شارع الصاغة القديمة.. تاريخ وحكايات

“مشروع إحياء شارع الصاغة القديمة” يأخذنا لقلب الفيوم “الذهب” وأنواعه و حكاية أقدم شارع شاهد علي التاريخ الاجتماعي لهذه المدينة العتيقة.

المكان بناسه

شارع الصاغة القديمة أشهر شوارع الفيوم، يقع على بضع أمتار من مسجد قايتباى العريق، ويبعد بضع أمتار أخرى من وكالة المغاربة القديمة شارع القنطرة حاليا، تلك المنطقة التي كانت قلب مدينة الفيوم قديمًا وقبلتها التجارية لأهالي الفيوم من شتي المراكز والقرى، يبدأ الشارع بكنيسة العذراء وبضعة منازل قديمة يكاد بعضها آيلا للسقوط، وساهم الخشب في إعطاء شكلها المعماري لمحة من الماضي البعيد، أغلب محال بيع المشغولات الذهبية في بيوت مكونة من طابقين أو ثلاث، أغلبها بيوت قديمة، كما أن أغلبها أيضًا مغلقة بهتت لافتاتها وأكلت الشمس طلاء أبوابها وعلا الصدأ أقفالها، هجرها أصحابها بعضهم مات كمدا، غيرت الطرز المعمارية لبعض العمارات متعددة الطوابق من ملامح الشارع قليلا، لكن مازال أغلب البيوت كما كانت منذ عشرات السنين.

سوق السمك

وبحسب دراسة قام بها الدكتور عاطف عبد الدايم عبد الحي، أستاذ بكلية الآثار جامعة الفيوم والتي حملت عنوان” العمران والعمارة بمدينة الفيوم من القرن التاسع عشر إلى الربع الأول من القرن العشرين الميلادي.. دراسة جديدة في ضوء وثائق الوقف”، ذكر الدكتور عبد الدايم أن شارع الصاغة القديمة تم ذكره في وثائق الوقف بأنه من أقدم  شوارع مدينة الفيوم والذي يرجع تاريخه للقرن التاسع عشر، وكان يطلق عليه سوق السمك أو شارع توت عنخ آمون، ثم بعد ظهور محال بيع الذهب اختفى الاسم القديم تدريجيًا وأصبح يعرف باسم شارع الصاغة القديمة، والذي يبدأ من نهاية شارع العمود وبداية شارع أبو جانب، ويقع غربة درب سوق الحمير، وقد كان بالفعل يحتوي على العديد من محال وتجار بيع السمك، وبضائع أخرى كثيرة فهو كان سوق تجاري كبير يعج بالحركة التجارية طوال اليوم وعلى مدار العام.

تجارة الغلال

يقول الحاج محمد على فله، من تجار الغلال بشارع الصاغة، هذا الشارع من أقدم شوارع الفيوم، وقد كان بمثابة ميناء الغلال الذي يأتي إليه التجار من كل مراكز وقري المحافظة لشراء الغلال، كما كان بالشارع العديد من محال بيع المشغولات الذهبية، كان شارع الصاغة بحق هو المكان الذي تجد فيه العائلات عند زواج أحد أبنائها ما يريدون حيث كان يوجد بالشارع محال لبيع الموبيليا والأواني المنزلية والأقطان والمفروشات واحتياجات العروس.

أقدم الشوارع التجارية

يقول أحمد إبراهيم مليجي، صاحب أقدم مخبز في شارع الصاغة، والذي ورثه عن أبيه الذي أنشأه عام 1928،  هذا الشارع شهد تطويرا طوال فترة طويلة من الزمن فقد كان سوقا لتجارة الغلال والتبن، قبل ظهور محال الذهب التي بدأت على استحياء بأربعة محال أو خمسة وزاد عددها حتى وصلت إلى ما يقارب خمسون محلا.

ويضيف مليجي لم يقتصر النشاط في الشارع على تجارة المشغولات الذهبية فقط بل تنوع النشاط التجاري في الشارع حيث اشتهر بمحال بيع الموازين، ومحال الأوانى المنزلية النحاسية والخردوات والغلال والموبيليا، وطبعا نمت بجوار كل هذه الحركة  بعض مطاعم الأسماك والجزارة والبقالة والعطارة.

ملاك سليمان صاحب محل ذهب – تصوير منال محمود

ما فيش حد بيجي هنا

على باب متجره الذي تخلو فتارينه الزجاجية من المشغولات الذهبية، يجلس رجل خمسيني اسمه ملاك سليمان ، الذي بمجرد أن عرض مقابلته رحب وكأنه يريد البوح، أدخلني المتجر الذي لم يكن فيه سوى خزانة حديدية خضراء ماركة ملنار، وكرسي كبير يجلس عليه، وكنبتان من الجلد كان يجلس عليها الزبائن فيما مضى، نظر ملاك للشارع وقد بدت على وجهه علامات تنم عن الحزن ، ” ما فيش حد بيجي هنا”، ويكمل لقد بدأت العمل ببيع الذهب  في هذا الشارع منذ السبعينات.

لقد كان جرام الذهب بجنيه واحد وجنيهان،  وكانت شبكة العروسة قديمًا تحتوي على أساور ثعابين، وخلاخيل ذهبية، وكردان الجمهورية والهرم، وكان من أشهر الحلي القديمة العقد البندقي أو الحمصة كما كان يسمى، بالإضافة للحلق المخرطة الشهير بأشكاله وتصميماته المختلفة، وهذا كله الآن غير موجود لأن صناعة الذهب لم تعد تعتمد على العمل اليدوي كما كانت في السابق.

يسكت لبرهة قبل أن يقول: “هجر تجار الذهب الشارع.. فمنهم من أفلس بعد الركود وصرف ما لديه من نقود وأغلق محله.. ومنهم من مات.. وبعضهم ترك الحرفة أصلا، وهناك من سافر، الأن البعض يتاجر في بيع الذهب بالجملة”.

قبل الأربعينات

الخواجة سامي دوس تاجر – تصوير منال محمودذهب

الخواجة سامي دوس إبراهيم.. الجميع يناديه خواجة لتعظيم قدره ومكانته.. ويقوم دون باقي محلات الشارع بعملية تجديد لمحله الذي سيعيد افتتاحه من جديد.

يقول الخواجة سامي، “هذا الشارع يعود تاريخه وعلاقته بتجارة الذهب إلى أربعينيات القرن الماضي”.. وفي أسى يقول: “كان هذا الشارع يحتوي على  أربعة وخمسون محل للذهب.. بالإضافة لحوالي خمس ورش لتصنيع المشغولات الذهبية.. الآن لا يوجد منها سوى إثنين، هجر تجار الذهب هذا المكان وفتح أغلبهم محال جديدة في مناطق أرقي بالمدينة”.

شارع الصاغة بالفيوم
ماهر يوسف صاحب محل ذهب – تصوير منال محمود

الورش أغلقت ولا يوجد اهتمام

ويضيف ماهر يوسف أمين، صاحب محل في شارع الصاغة، “ورثت المهنة عن والدي.. وبدأت العمل فيها وأنا في سن الحادية عشر منذ عام 1968.. ولدينا ورشة لتصنيع الذهب إلى الآن.. وكان الشارع يضم أكابر تجار الذهب مثل: “فرج غبور، فهيم وسيلي، وشفيق إبراهيم، مكرم غبريال، فؤاد غبريال.. فقد كانوا هم وغيرهم بشارع الصاغة الأساس في تصنيع وبيع الذهب بالفيوم”.

يكمل ماهر، “الآن لا يوجد سوى عدد يمكن حصره على أصابع اليد الواحدة.. ويعود السبب لعدم إقبال الناس على شارع الصاغة القديمة لسببين. أولهما: عدم الاهتمام من المسؤولين بالشارع.. فلا يوجد طريق ممهد حتى يستطيع أحد الدخول إلينا.. والسبب الثاني: ظهور شركات تصنيع الذهب والتي تعتمد على الإنتاج الآلي وليس اليدوي.. كما نفعل نحن في ورش التصنيع.. والتي كانت تنتج قطع ومشغولات ذهبية غاية في الروعة والجمال أفضل من الذي يوجد الآن.. ولكن بالطبع تأخذ كثيرا من الوقت”.

شارع الصاغة

مشروع إحياء شارع الصاغة القديمة

وبروح الشباب والمثابرة والتحدي يقول رامي مدحت، مسؤول اللجنة النقابية للعاملين بصناعة وتجارة المصوغات والمجوهرات بالفيوم، “لقد أخذنا على عاتقنا مهمة إعادة الشارع لسابق عهده.. وفقط على الجهات التنفيذية أن تقوم بمسؤلياتها وتنفذ ما لم نستطيع فعله.. فهي السلطة التي تحكم”.

ويطالب رامي المسؤولين بإزالة مخالفات الموجودة في الشارع  من إشغالات للطريق التي قلصت من اتساع الطريق.. ما ساعد على صعوبة دخول أي سيارة إليه.. إضافة إلى وجود تجمعات للقمامة تحتاج لتدخل مجلس المدينة لرفعها.. وسنساهم كأصحاب محال في أي أعمال نكلف بها في سبيل إعادة الشارع لسابق عهده.. وسننفذ مبادرة بعنوان “مشروع إحياء شارع الصاغة القديمة”.

 

 

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر