ستات البلد| رابعة العدوية.. تاج الرجال التي أفنت حياتها في الزهد والتقوى

لا تستطيع أن تتجاهل رابعة العدوية أو تاج الرجال، كما أطلق عليها العرب قديمًا، حين تذكر الرائدات في مجالات عدة في العالم الإسلامي منذ مئات السنين، لتختص هي من بينهن بمجال شديد الروحانية، مسطرة اسمها كأول رائدة في التصوف، ورغم تناول السينما المصرية لسيرتها إلا أنها لم تكن بالشكل الدقيق.

وفي إطار اهتمام مؤسسة ملتقى المرأة والذاكرة، بإبراز السيدات الرائدات في المجالات المتعددة، تأتي رابعة العدوية في الصفوف الأولى للتناول، والكتابة عن تاريخها والكثير من الحقائق التي ذكرت عنها باعتبارها رائدة في مجال التصوف، وذلك وفق أشهر كتاب “شهيرات النساء في العالم الإسلامي“، للأميرة قدرية حسين، الذي عربه عبدالعزيز الخانجي، وأعادت المؤسسة إصداره في طبعته الثانية، عام 2004، وقدمته الدكتورة أميمة أبو بكر.

قبل 1350 عامًا تقريبًا، ولدت رابعة العدوية أو أم الخير بنت إسماعيل، أو تاج الرجال كما أطلق عليها العرب في البصرة بالعراق، وهي من موالي آل عتيك، غير معروف بعد تاريخ ميلادها، ولكن على الأرجح أنها عاشت نحو 80 عامًا، نظرًا لوفاتها عام 135هـ، وتعتبر من ربات الخدور في أوائل العصر الهجري.

قال أحد العلماء الأفاضل لرابعة ذات يوم أثناء زيارته:

إن المولى فاطر السماوات يكافئ الذين يصطفيهم من عباده بموهبة من مواهب ليزداد قدرهم، ولكن من الغريب أننا لم نجد مثل هذه القدرة والكفاءة في امرأة، فكيف وصلت إلى هذه المرتبة؟ وكيف أصبت مثل هذه السعادة؟

فأجابت:

“أنت محق في ذلك لأن النساء لم يفتتنوا يوما من الأيام بكفاءتهم فلم تتظاهر بدعوى القديسة”.

كانت تفوق نساء زمانها وتمتاز عليهن لا بالزهد والتقوى فحسب، بل بفضلها وعرفانها، بعلمها وأدبها، حتى رنت إليها الأبصار وتطاولت نحوها الأعناق، كان يتلذذ بصحبتها ويستفيد منها أمثال حسن البصري التقي الشهير، وشقيق البلخي الصوفي العظيم، وسفيان الثوري المجتهد الكبير، والملك دينار، حاكم الكرج وشاعر البليغ كل هؤلاء الأفاضل صاحبوها وجالسوها وحضروا مباحثها في الدين والعلم فأجلوها قدروا عقلها وذكائها وأعظموا حال زهدها وتقواها، بحسب ما جاء في الكتاب.

مات أبوها في مقتبل عمرها فنشأت في وقت استحكمت فيه حلقات الغلاء، والقحط في مدينة البصرة، فوقعت تحت أسر رجل ظالم مستبد احتبسها عنده لمدة أذاقها أنواع العسف والعذاب، ثم باعها إلى رجل آخر، لم يختلف عنه كثيرًا، وظلت مقابلة كل أنواع العذاب بصدر رحب دون تململ أو تذمر إذ كانت ترى الشكوى مزرية بها.

يذكر الكتاب أن رابعة كانت تهرول ذات يوم مسرعة مجتازة أزقة البصرة، رماها أحد المارة بنظرة منكرة، فأرادت أن تعرض عنه ملفتة وجهها فزلت قدماها فسقطت على الأرض فانكسر ذراعها، ولم تقوى على النهوض من مكانها فظلت مغشيًا عليها مدة لشدة ما أصابها من الألم.

وعندما رجعت إلى صوابها رفعت نظرها خاشعة للسماء تناجي ربها:

رباه انكسر ذراعي، وأعاني الألم واليتم، وسوف أتحمل ذلك وأصبر، ولكن عذاب أشد من هذا يؤلم روحي ويفكك أوصال الصبر في نفسي، منشؤه ريب يدور في بخلدي وهل أنت راض عني يا إلهي، هذا ما أتوق إلى معرفته”

ما كادت تتم نجواها وسمعت هاتفًا يقول:

لك يا رابعة عند الله مرتبة تغبطك الملائكة من أجلها

فنسيت بعد ذلك ما اعتراها ووقفت راجعة إلى بيت سيدها آمنة.

ذات ليلة لم ينم سيدها، فسمع صوتًا يرن في أرجاء داره فخرج يتلمس مبعث الصوت قادته أذناه إلى غرفة رابعة، حيث رأى ما أدهشه وحيره باله، رأى رابعة تعبد ربها بخشوع ينم عن إيمان عميق، فوقف يراقبها ويسمع مناجاتها وهي تقول:

ربي إنك تعلم أن أشد ما أتوق إليه هو عبادتك وتأدية مالك من حقوق ولكني أسيرة لا أملك حريتي الشخصية فلا سبيل إلى تحقيق هذه العناية فلتعذرني.

فبهت سيدها ووجد من العار إبقاء فتاة طاهرة عفيفة كرابعة العدوية تحت ذل الأسر، في اليوم التالي قال لها: أنت حرة طليقة يا رابعة ولك الخيار أن تمكثي هنا أو تذهبي حيث شئتي، فأثرت على ترك المنزل لتعيش من كسب يدها، ومنذ ذلك اليوم أصبحت حياتها درسًا ممتعًا وعظة بالغة، إذ وقفت حياتها على أعمال البر والخير.

عندما ماتت زوجة حسن البصري طلبها للزواج، فلم تقبل وأرسلت إليه قصيدتها المشهورة التي ضمنتها كثيرًا من التغزل الإلهي، وسألها عقب ذلك في محادثة دارت بينهما “أليس لك رغبة في الزواج قط؟

فأجابت تاج الرجال:

إنما يتزوج من يملك إرادته بنفسه أما أنا فليس لي إرادة، إن أنا إلا عبدة المولى عز وجل وصنعت نفسي تحت إرادته وتصرفه

فقال لها الحسن البصري: كيف وصلت إلى هذه الدرجة من الزهد والصلاح فأجابت أم الخير:

بمحو  النفس وفنائها تمام الفناء.

سألها سفيان الثوري وكان من كبار المتصوفين في عصره: “كيف هو إيمانك يا رابعة: وكم هو مبلغ اعتقادك بالله تعالى، فأجابته تاج الرجال:

لا أعبد ربي خوفًا من ناره أو شوقًا لجنته، وإنما لمح المحبة والإخلاص

ثم أخذت تناجي ربها بهذه الكلمات:

إلهي أحبك لوجهين: لحبي وهيامي لك ولأنك أهل للمحبة والعبادة، فباشتياقي ومحبتي أذكر اسمك وأشغل بذاتك العليا وبأهليتك للمحبة أنال من لدنك مرتبة المشاهدة فلا يقف حمدك وثناءك لأمر منهما وإنما لك الشكر ومنك الفضل للحالين.

شعر رابعة العدوية

كما حُكي عن رابعة العدوية الزاهدة والشاعرة والتقية، وفق ما ذكره على لسانها في كتاب “العابدة الخاشعة رابعة العدوية إمامة العاشقين والمحزونين” للدكتور عبدالمنعم حفني، عن دار الرشاد في عام 1991 أنها كانت وقت السحر وطلوع الفجر تقول: 

إلهي هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري أقبلت مني ليلتي فأهنأ، أم رددتها علي فأعزين فوعزتك هذا دأبي ما أحييتني وأعنتني! وعزتك لو طرتني عن بابك ما برحت عنه لما وقع في قلبي من محبتك

ثم أنشدت:

يا سروري ومنيتي وعمادي.. وأنيسي وعدتي ومرادي
أنت روح الفؤاد أنت رجائي.. أنت لي مؤنس وشوق كزادي
أنت لولاك يا حياتي وأنسي.. ما تشتت في فسيح الميلاد
كم بدت منه وكم لك عندي.. من عطاء ونعمة وأيادي
حبك الآن بغيتي ونعيمي.. وجلاء لعين قلبي الصادي
ليس لي عندك ما حييت براح.. أنت مني ممكن في السواد
إن تكن راضيًا على فإني .. يامني القلب قد بدا إسعادي

 

عاشت تاج الرجال واضعة نصب عينها الدستور النبوي الجليل “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا“، فأمضت رابعة 80 عامًا التي عمرتها لم تخل بحرف في هذا الحديث الشريف، إذ كانت ترى لذة في تضحية راحتها الدنيوية في سبيل سعادتها الخالدة.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر