
-
هل هناك إقبال من الزوار على حفلات السمسمية الخاصة بكم في هذا المقهى أو غيرة من الأماكن؟
بكل فخر، نعم. وهذا يمثل دعما نفسيا كبيرا لنا. نستقبل زوارًا من مختلف محافظات مصر، بل ومن دول عربية وأجنبية أيضًا. يأتون من أجل مشاهدة هذه الآلة، وسماع نغماتها المميزة، والتقاط الصور، والتفاعل مع الأغاني الشعبية. وهناك من يأتي خصيصًا من أوروبا أو من دول الخليج، بحثًا عن تجربة ثقافية أصيلة.
-
ما الذي تتمناه للسمسمية وللفن الشعبي المصري؟
أتمنى، بالإضافة إلى ما ذكرته سابقًا، إنشاء معهد قومي لتعليم السمسمية، ينقذ هذا الفن من الضياع ويخرج جيلاً جديدًا من العازفين. كما أتمنى أن يتم إدماجها في المهرجانات الكبرى والمناسبات الوطنية، فهي آلة مصرية أصيلة تستحق كل احتفاء. وأتمنى فقط أن يرى المسؤولون أننا لا نعزف من أجل الشهرة أو المال، بل من أجل الوطن والهواية.
أصوات القنال لا تزال تتردد
هكذا كان لقاؤنا مع طارق السني، شيخ عازفي السمسمية في الإسماعيلية وفرقته «الصحبجية»، الذين لا يحملون في صدرهم سوى حب صادق لهذا الوطن والمدينة، ولتراثهم الذي يسكن أوتار آلة صغيرة في حجمها، عظيمة في معناها، ومقدسة في قلوبهم.
السمسمية ليست مجرد آلة موسيقية، بل هي ضمير حي، يغني حين يعجز اللسان، ويصرخ حين يكمم الصوت، ويقاوم حين يخيم الظلم، وينير الطريق حين يحل ظلام المغتصبين.