«ساكنو العوامات يستغيثون»: ماذا يحدث؟

خلال السنوات القليلة الماضية، كان إصدار تراخيص العوامات بمثابة معاناة كبيرة لأصحابها، الأمر الذي لم يفهمونه بسبب تعطيل الإجراءات وتعدد الجهات المشرفة عليها. إذ أكد بعض من أصحاب العوامات- ممن التقينا بهم- تجاهلهم تماما ولم يعد لهم سوى حل واحد فقط، وهو تحويل رخص العوامات من ترخيص سكني إلى تجاري أو سياحي. وهو حل غير مقبول بالنسبة للسكان إذ يعتبرون أن المقترح عبثي لا يمكن قبوله أبدًا.. «باب مصر» ينقل حكايات أصحاب العوامات وذكرياتهم داخلها.

إزالة العوامات

سيرًا على الأقدام ما بين كبري إمبابة وكبري الزمالك التقينا بأصحاب العوامات، أوراق معلقة بطول الطريق عليها ختم “النسر” تشير للبدء في قرار إزالة العوامات الموجودة بالمنطقة. لا يكاد أحد يصدق ما يحدث.. الجميع مذهولون، حراس العوامات لم يستوعبوا الخبر حتى الآن “يا ابني إحنا فعلًا هنمشي؟ أنا مليش مكان غير ده، أنا أتربيت هنا وأبويا أتربى هنا هنروح فين طيب”.. بهذه العبارة استقبلنا حارس إحدى العوامات عندما بادرناه بسؤال حول الوضع الراهن.

لم يستوعب الرجل الذي ربما يتعدى عمره السبعون عامًا ما يحدث، قرر فجأة نزع الورقة المعلقة على إحدى العوامات رافضًا الاعتراف بما يحدث..

فجأة جاء صوت من بعيد أثناء سيرنا. إذ تعالى الصوت عندما أبلغ أحد الحراس زميله وقال له “قطعوا الكهربا حالًا والماية.. هنعمل إيه الواحد تعب”. لم يتمكن صديقه من مواساته. وقال له: “لازم نبلغ أصحاب العوامات ونقولهم اللي حصل”. وأثناء الحديث الجانبي الذي دار بينهم لمحنا آثار هدم لإحدى العوامات التي جرى تكسيرها مطلع الأسبوع الماضي. وبينما نحن نسير وجدنا عمال ممسكين بمعدات بدائية منهمكين في عملية فك إحدى تلك العوامات”.

نعمة محسن داخل عوامتها
نعمة محسن داخل عوامتها
مضايقات مستمرة

داخل عوامتها تحدثت نعمة محسن عن بداية اقتناء عوامتها، فزوجها فرنسي الجنسية وقبل أن يتزوجا سكن زوجها داخل العوامة. وتقول: “كنا أصحاب وحبينا بعض وقررنا أن تكون العوامة هي بيت الزوجية، فهذه العوامة كانت ملك لصديقه لنا إسبانية وكانت متزوجة من شخص فرنسي، وزوجي بدوره كان يأجر منها الدور الثاني من العوامة. وعندما قرروا مغادرة مصر كنا وقتها في فترة الخطوبة، وقررنا سويًا شراء العوامة، وقمنا بتوضيبها، وبالفعل تزوجنا وعشنا فيها أنا وزوجي وابني، كنت حينها في الـ22 من عمري، وحاليًا أنا في عمر الخمسين؛ أي أنني قضيت في العوامة أكثر من نصف عمري. كنا نريد أن نعيش في مكان مختلف وجميل داخل النيل. فقد كانت هذه التجربة بالنسبة إلينا حلم حققناه بالفعل”.

تحكي نعمة أن المضايقات بدأت منذ سنوات: “لم يكن من السهل أبدًا استخراج التراخيص، دائمًا عندنا مشكلات خاصةً خلال السنوات القليلة الماضية، بسبب توقف التراخيص، وبسبب تعدد الجهات المشرفة على العملية. ففي الماضي كنا نقوم بأنفسنا باستخراج التراخيص، لننا مؤخرًا ونتيجة التعنت الشديد قمنا بتوكيل محاميين لاستخراج التراخيص اللازمة. فقد كانوا يعطونا الرخصة مرة كل سنتين. لكنهم في السنوات الأخيرة قرروا الاكتفاء بسنة واحدة “لك أن تتخيل أن عملية استخراج الرخصة أصلًا قد تصل إجراءاتها لمدة سنة كاملة، لكننا لم نكن نعترض أبدًا على هذه الإجراءات”.

