«زياد الرحباني» في مصر: حكايات حب وصداقة من القاهرة إلى بيروت

لم يكن لقاء مرتبا، بل لحظة عابرة جمعت الكاتبة «أميرة النشوقاتي»، والشاعر «أحمد حداد»، وعازف العود المصري «حازم شاهين»، بالموسيقار اللبناني الراحل «زياد الرحباني»، في إحدى أمسيات القاهرة عام 2010. لحظة بدأت بالصدفة، وانتهت بعلاقة إنسانية وفنية عميقة، تخللتها صداقات ومشاريع مشتركة، ونسجتها محبة مشتركة للفن والموسيقى. كشفت هذه العلاقة عن وجوه أخرى لزياد الرحباني، كما يراه محبوه من مصر: إنسان قبل أن يكون موسيقارًا، صادق كأغنياته، وقريب من الجميع.
محبة خفية متبادلة
لهذا اللقاء مكانة خاصة في ذاكرة الكاتبة والصحفية أميرة النشوقاتي، إذ عرفت من خلاله أن حبها لفن زياد الرحباني أمر متبادل مع عائلتها دون سابق معرفة، إذ أن جدها الموسيقار الراحل زكريا أحمد (6 يناير 1896 – 14 فبراير 1961)، هو ملحن زياد المفضل ومصدر إلهامه.
تروي لـ “باب مصر” ذكرياتها مع الموسيقار زياد الرحباني، وتقول: “جاء هذا اللقاء بالصدفة، خلال إقامة مهرجان موسيقى الجاز في ساقية الصاوي، وكنت برفقة الشاعر أحمد حداد والمؤلف الموسيقي حازم شاهين، اللذين تربطني بهما صلة قرابة. وبعد حضورنا له كجمهور، فوجئنا بزياد الرحباني يقف بالخارج يدخن سيجارة. انتهى منها وتوقفنا لتحيته”.
تعرفوا على زياد الرحباني، وكانت أميرة متحمسة لهذا اللقاء: “مين مترباش على كلامه وألحانه!”، وتستكمل حديثها بأنه في الحقيقة شخص صادق، وإنسان تماما مثل فنه.
زكريا أحمد إلى ما لا نهاية
خلال اللقاء القصير، عرّفته أميرة بنفسها، وأنها حفيدة الموسيقار زكريا أحمد ، وتفاجأت برد فعله. إذ أوضح لها أنه ملحنه المفضل، وأنه مصدر إلهامه، حتى أنه يضع صورة الشيخ زكريا أحمد بجوار صورة والده الراحل عاصي الرحباني في منزله بلبنان. “حين زار حازم شاهين بيته في لبنان، أرسل لي صورة تؤكد ذلك”، كما قالت.
وبحسب وصفها، نشأت لاحقا مشاريع فنية مشتركة بين أحمد حداد وحازم شاهين. وكان من المفترض أن يكتب أحمد أغنية لزياد الرحباني، لكن المشروع لم يكتمل. ومع ذلك، تعرف زياد على أشعار أحمد من خلال هذا التعاون، وبدأ تواصل بينهما.
أما حازم شاهين، فقد واصل مشواره الموسيقي، وأصدر قبل عدة أشهر ألبوما موسيقيا جديدا تضمن مقطوعة بعنوان: «زكريا أحمد إلى ما لا نهاية». وتضيف أميرة: ” ألف حازم هذه المقطوعة الموسيقية وهي مهداة للشيخ زكريا. وليست مقتبسة من ألحانه، بل وكأنها تحية صادقة من روحه إليه. وكان زياد الرحباني هو المنتج”.
“مدد” فني!
بدت المقطوعة كأنها سيرة ذاتية موسيقية، توثق مراحل عمر زكريا أحمد، وكأنها مذكراته الشخصية بصوت الموسيقى، وتستكمل: “شعرت أن ما فعله زياد خطوة نبيلة جدًا، أن يقوم اسم فني كبير مثله بدعم جيل جديد بهذه الطريقة”.
وترى أن هذا التقدير لا يحدث كثيرا، لأن كثيرين – على حد وصفها – لا يقدّرون الرموز الفنية كما يجب، ولا يقدمون مثل هذه اللفتات الجميلة. لكن ما فعله زياد كان بمثابة رسالة، أو “مدد فني” من جيل إلى جيل، وتحية رفيعة القيمة.
أحبت أميرة فن زياد الرحباني “بلا ولا شي”، وكان تأثيره كبيرا عليها شخصيا وعاطفيا. أحبت موسيقاه منذ زمن، دون أن تعرف أن جدها مصدر إلهامه، وتتابع: “كلماته دائمًا صادقة، وإنسانية، وتعبر عن انحيازه للإنسان، بعيدًا عن أي انتماءات سياسية”.
تجديد موسيقي
رغم حب زياد الرحباني للشيخ زكريا أحمد، إلا أنها ترى أنه لم يستلهم بشكل مباشر من موسيقاه. وتقول: “صحيح أن جدي، زكريا أحمد، كان مجددًا هو الآخر، لكن في الإطار الشرقي. وقد جدد طقاطيق العشرينات بطريقة جعلت منها أغانٍ قصيرة ومعاصرة، وهو ما أراه متقاطعًا مع فكر زياد واختلافه في أعماله”.
مزج زياد بين الجاز والموسيقى الحديثة، وتوضح: “لست خبيرة موسيقية، لكن أشعر باحتفاظه بروح مصرية خفية في بعض ألحانه الشرقية مثل أغنية (قال قايل) من ألبوم (في أمل)، لكنها ألحان مبهرة”.
واللافت أن الشيخ زكريا لم يكن مصدر إلهام لزياد وحده، بل أيضًا للمؤلف الموسيقي حازم شاهين، الذي يكن له تقديرا، كما يحب سيد درويش.
تقدير متبادل
تضيف النشوقاتي: “على مدار السنوات، منذ أول لقاء جمعني به وحتى آخر حفلة قدمها في مصر، كان زياد الرحباني يحرص في كل مرة على دعوتنا لحفلاته. ورغم أننا كنا نحضر على أي حال، إلا أن دعوته كانت دومًا محل تقدير ولفتة جميلة منه. لم تكن تربطني به صداقة شخصية مباشرة، لكن كان هناك ود وتقدير متبادل”.
وتتابع: “أرسلت له نسخة من الكتاب الذي ألّفته، فرد عليّ بإرسال مجموعة من أعماله، منها تسجيل لمسرحيته الشهيرة “بالنسبة لبكرا شو”، وفيلم “أميركي طويل”، وأيضًا “الخطة ب”. حاولنا مرارًا دعوته لزيارتنا أثناء وجوده في مصر، لكن انشغاله الدائم كان يمنع ذلك”.
وتضيف عن الجانب المهني: “كتبت عنه وغطيت له أكثر من مؤتمر صحفي، خاصة أنه كان قليل الظهور إعلاميًا، ونادرًا ما كان يجري مقابلات حصرية مع الصحفيين. وربما كان ذلك لأنه صحفي أيضًا، وكان من الصعب أن يحاور صحفيا”.
تصف شخصيته بقولها: “هو إنسان مثقف، شديد الإنسانية، خفيف الظل، ساخر بذكاء، وصاحب بديهة مذهلة. في كل أعماله يتحدث بصدق، وهو يُشبه فنه تماما – وهذه هي قمة الصدق. أن يُشبه الفنان عمله، وأن يعكس حضوره الشخصي جوهر ما يقدمه”.

الوداع الأخير
حرص الموسيقي وعازف العود حازم شاهين على حضور جنازة الموسيقار زياد الرحباني في لبنان، إذ جمعته به علاقة صداقة قوية.
وكان زياد قد أنتج الألبوم الأخير لشاهين، كما جمعتهما سابقا خشبات المسارح في حفلات مشتركة، قدم فيها شاهين باقة من أشهر أعمال الرحباني، من بينها: “أنا مش كافر”، “شو ها الأيام”، “أمريكا مين”، و”حدا من يللي بيعزونا”.
سيرة حاضرة
يتحدث الفنان والشاعر أحمد حداد عن علاقته الخاصة بالموسيقار زياد الرحباني، التي بدأت منذ لقائهما عام 2010. ورغم أنها لم تتوّج بعمل فني مشترك حتى الآن، إلا أنها كانت مليئة بالتقدير المتبادل والذكريات المؤثرة.
ويقول حداد لـ”باب مصر”: “زياد كان حاضرا في ذهني دائما، تأثرت به كثيرا، ودائما ما أحكي عنه وأضع لمسته في أعمالي، خاصة في الأفلام، فلا بد أن تتضمن شيئًا من أغانيه. لكن ما أدهشني حقًا هو أنه لم ينسني، وتحدث عني بكلمات طيبة، وكان لذلك وقع كبير في نفسي”.
ويتابع: “ما كنت أتمناه هو أن يجمعنا عمل فني حقيقي. وكانت هناك فرصة قريبة من ذلك، حين اقترح زياد على المطربة لطيفة أن نتعاون سويا. وبالفعل، تواصلت معي، وأبدت رغبتها في التعاون، ونقلت لي كلام زياد الجميل عني. كنت أتمنى أن تتوج هذه اللحظة بعمل مشترك، لكن للأسف، المشروع لم يكتمل”.
تعاون موسيقي وموقف لا ينسى
يشير حداد إلى أن الفنان الذي تعاون كثيرًا مع زياد هو الموسيقي حازم شاهين، قائلاً: “عملا معا بشكل أوسع، واستضافه مع فرقة إسكندريلا أكثر من مرة. ومن خلال هذا التعاون، حصل موقف بسيط في ظاهره، لكنه كبير جدًا بالنسبة لي”.
رغم أن زياد الرحباني لم يلحن لأحمد حداد بشكل مباشر، فإن هناك أغنية كتبها حداد ولحنها حازم شاهين بعنوان “صفحة جديدة” لفرقة “إسكندريلا”، وكان زياد بمثابة الأب الروحي للفرقة.
ويقول حداد: “في إحدى الحفلات التي استضاف فيها زياد فرقة “إسكندريلا”، رأيت بعيني زياد يعزف في الأغنية التي لحنتها، ويشارك في غنائها – ودي كانت لحظة كبيرة جدًا ومؤثرة بالنسبة لي”.
تعاون سينمائي
تطرق حداد أيضا إلى آخر تواصل جمعه بالموسيقار زياد الرحباني، وكان ذلك خلال عمله على فيلمه “أما عن حالة الطقس”. ويقول: “تواصلت مع زياد للحصول على إذن باستخدام أغنيته (ولا كيف) ضمن موسيقى الفيلم، وكان متعاونا جدا. اقترح أن تعاد غناؤها بصوت مطربة أخرى لتجنب أي مشاكل قانونية قد تواجه العمل، ومنحني موافقته على الاستخدام. كانت لفتة جميلة منه تؤكد احترامه للفن والمبدعين”.
ويعبر حداد عن مكانة زياد الفنية والثقافية بقوله: “عندما تفكر في لبنان أو بيروت، بعد فيروز، يأتي زياد مباشرة إلى الذهن. هو أقرب للفنانين المصريين في وجدانه، وأشعر دائما وكأنه ابن عم سيد درويش أو ابن خال زكريا أحمد. هذان الملحنان تحديدا هما أكثر من ترك أثراً واضحًا في تشكيل رؤيته الفنية، وكانا دائمًا حاضرين في شخصيته الفنية”.
عائلة الرحبانية
لم يسلم زياد الرحباني من نسب إنجازاته الفنية إلى عائلته الشهيرة، كما هو الحال مع أحمد حداد نفسه، المنتمي لعائلة فنية تضم الشاعرين صلاح جاهين وفؤاد حداد.
ويقول حداد: “رغم أن جميع أفراد عائلة الرحباني يتمتعون بموهبة كبيرة، فإن زياد هو الأكثر تميزا وخصوصية. في الستينيات، كان هناك عاصي ومنصور وإلياس، وقدموا أعمالا خالدة، لكن زياد جاء بروح مختلفة وعبقرية من نوع آخر”.
ويتابع: “هذا التأثر يظهر أيضا لدى الشعب اللبناني، خاصة في أغنية الوداع التي قدمها زياد مع فيروز، وتحديدا في المقطع الذي تقول فيه (بكرا برجع بوقف معكن)، والذي أصبح أشبه بالنشيد الوطني لدى الجمهور، الناس تردده وتضرب الأرض بأقدامها أثناء سماعه. لم أر تأثيرا مشابها في الموسيقى إلا مع سيد درويش”.
الموسيقى من أجل الموسيقى
يصف أحمد حداد الموسيقار زياد الرحباني بأنه “عبقري وملهم، وصاحب درجة عالية من الإنسانية”، مشيرًا إلى أنه واحد من القلائل الذين استطاعوا التحرر فنيًا من عباءة عائلاتهم الفنية العريقة دون أن يتنكروا لها.
ويقول: “زياد لم يكن مضطرا للهرب من إرث عائلته، بل أحبهم وعمل في صمت، وخلق لنفسه طريقا خاصا. هذا شيء أحترمه، لأنه ليس من السهل أن تجد لنفسك صوتا داخل عائلة لها هذا الحضور الثقيل في الذاكرة الفنية”.
ويتحدث عن تجربته الشخصية: “عندما ظهرت في سن الخامسة عشرة، تعرضت لهجوم فقط لأنني من عائلة فنية أيضًا. لكن الفن، سواء كان موسيقى أو كتابة، لا يُورث. قد أختار لاحقًا أن أقدم عملاً لأبي أو لجدي إن أحببته، لكنني لم آت إلى الشعر من خلالهم، بل من أجل الشعر ذاته. وزياد فعل نفس الشيء… اختار الموسيقى من أجل الموسيقى”.
ويضيف: “بالتأكيد هناك أفراد في عائلة زياد ليسوا فنانين، وهذا يؤكد أن المسألة في النهاية ليست وراثة بقدر ما هي صدفة، وموهبة حقيقية. كلنا نحبه ونحترمه، لأنه فنان تأثيره عالمي. الموسيقى التي قدمها تتحدث بلغة أبلغ من الكلام، وهو من القلائل الذين يمكن أن نستمتع بأعمالهم الموسيقية الخالصة كما نستمتع بالأغاني نفسها”.
اقرأ أيضا:
معرض في باريس يعيد رسم صورة «كليوباترا» بعيدا عن روايات الغرب
حروب المجاز: هل كانت «كليوباترا» سمراء؟
مزاد فني لدعم «درب 1718» بعد هدم مقره: الفنانون يردّون الجميل