دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

رحلة التآليف المولدية عبر القرون.. من كتب الموالد إلى أصوات المشايخ

في ليلةٍ من ليالي المولد النبوي الشريف، يصدح صوت الشيخ النقشبندي من تسجيل عتيق عبر راديو قديم:

“الحمدلله الذي أنارَ الوجودَ بطَلعةِ خيرِ البرية،

سيدِنا محمدٍ عليه الصلاة والسلام،
قمرِ الهدايةِ وكوكبِ العنايةِ الربانية،

مِصباحِ الرحمةِ المرسلةِ وشمسِ دينِ الإسلام”.
  

يتغنى بها الشيخ بصوت حاد قوي شجي. يداعِب آذان المحبين للحضرة النبوية المصطفوية. ويتلألأ من خلال أثير الإذاعةِ بالعرب السمحة والزخارف الجميلة. وبما حباه الله من ملكات لم يمنحها إلا لقلة من الأصواتِ التي حفظها لنا أرشيف الإذاعة. وما سجله محبوهم من السميعة المجاذيب، المتتبعين للمشايخ من أسطوات فن القوالة، في تلاوة القرآن الكريم والمديح النبوي.

وبعد قليلِ استماعٍ وإنصات لصوت الشيخ، يتبين السامع أن ما يتغنى بها ليس شعرًا محضًا، موزونًا ومقفى. وليس نثرًا محضًا، مرسلًا من غير جرس موسيقي. كما أنه ليس السجع الممجوج المتكلَّف المعهود في أساليب المنشئين من كتاب عصر الدواوين.

إنما هو لون أدبي شاعري، وليس شعريا، مقاماتي مسجوع بصنعة لطافة، وحسنِ صياغة وخفّة. وإذا سأل السامع أو بحث عن هذا اللون المختلِف البديع: علم – وربما لأول مرة- أنه كتاب مولدي، مشهور بـ”التغطيرة الشريفة” أو “مولد المناوي”.

فما قصة هذا اللون من التآليف؟ وكيف وصل إلى حناجر المشايخ الكبار، ثم إلى مسامع الناس في البيوتِ والشوارع وعلى المقاهي؟

الشيخ النقشبندي بين محبيه، من أرشيف المهندس رضا حسن، نشرت هذه الصورة في مقال عن الشيخ على موقع بي بي سي عربي
الشيخ النقشبندي بين محبيه، من أرشيف المهندس رضا حسن، نشرت هذه الصورة في مقال عن الشيخ على موقع بي بي سي عربي
نشأة كتب الموالد

كان للنبي عليه السلام- وما زال- منزلةٌ عاليةٌ ودرجةٌ رفيعة في قلوبِ المسلمين منذ مطلعِ فجرِ الإسلام وإلى اليوم. وقد عنيَ الرعيل الأول من آل البيت وصبيان الصحابة وجواريهم بحفظ سيرة النبي وغزواته وأخباره. وتلقَّفوها من أفواه آبائهم، ونقلوها إلى أبنائهم. وأبناؤهم إلى أبناء أبنائهم، وهكذا دوالَيك.

وكان ذلك منطقيًَا لضعف حركة التأليف والتدوين بشكلٍ عام، في عصرِ صدرِ الإسلام. ولعل أقدمَ وأشهرَ ما وصلَنا مدوَّنًا في سيرة النبي هو كتاب محمد بن إسحاق (توفي سنة 150هـ تقريبا). وتتابعت من بعده كتب السيرة. وكثرتْ وزادتْ وأفاضت في وصف النبي وحركاتهِ وسكناته، بل وأدق من ذلك.

ومع مرور الوقت بدأت تزداد عناية المؤلفين والمؤرخين الإسلاميين بالسيرة النبوية، وأفردوا لبعض أجزائها كتبا مستقلة. كان أشهرها وأكثرها عناية: الكتب التي جعلت من أجل قرائتها في ذكرى المولد النبوي خاصة. وتتناول سيرة النبي من لحظة الولادة ووصوله إلى دنيا الناس، وحتى خروجه منها إلى الرفيق الأعلى.

ولعل أقدم ما أُلف في ذلك هو كتاب أبي الخطاب عمر بن دحية الكلبي (توفي سنة 633هـ/1235م). وعنوانه: “التنوير في مولد السراج المنير”. ألفه خصوصًا لذكرى المولد النبوي، بعد رحلته في بلاد الله. إلى أن وصل إربل (أو أربيل، في كردستان العراق حاليًا) في ليلة المولد. وكان حاكمها الملك مظفر الدين الكوكبري في أواخر القرن السادس الهجري. ويعتبر كثير من المؤرخين الكوكبري أول من أقام احتفالًا رسميًّا ودعا فيه إلى الاحتفال بالمولد النبوي. ووزع فيه الحلوى وأنفق فيه وأطعم الطعام. وكافأ هذا الملك ابن دحية على كتابه هذا مكافأة كبيرة.

ثم تتابعَ العلماء المسلمون والمؤرخون على العناية بالتأليف في المولد خاصة. وتطورَ هذا النوع من التآليف مع مرور الوقت، إلى أن وصل إلى صبغته النهائية، في التعطيرةِ الشريفة، ذاتِ الطابَعِ الموسيقيِّ الطَّرَبيّ.

طبيعة هذه التآليف

تفتتح كتب الموالد بالثناء على الله، والصلاة على النبي، ثم يبدأ المؤلف في وصف لحظة المولد بأسلوب شاعري. ويذكر فيها ما جاء في الأخبارِ من معجزات، وأحيانًا تصل إلى حد الأساطيرِ، التي لا تخلو من دون شك من مبالغات خطابية. لا يقررها العقل، ولا يدعمها النقل. لكن تحولت هذه الأساطير مع كثرة الترديد إلى موروثٍ شعبي، امتزج بروح العوام. وتعدى إلى أوساط المتصوفة من العلماء أو المشايخ. وصارت فولكلورًا شعبيًّا لا يمكن فصله أو عزله من حياة الناس. 

والسبب في توغل هذه الأساطير، وتلك “المعجزات” هو المحبةُ الخالصة النقية، للذات المحمدية، والحضرة النبوية الشريفة، الملحوظة عند كل من يغشى مجالس الذكر الصوفية. ويتسللُ إلى الحضرة التي يقيمها أبناءُ الطرق ومشايخُهم، في كل أنحاء مصر. بل في العالم الإسلامي والعربي كله.

ثم بعد المعجزات، يتناول أحداث السيرة إلى البعثة، ثم إلى الهجرة. ثم إلى الوفاة والانتقال إلى الرفيق الأعلى. وجرتْ عادةُ المتصوفة، والمشايخ، وعلماءُ الدين، على إحياء ذكرى المولد من خلال قراءة هذه الكتب على الطلاب والمريدين والمحبين، في المساجد والزوايا. وأشهرها ما يكون في الجامع الأزهر، من إقراء أحد كتب الموالد كل عام، في ليلة المولد.

كما أن مجلة الأزهر تحرِصُ في كل عامٍ قبيلََ المولد بأيام أن تخرجَ أحد الكتب المولدية إهداءً لقراءِ المجلة. مساهمة منها في استمرار تلك العادة، وإشباعِ القراءِ المحبين، المتعلقين بالنبي عليه السلام. وتتبع هذا النوع من المؤلفات الشيخ محمد بن عبد الحي الكتاني وجمعها في كتابٍ نظرًا لكثرتها. ورتبها على حروف المعجم، وسمى كتابه: “التآليف المولدية، في التعريف بما أفرد بالتصنيف في المولد الشريف”. وصدرت الطبعة الأولى منه سنة 2011م، بعناية الشيخ عبد الله التليدي، عن دار الحديث الكِتانية.

التعطيرة الشريفة

لعلَّ القارئَ يذكر النصًّ الذي جعلناه بين يدي هذا المقال، وأشرنا إلى تغني الشيخ النقشبندي به. ولحسن حظه وحظنا أن جزءًا من هذا التسجيل متوفرٌ على الإنترنت. ليستمعَ إليه، ويتعرفَ على هذا اللون الذي يغفلُ عنه كثيرٌ من الناس هذه الأيام.

ولعله أيضًا يتساءَلُ عن سر اختيار هذا المؤلَّف الذي كتبه المناوي (المتوفَّى سنة 1031هـ – 1621م) دونًا عن سواه من بين المؤلفات العديدة. والحقُّ أننا لا نملِكُ جوابًا حقيقيًّا يكشفُ هذا السر، لكن نكتفي بأنه استحسانٌ شعبيٌّ، من الذوق العامِّ في الوسط الصوفي المتدين، من بضعة قرونٍ إلى اليوم.

ويقع الخلطُ أحيانًا بين التعطيرة الشريفة ومولد البرزنجي، والأولى على التحقيق للمناوي كما ذكرنا، أما البرزنجي فله نصٌّ مستقلٌّ تمامًا عنها.

غلاف مولد المناوي، المعروف بالتعطيرة الشريفة، طبعة الشمرلي العتيقة
غلاف مولد المناوي، المعروف بالتعطيرة الشريفة، طبعة الشمرلي العتيقة
مولِد البَرَزَنْجي أو البَرْزَنْجي

حُفظ لنا تسجيلٌ قديم بصوت الشيخ محمود خليل الحصري، لهذا المولد، الذي كتبه الإمام البرزنجي (المتوفَّى سنة 1177هـ – 1764م)، ومطلعُه:


“أبتدئُ الإملاءَ باسم الذاتِ العليَّة،

مُستَدِرًّا فيضَ البركاتِ على ما أنالَه وأولاه،
وأثَنِّي بحمدٍ موارِدُه سائغةٌ هنيَّة،

مُمتَطِيًّا من الشكرِ الجميلِ مطاياه”
إلى قوله:
“وأنشرث من قصةِ المولدِ بُرودًا حِسانًا عبْقريَّة،

ناظِمًا من نسَبِه الشريفِ عِقْدًا تُحَلَّى المسامعُ بِحُلاه،

عطِّرِ اللهمَّ قبرَه الكريمْ

بِعرْفٍ شذيٍّ من صلاةٍ وتسليمْ”.

ويستمر على هذا المنوال في ذكر النسب المحمدي. ثم باقي السيرة حتى النهاية، على هذه السجعات، التي تتخللها أفانينُ الأداء المشيخية، التي أبدع فيها كبارُ المشايخ، من أمثال الشيخِ علي محمود، والشيخ طه الفشني، وغيرهم كثيرون جدًّا.

مقدمة مولد الرزنجي
مقدمة مولد الرزنجي
من بطون الكتب إلى الأدب الشعبي

بانتقال نصوص بعض هذه المؤلفات إلى أوساط العوام في القرون الماضية، عبرَ أصواتِ المشايخ الجميلة. انحفرت هذه النصوص، أو معانيها ومضامينها في نفوس السواد الأعظم من العوام. خاصةً في مصر والشام، ما جعل منها- آخر المطاف- أدبًا شعبيًّا مستقلًّا، وثقافةً شعبيةً خالصة، خارجةً تمامًا عن ثقاقةِ النخبةِ الضيقةِ المحصورة. لكن في العقود الأخيرة اتسعت الفجوة بين العامة وبين هذه النصوص. وأصبحت تراثًا عصيَّ الفهم، وعسيرَ الحفظ، ومحدودَ التأثيرِ في نفوس المستمعين، نظرًا لاتساع الفجوة بينهم وبين كل ما هو قديمٌ أو تراثي.

ونرجو من خلال هذا العرض أن نكون قد قدمنا لونًا من ألوان التأليف التراثية. والذي هو ثمرةٌ حقيقية من ثمرات المحبة الخالصة للنبي عليه السلام، والتي أحسن التعبيرَ عنها مشايخُ دولة التلاوة (مصر) ومبتهلوها ومنشدوها الكبار.

اقرأ أيضا:

«ليلة الملوخية».. عادة متوارثة للاحتفال بالمولد النبوي بنجع العقاربة

من البقالة إلى الشعر.. حكاية «عوض قشطة» شاعر الدقهلية المنسي

شارع العباسي بالمنصورة.. حكاية سوق بين مئذنتين

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.