إصدار التراخيص

وتضيف: عملية إصدار الرخصة لم تكن لتتم إلا من خلال صدور شهادات تؤكد سلامة العوامة وكذلك أنها آمنة تمامًا، لكن ما حدث مؤخرًا أن هناك بعض الأصوات الرسمية التي زعمت أن العوامات غير آمنة. وأنا أتساءل كيف لعوامة غير آمنة أن تأخذ كافة التراخيص التي تؤكد سلامتها التامة؟ لذلك فهذه التصريحات التي وصفت العوامات أنها “خردة” هي تصريحات مضللة ولا تمت للواقع بأي صلة.

وتابعت: حتى عام 2020 كنا نملك رخصة، وبعدها توقفوا عن إصدار الرخص. وقالوا إن وضعنا سيتم تقنينه، وقد تفائلنا بالفعل وأرسلنا الملفات اللازمة، إلى أننا فوجئنا من أسبوع بفكرة إزالة العوامات وإبلاغنا بإنذارات الإزالة. بالإضافة إلى مطالبتهم بأموال مهولة، فأنا مثلًا مطلوب مني دفع حوالي 900 ألف جنيه، وهناك بعض العوامات مطلوب منها سداد 2 مليون جنيه.

ظلم كبير

تشير صاحبة العوامة إلى أنهم خلال السنوات الأخيرة تعرضوا لكم هائل من الضغوطات “قرروا عدم إصدار تراخيص لنا، بل ومضاعفة المبالغ المستحقة أضعاف الأضعاف. فقد حسبوا لنا طول وعرض العوامة بالمتر المربع وهذا ظلم كبير. وقد أرادوا محاسبتنا بأثر رجعي، فقد تركوا العوامات السياحية وزعموا أننا نلوث مياه النيل. وأنا أتساءل كيف لي أن ألوث مياه النيل أنا وزوجي وابني، في حين أن العوامات السياحية تستقبل المئات يوميًا.

فهناك عوامة تعمل كـ”جيم” وأخرى تستخدم كمطعم. فهل يعقل أن نلوث نحن النيل؟ فهذا كلام غير منطقي، حتى المهلة التي قدموها لنا غير منطقية. فهل من المنطقي أيضًا أن يأتي إلينا شخص ويقول: “هنهد بيتك بعد أسبوع، يلا لم حاجتك وامشي!”. بل إنهم اتهمونا في شرفنا وقالوا إننا “قالبين العوامات بيوت دعارة” وهذه اتهامات واهية غير صحيحة، فهم غير مستعدين لتعويضنا أصلًا مثلما تم تقديم تعويضات لأصحاب المقابر التي أزيلت وكذلك العشوائيات. فمن ضمن المقترحات الأخرى التي قدموها لنا هي سحب العوامات، وعندما قلنا لهم إننا سنصطدم بالطبع بالكوبري، قالوا لنا نصًا: “ملناش دعوة كسروا الدور اللي فوق عشان تعدوا!”، وقد خيرونا بتحويل العوامات لسياحي، وقالوا لنا “انسوا إننا نديكم تصريح سكني في حياتكم مرة تانية.. انسوا”.

تبكي نعمة – أثناء حديثها- عن تلك التفاصيل التي تصفها أنها موجعة. وتقول: “العوامة هي رأس مالي وعمري بأكمله فهي بيتي الذي عشت داخله أجمل أيام حياتي. وهم لم يناقشوننا أبدًا عندما اتخذوا تلك القرارات. فنحن نتعرض لظلم وانتهاك شديد نتيجة هذه الإجراءات التعسفية، وهناك عدم احترام لنا كبشر من المفترض أن لنا حقوق كاملة؛ لذلك قدمنا استغاثة للسيد الرئيس ولعديد من الوزارات، ونحلم في النهاية ألا يتم تنفيذ القرارات”.

إخطار رسمي بالإزالة
إخطار رسمي بالإزالة
معاناة الحاجة إخلاص

بالقرب من كوبري الزمالك وتحديدًا داخل العوامة 77 تعيش بمفردها الحاجة إخلاص، صاحبة الـ87 عامًا، أقدم ساكني العوامات. فهي لم تعش في أي مكان سوى داخل العوامات منذ أن ولدت. وبمجرد النزول إلى عواماتها شاهدنا عشرات القطط التي قررت تربيتهم داخل عوامتها، بجانب تربيها للبط الذي يطفو على سطح النيل.

تقول إخلاص: “مين هيرعى الغلابة دول مش هيلاقوا حد يأكلهم والله يا ابني. ربنا يتوب علينا يارب، أنا يا ابني مولودة أصلًا في النيل، مقدرش أمشي منه أبدًا، ولدت داخل عوامة فعوامتنا القديمة كانت تبعد قليلًا عن هذه المكان. وأقمت هذه العوامة التي أعيش فيها أنا وزوجي، منذ زمن بعيد، فزوجي أيضًا كان محب للنيل وللعوامات. وقد كانت والدته دائمًا ما تؤجر لهم واحدة في فصل الصيف”.

بدأت إخلاص في لم جميع مقتنيات العوامة خوفًا عليها من التدمير خلال اللحظة الراهنة “العوامة كانت أشبه بالقصر فقد بعت شقتين بمنطقة الزمالك كي أجهزها وأضع داخلها الأنتيكات وغيرها من الأمور”.

الحاجة إخلاص رفقة ابنها
الحاجة إخلاص رفقة ابنها
أرض الحكومة

تضيف: “بيقولوا علينا إننا مبندفعش، فهل هذا كلام يعقل؟ فهل يعقل أن نجلس في أرض الحكومة ولا ندفع إحنا غلبنا. وكنا دائمًا ندفع للملاحة، لكن في مطلع هذا العام نبهوا على الملاحة بألا يأخذوا أموالا منا نظير تجديد الرخصة. أنا حزينة لأن ما يحدث هذا هو خراب بيوت فأنا لا أملك مكان أذهب إليه. ولا أستحق أن أشرد في أخر أيامي. فأنا عمري 87 سنة وفي يوليه القادم سأكمل الـ88 عامًا، فأين أرحل؟ ربنا وحده يعلم أنا تعبت قد إيه علشان أطلع أفتح الباب كي أستقبلك”.

وتابعت: ما يحدث حرام، فهم لم يسألوا في أحد. وأنا لا أملك أي منزل آخر سوى العوامة هذه، يارتني ما بعت البيتين اللي في الزمالك، فأنا لم أتصور أبدًا أن أُتعرض لمثل هذا الموقف، فالنيل هو حياتنا وروحنا، وجميع البشوات والبهوات في مصر زمان كانوا يمتلكون عوامات ودهبيات. وكنا ندفع فقط وقتها “تنظيم وملاحة” ليس أكثر ولم تكن مبالغ كبيرة، لكن اليوم يطالبوننا بدفع مبالغ كثيرة لعديد من الجهات. فهم يتصورون أننا نمتلك أموال تحت العوامات.

وتختتم حديثها: “أنا اسألهم الرحمة بي، كفاية العلاج والأدوية اللي بجبها. فأنا ليس عندي أولاد سوى ابن واحد ويعيش في الخارج. ولا أعرف أي مكان قد أذهب إليه، لأني لست صغيرة وأحمد الله أنه أعطاني الصحة والقدرة العقلية. لكني لا أتخيل نفسي أبدًا أعيش بعيدة عن النيل. ففكرة العيش داخل شقة سكنية بالنسبة لي كأنه “سجن” لأني لم أتعود على هذا الأمر في حياتي كلها؛ لذلك أتمنى أن يتوقفوا عن هذا القرار.. ربنا يتولانا برحمته”.

حلم قديم

تتحدث الدكتورة أهداف سويف عن تجربتها في شراء عوامة وتحويلها مسكن، وتقول: “أنا بقالي 10 سنين هنا في العوامة، لأني عشت في الخارج لمدة تزيد عن الـ30 عامًا. وعندما رجعت مصر كنت أملك حلمًا وهو أن أشتري “دهبية” فقد أردت أن أشتري مركب أستطيع خلالها أن أرسوا مثلًا في الأقصر وقت الشتاء، وأن أتجول بها. لذلك قمت ببيع منزلي في إنجلترا لأحقق حلمي. وبالفعل عثرت على “دهبية” داخل الأقصر، وكنت أبحث عن مكان لترسوا فيه داخل القاهرة، لكن أشار عليّ المقربين أن فكرة شراء الدهبية، والتنقل من خلالها على النيل أمر لا يمكن تحقيقه داخل مصر.

وتابعت: أثناء بحثي على المرسى تعرفت على أصحاب عوامات الكيت كات، ووقتها أشاروا عليّ بالبحث عن “عوامة” لشرائها. وعندما فشلت محاولتي لشراء دهبية كما كنت أحلم، فكرت في شراء عوامة. وبالفعل قمت بشراء هذه العوامة التي أعيش فيها وأحببتها وكنت أشعر أنها تحتاج لمثل هذا الحب، لإعادة تأهيلها مرةً أخرى. فقد كانت مطلية بألوان غامقة، وغير منظمة من الداخل. لذلك قمت بإعادة تنظيمها وترتيبها من الداخل. وقد أعجبت أولادي وقررت أن تصبح العوامة بيتي ومستقري الدائم.

أهداف سويف
التجربة الأجمل

تضيف: “لم أكن أصدق نفسي، فما كنت أسمعه في الأفلام والروايات عن فكرة العيش داخل عوامة وشرائها أمر تحقق بالفعل. وقد قررت بيع بيتي الموجود في لندن لرغبتي للانتقال والعيش داخل “عوامة”. رغم أنني كنت أسدد أقساط المنزل لمدة 25 عامًا. وفي المقابل قررت الاستقرار داخل بيت يطفوا على الماء. فهذه المغامرة كنت أحب أن أخوضها، ولمدة عام كامل كنت أجهز العوامة، وغيرت الشبابيك والأبواب، وجمعت مقتنياتي وأشيائي من أماكن كثيرة ووضعتها داخل العوامة. وعندما جاء أحفادي أصبحت العوامة هي مكانهم المفضل في الحياة؛ لذلك فالعوامة بالنسبة لي هي مكان خلاب وجميل، سواء من خلال انعكاس الإضاءة المختلفة عليها، أو حتى من خلال الهزات التي نشعر بها نتيجة اقتراب المراكب منها وارتطام مياه النهر بها. فكل هذه الأشياء سحرتني وجعلتني أخوض تجربة هي الأجمل في حياتي.

قصة عشق

تستطرد: تخيل أن تعيش ملتصق بالطبيعة إلى هذا الحد الذي يغني عن أشياء كثيرة، وهذا الأمر يضعك أمام تحدي واضح لخدمة البيئة. فنحن قررنا مثلًا عمل سخان شمسي، ووضعنا أشياء صديقة للبيئة داخل العوامة. بل إن أحفادي وأطفال العائلة باتوا يحفظون أسماء الطيور التي تأتي إلينا، فنحن نلاحظ تواجد طيور محددة داخل أماكن بعينها. وتأتي صباحًا في مواعيد محددة، وكذلك الأسماك المحاطة بنا والتي نحبها أيضًا ونحفظها، وكذلك الحديقة التي من حسن حظي أنني عندما اشتريت العوامة كان معتنى بها بالفعل. ونحن بدورنا أكملنا العمل فيها، وزرعنا فيها الفل والياسمين والزعتر. فهذه هي قصة عشقي لهذه العوامة”.

تحكي أهداف ذكرياتها بتأثر شديد وقد لمعت عينيها وتأثرت بما تحكيه. إلا أن الحديث قد انقطع في تلك اللحظة عندما جاءت من بعيد نسمات هواء هادئة مصحوبة بمركب قادمة من بعيد محملة  بصوت عبدالحليم وهو يغني “زي الهوا يا حبيبي زي الهوا.. وآه من الهوى يا حبيبي آه من الهوى”.

اقرأ أيضا

«عوامات الكيت كات»: التضحية بتراث المدينة

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر