«شبرا والإسكندرية»: تاريخ تشابه المدينتين من استقبال المهاجرين لظهور السلفية

في كتابه «شبرا.. إسكندرية صغيرة في القاهرة» يكشف المؤرخ المصري د. محمد عفيفي أوجه التشابه بين عروس البحر المتوسط وحي شبرا، عبر سرد تاريخ المدينة من خلال تجربة ذاتية امتزجت بمعلومات ووثائق تاريخية.

تجربة غير تقليدية

يأتي حديث دكتور محمد عفيفي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب، جامعة القاهرة، عن هذا الكتاب، خلال استضافته عبر مناقشة أدارتها د. سلمى مبارك، ضمن برنامج كتابة المدينة في الأدب والفنون، عن شبكة آمون للباحثين في الأدب والسينما.

اصطحب الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للثقافة، القراء في نزهة بمنطقة شبرا تنطلق عبر أحداث كتاب «شبرا.. إسكندرية صغيرة في القاهرة». والذي يعتبر شكلًا مغايرًا للكتابة التاريخية نظرا لأنه يتسم بالاقتراب من القارئ العادي ولكن بتوجه جذاب ذو موضوعات قد تبدو خارج الأشكال الرسمية للكتابة التاريخية لكنها أساس تأريخ للمدينة.

يتسم الكتاب كغيره من كتابات د. محمد عفيفي، باللجوء إلى مصادر غير تقليدية لكتابة التاريخ. مع المزج بين السرد التاريخي وأشكال أخرى من الكتابة. وعلى حد وصف د. سلمى مبارك، كان قد عمل في أعماله الروائية في المنطقة البينية للتاريخ ومناطق أخرى مثل الأدب والسينما والموسيقى والفلكلور ليخلق مزجا فريدا من الخيال الذاتي والكتابة التأريخية.

شبرا تجربة ذاتية

تتنوع عناوين الفصول بتنوع المدينة نفسها، ومن بينها مدارس شبرا، شبرا تجربة صحفية مثيرة، شبرا حي الفن، تنظيم سري في شبرا، جبهة الأحرار الديموقراطيين، أحمد حلمي الصحفي والشارع. ويتضح في صفحاته مجموعة من الشهادات عن شبرا وصور فوتوغرافية تقدم شكلا مختلفا للكتابة التاريخية.

وعن سبب اختيار حي شبرا، يرجع إلى أنه الحي الذي ولد فيه ووالده وجده منذ أن هجر الريف في عشرينات القرن الماضي بسبب الأزمة الاقتصادية. واستقرت هذه الأجيال في شبرا وانقطعت الصلة بالريف.

بالإضافة إلى أن شبرا يعد أكبر توسع وامتداد لمدينة القاهرة في النصف الأول من القرن العشرين. سواء من ناحية المكان والجغرافيا أو من ناحية السكان. وعن تطورها كانت قديما تُسمى بـ”جزيرة بدران” وارتبطت كحي بشقة محمد علي وقصره. ثم جاء تنفس وتوسع القاهرة تجاه الشمال. لأنه في هذا الوقت لم يحب المصريين التوسع في الصحراء والجبل.

كذلك كانت العديد من المناطق الأخرى في القاهرة معزولة مثل المقطم، الذي ظل مهجورا حتى وقت قريب. والصحراء أيضا حول القاهرة ظلت بدون سكان حتى الوقت الذي نفذ فيه البارون إمبان حي مصر الجديدة. وقالوا عنه حينها إنه مجنونا لتوسعه في الصحراء. وحينها كانت شبرا موجودة وفاق عدد سكانها مصر الجديدة رغم أنها نجحت كحي جديد.

شُبرا.. إسكندرية صغيرة في القاهرة للدكتور محمد عفيفي
شبرا حي المهاجرين

اختيار شبرا لسرد تاريخها، يرجع إلى أنها أيضا توصف بـ”حي المهاجرين بامتياز” واستقبلت وفودا من كل الفئات والجنسيات والأديان. فهي حي المهاجرين المسلمين من الدلتا والمسيحيين من الصعيد. وسكان أهل الشام من الساحل الشرقي للبحر المتوسط وسكان جنوب البحر المتوسط بصفة خاصة، واليونانيين والإيطاليين.

وفي رأيه أن هذه الهجرة ساهمت في تشكيل الثقافة المختلفة للحي. وعن سبب تسمية شبرا “إسكندرية صغيرة” يرجع إلى أنه الحي الذي اختلطت فيه الأجناس والأديان. واختلط فيه المصريين بكل الأديان ومن كل الأماكن، وقدرة الحي الدائمة على استقبال المهاجرين وتكيفهم معه.

ويستكمل: “شبرا حي الفن، يوجد به مسارح روض الفرج ويشبه الإسكندرية بسبب مسارح الإسكندرية. ومثلما دخلت السينما مصر عن طريق الإسكندرية، دخلت القاهرة أيضا عن طريق شبرا سواء من خلال أجانب شبرا وتحويل المقاهي إلى قاعات عرض سينما قبل ثورة 1919. ثم تدشين استوديو محمد بيومي باعتباره أول استوديو سينما مصرية في شبرا”.

ثم توالى ظهور دور السينما التي أصبحت شهيرة ومؤثرة للأجيال التالية. وتوصل إليها المؤرخ من خلال البحث في مذكرات المشاهير، ومن بينها سينما “دوللي” أو “الأمير” وغيرها من دور السينما منها ما زال موجودا ومنها ما اختفى.

اقرأ أيضا| «جراج» على النيل واقتلاع الأشجار.. ماذا يحدث في حي الزمالك؟

دراسة غير تقليدية

كذلك يعد حي شبرا حي الطبقة الوسطى، ومن بين المراجع التي لجأ إليها هي المدارس في حي شبرا والتي كانت شاهدة على دراسة العديد من المشاهير في مجالات متنوعة في طفولتهم. ويقول: “يجب أن نرى في هذا الوقت دور مدارس شبرا ومن درس بها وأصبح مؤثرا لاحقا في الثقافة والفن”.

كذلك دراسة تطور المدارس التاريخية في شبرا. ومن بينها مدرسة التوفيقية التي كانت قصر سعيد باشا وكان يوجد بها حمام سباحة لكن تم تدميره وإزالة الواجهة الرئيسية الخاصة بها وتحول شكله للأسوأ. وقصر الأمير طوسون الذي أصبح مدرسة شبرا الثانوية لاحقا خلال العهد الملكي بعدما تبرعوا به في العشرينات ولم يكن التبرع تأثير ثورة يوليو.

وعلى سبيل المثال، درس بمدرسة التوفيقية المخرج وأستاذ السينما سمير سيف، وأسامة الغزالة وعثمان وزير التخطيط لاحقا وكانوا معا في فصل وسنة دراسية واحدة. ثم تطرق للشخصيات الفنية من حي شبر. ومن بينهم ماري منيب المهاجرة من لبنان والتي أصبحت أشهر نموذج للحماة في السينما المصرية.

بالإضافة إلى رموز أخرى تؤكد أن شبرا حي السينما والفن، مثل هنري بركات من أصول شامية والمولود في شبرا بجزيرة بدران، وداليدا بنت شبرا أشهر مطربة في النصف الثاني من القرن العشرين في أوروبا، وأصبحت ملكة جمال مصر عام 1954. ودليل آخر على أن شبرا متنوعة مثل الإسكندرية وجود مدارس أجنبية سابقا، بجنسيات متعددة مثل الفرنسية والإيطالية، وأندية مثل نادي إسكو الذي كان نادي الجالية اليونانية سابقا.

حي شبرا قديما
شبرا والإسكندرية

لكن شبرا الحي الغريب يتغير بعد عام 1967 عندما شهدت فترة السبعينات موجات من الهجرة من الريف والتي على حد وصفه أضاعت شبرا للسلفية. وبعدما كانت رمزا للوحدة الوطنية والكوزومبولتانية، تتحول فجأة إلى السلفية ويظهر منها رموز إخوانية. وتتغير شبرا بشكل كبير جدا مع خروج الأجانب والأقباط ومع دخول موجة سلفية لعبت دورا بجانب المتغيرات العامة للمدينة.

حاول أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر دراسة أقرب حي للإسكندرية. لأنه حي الهجرات ومفتوح على النيل مثلما تطل الإسكندرية على البحر وحي الجميع. وفي نفس الوقت تحول إلى السلفية مثلما تحول الإسكندرية أيضا للسلفية.

ويقول صاحب رواية “يعقوب”: “درست شبرا مع تاريخ القاهرة وتوسعها وأدرس تاريخ مصر وتحولاته، وتحولات شرق البحر المتوسط كله. مثل الجالية الإيطالية التي كانت موجودة بقوة في شبرا لدرجة أنه أيام موسوليني كان الشباب الإيطالي في شبرا معجبا جدا به وتزين بالزى الفاشي ونفذ استعراضات فاشية في شوارع شبرا. ووصفتهم الصحف أن شبرا كنها أصبح شارع في روما وهذه فكرة الإسكندرية أيضا”.

تحولات شبرا

ويرصد الكتاب كل هذه التحولات وكيف وصل الأمر إلى ظهور السلفية وحركة “حازمون” من شبرا بالتزامن مع تحولات المكان والزمان. ويقول: “من خلال دراسة حي صغير، ندرس تحولات شرق البحر المتوسط كله. لأن شبرا لا تربطنا بتاريخ القاهرة أو مصر فقط بشكل عام لكن تربطنا بتاريخ بلاد الشام والهجرات والتبادل المشترك بين البلاد. وكيف أثر كل هذا في فقدان شبرا طبيعتها الخاصة”.

واجه صاحب “عرب وعثمانيون” مشكلة خلال إعداد الكتاب وهي افتقار المصادر التي ترصد تاريخ وتحولات حي شبرا. ليلجأ إلى مصادر متنوعة وغير تقليدي مثل الأفلام، الروايات، الصحف المدرسية في الثلاثينات والأربعينات، والمذكرات الشخصيات الكبرى من شبرا، وبعض الصحف، والمجلات المحلية التي كانت تخرج من شبرا. والاعتماد على شهادات شخصيات من شبرا عاشوا هناك وشهدوا تحولات الزمان والمكان الغريبة في شبرا.

رموز شبرا في السينما والأدب

ومن بين الأفلام التي ظهرت فيها شبرا، “فيلم هندي”، و”بحب السيما” و”يوم عسل ويوم مر” و”أحلى الأوقات” و”الفتوة” وغيرها. وكذلك أفلام للمخرجين خيري بشارة، محمد كامل الأيوبي وهالة خليل، وهالة جلال. وغالبا ما تجسد أفلامهم ذكريات المهاجرين من شبرا من الطبقة الوسطى.

كذلك تطرق إلى دراسة تاريخ رموز الصحافة والأدب من مواليد حي شبرا. مثل الشاعر إبراهيم ناجي، الملحن بليغ حمدي، والشاعر صلاح جاهين، والفنان مدحت صالح، وأحمد حلمي رمز الصحافة المصرية وله شارع باسمه وهو جد صلاح جاهين.

الكتابة التاريخية

ويقول د. محمد عفيفي: “يعد هذا الكتاب من أعمالي القريبة لقلبي لأنه كان عودة لفكرة المؤرخ الذي يكتب عن منطقته ومدينته والحاضر الذي يعاصره، وهذا هو التقليد التاريخي الذي أوقفته الأكاديميا ولكن حاولت العودة لهذه التقاليد القديمة التي أعتبرها أكثر ثراء للتاريخ وأكثر قدرة على الوصول للقارئ والناس وكان تساؤلي المستمر: “هل يكتب المؤرخ لنفسه أم للقراء!”.

الكتابة التاريخية هي التي يمتزج فيها الكاتب والمادة التاريخية، اتبع المؤرخ المصري من خلال هذا التقليد الذي يرجع إلى التاريخ اليوناني القديم والتاريخ الإسلامي وصولا بشخصيات مثل الجبرتي وكتابه الشهير الذي كشف من خلاله تجربته والفترة التي عاصرها كغيره من المؤرخين مثل المقريزي، أي أنها كتابة ذاتية لأحداث وفترة يعاصرها.

ويقول د. محمد: “حتى عبدالرحمن الرافعي كتاباته الجيد كانت الإنجاز الحقيقي عن فترة عاصرها وعير عنها بانحياز، سواء لمصطفى كامل أو محمد فريد، وتوجسه وعدم رضاءه بشكل ما عن سعد زغلول. ويتضح أن ذاتية المؤرخ تظهر لدى مؤرخين أوروبا أيضا”.

ويتابع أن الأكاديميا هي التي خلقت فكرة أن يصبح المؤرخ كالقاضي لا ينحاز وبالتالي حُرم التاريخ من الذات وفاعل المؤرخ وشهادته، مضيفا: “دارت معركة كبيرة مفادها هذا التساؤل: “هل التاريخ علم!، ونشب جدلا كبيرا عن هذه القضية وكتب أحدهم أنه إذا لم يكن التاريخ علما فلن يكون شيئا على الإطلاق!

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر