«سهرة رمضان» في دواوين الصعيد: العبادة والسلطة القبلية

رغم تفاوت درجات التمسك بالواجبات الدينية بين الأفراد، تبقى مكانة الشهر في وجدان الجميع عظيمة، وتبقى الحفاوة بلياليه كبيرة، وتتجلى في مظاهر كثيرة، منها «سهرة رمضان» اليومية في ديوان العائلة.

قبل هلال الشهر المعظم بفترات طويلة تتنافس عائلات الصعيد في الاتفاق مع أفضل قراء القرآن الكريم لإحياء ليالي رمضان في دواوينها، ومنها ما يحتكر بعض القراء بشكل دائم، من أجل الحفاظ على العادة المتوارثة، وبقاء الديوان مفتوحا طوال الشهر، لسماع القرآن الكريم من ناحية، والاستمتاع بالحكايات الجانبية والتي يبرع فيها البعض براعة كبيرة، وتمتلئ بالنوادر والطرائف والتواريخ الشفاهية، وهكذا تتحول الأمسيات الرمضانية إلى مناسبات سعيدة، يتجدد فيها التماسك الاجتماعي، في الوقت الذي يتجدد فيه التماسك الروحي.

**

موائد الإفطار في الدواوين رمزية، بمعنى أنها موجودة ومستعدة لاستقبال أي شخص، لكنها تقتصر في الغالب على الضيوف والغرباء، وعدد قليل من أفراد العائلة نفسها، وذلك بسبب  طبيعة الثقافة القبلية، فلا يوجد  يقبل تناول الإفطار في ديوان عائلة أخرى، إلا في حالات استثنائية مثل وجود “عزومة” خاصة.

بخلاف وجبة الإفطار يتسع نطاق “سهرة رمضان”، و تشارك فيها كل العائلات، حيث لا توجد عائلة منغلقة على نفسها، بل يتوجه وفدٌ من كل عائلة لسماع القرآن الكريم في ديوان إحدى العائلات الأخرى في “المُوجب” الذي يحتوي على عدة قرى متجاورة، وقد يسافرون إلى عائلات أبعد تجمعهم بهم صلة قرابة أو نسب أو مصالح أخرى.

سهرة رمضان مناسبة سارة، وهي تقليد متوارث من زمن بعيد لا نستطيع تحديده بسبب انعدام المصادر التي تتحدث عنه. وتلك السهرات تمتلئ بتفاصيل كثيرة، وتنعكس فيها طبيعة كل عائلة وخصوصيتها. وقد تعرضتْ للكثير من المتغيرات منذ ظهور الكهرباء، لكنها مازالت باقية، وإن كانت بكثافة أقل مما كانت عليه خلال العقود السابقة، حيث كانت بمثابة جهاز التليفزيون الآن. وكانت تقوم بكل ما يقوم به التليفزيون من أدوار وأكثر، بدليل استمرارها رغم الفرق الشاسع بين إمكانياتها وإمكانيات التليفزيون المبهرة.

**

سهرة رمضان  تعبر عن عمق الحضور الديني في الصعيد، وتكشف عن مكانة الشهر المعظم في وجدان أهله، لكنها لا تتوقف عند هذا البعد، بل تؤدي وظائف اجتماعية أخرى، يتداخل فيها الديني مع السياسي، مع الاجتماعي، مع الترفيهي، وكي نستوعبها بشكل أعمق يجب أن نستحضر رمزية الديوان في حياة الصعيدي.

ديوان العائلة من أكثر المؤسسات الفعالة في المجتمع الصعيدي. وكلمة ديوان تحمل بعدا سياسيا واضحا، لأنها تعبر تاريخيا عن البلاط السلطاني أو الوحدات الأساسية في الحكومة و الجهاز الإداري، أو المكان الذي يُجتمَع فيه للنَّظر في أمور الدَّولة وقضايا الحكم، والفصل في الدَّعاوى، وغيرها.

تحرص العائلات على كتابة كلمة (ديوان) على واجهة المكان الذي يتميز على مستوى العمارة عن بقية البيوت.  وقد  رأيت أكثر من لا فتة تحمل عنوان (ديوان عام عائلة كذا) وإضافة كلمة “عام”  تؤكد البعد السياسي ربما بفجاجة، لآنها تتآلف مع تعبير مثل (ديوان عام محافظة كذا)، لتجعل من العائلة ندا لمركز السلطة المحلية.

مبنى الديوان في الغالب يتكون من قسمين، قسم مرتفع يتكون من حجرتين، بينهما طرقة وأمامهما طرقة عريضة، وهو مخصص للقراء والضيوف، والقسم الآخر عبارة عن ساحة منخفضة تتسع لأعدد كبيرة وتحتوى على منافع أخرى، أو ملحقات مثل المطبخ ودورة المياه، وغيرها.

**

العائلة وحدة سياسية، هذا ما تشير إليه كلمة “ديوان” وما تؤكده الممارسات المختلفة.

فالديوان  مركز العائلة الذي يشهد اجتماعاتها في جلسات التربيط في انتخابات مجلس الشعب أو النواب أو الشورى، وكذلك  المجالس المحلية وغيرها.

الديوان هو قاعة المحكمة التي تُطْرح فيها القضايا والخصومات الخاصة بالعائلة، سواء على المستوى الداخلي لها، أو على المستوى الخارجي في حالة نشوب خلافات مع عائلات أخرى.

الديوان هو المدرسة التي يتعلم فيها الأطفال والشباب منظومة الأصول والعادات والتقاليد، وذلك من خلال الإصغاء لحكايات الكبار ومتابعة مناقشاتهم في مختلف الأمور.

الديوان هو المقهى، من قبل ظهور المقاهي في القرى، وهو النادي بالنسبة لعائلات كثيرة، هو صالة الأفراح، وسرادق العزاء، وهو مكان استقبال الضيوف خاصة الذين يتسمون برفعة المقام.

الديوان رمز من رموز الشرف، و وسيلة من وسائل تقييم مكانة العائلة وتقدير قيمتها. وهو نسخة قبلية من ديوان الحكم أو قصر الرئاسة، وكما يقوم الديوان الملكي بإحياء ليالي رمضان من خلال سهراتٍ يستقدم فيها أفضل المقرئين، بالإضافة إلى موائد الإفطار، تقوم العائلة بنفس الأمر، لتعبر عن كيانها، وتبني تماسكها، ودون أن يتعارض ذلك مع عمق الحضور الديني.

اقرأ أيضا:

الشيخ محمد عبدالقادر: تجربة تحويل بيوت الصعيد إلى مؤسسات ثقافية

 

 

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر