رحلة البحث عن ابن خُط الصعيد

في إبريل عام 1955 صدر العدد الأول من جريدة «الجريمة»، جريدة أسبوعية تصدر كل خميس تعني فقط بأخبار الجريمة والحوادث ، ورأس تحريرها “برتي بدار” الذي لا يكاد يذكر الآن سوى مقترنا فقط بالاشتراك في كتابة عدة سيناريوهات أفلام مثل “حميدو” و”رصيف نمرة 5″. وكان برتي يحرر أسبوعيا الصفحة الأخيرة لجريدته بعنوان ثابت «لمسات» يكتب فيها قصصا قصيرة جميعها مرتبطا بالجريمة.

ومع صدور العدد الأول من “الجريمة” بدأت تنشر مذكرات الضابط محمد هلال، والذي كان مشهورا بأنه قائد فرقة الموت التي كانت تطارد خُط الصعيد “محمد محمود منصور” الذي قتل في أغسطس 1947. بدأ محمد هلال في نشر مذكراته عن الخط على حلقات مسلسلة في الجريمة وتحت عنوان عريض هو “أسرار الخُط معي” نشر كل الأسرار المتعلقة بمطاردة الخُط وكل الحيل التي كشفها الخط أثناء مطاردته. كما نشر صورا من رسائل الخط التي أرسلها إليه وكانت تحمل تهديدا صريحا لهلال.

كانت الحلقات تنشر مزودة برسومات كأنها تنطق بالأحداث الدائرة. فأبدع الرسام الذي وقع باسم “ريمون” في  تجسيد شخصيات أبطال ملحمة الخط (فضة والدته وسميرة عشيقته والخط نفسه وبعض من رجاله.. إلخ).

صلاح عيسى يكتب أفيون وبنادق

وبعد سنوات بدأ الأستاذ صلاح عيسى في نشر حلقات “أفيون وبنادق” في مجلة 23 يوليو عام 1979 وكانت تصدر من لندن. وكانت الحلقات عن قصة خُط الصعيد. ثم جمعت مؤخرا في كتاب بنفس الاسم وصدر منذ عامين.

من يقرأ كتاب أفيون وبنادق سيلاحظ أن صلاح عيسى اعتمد  على مذكرات “محمد هلال” وذكر ذلك في مقدمة الكتاب، بالإضافة إلى اعتماده على بعض التحقيقات والمقالات من هنا وهناك مثل تحقيق هيكل الشهير عن الخط المنشور في مجلة آخر ساعة.  ولو لم يكتب هلال مذكراته وينشرها في جريدة الجريمة ثم يجمعها في كتاب بعد ذلك لفقدنا حتى اليوم مصدرا أصيلا من أهم مصادر حياة الخط. ولما بقى لنا سوى تحقيقات قليلة لا تكف لعمل دراسة كبيرة عن ذلك الرجل الذي دوخ ثلاث حكومات.

 

انتهت حلقات محمد هلال بمقتل الخُط والصرخة الشهيرة لوالدته “فضة”: “يا أزرق العينين يا كايد الحكومة يا محمد”. وهي نفس النقطة التي انتهى عندها أيضا صلاح عيسى وأضاف عيسى عرضا لعدد من التحقيقات التي تتساءل عن مصير ابن الخط “هاشم”. ذلك الطفل الذي لم يكن يتعدى عمره عامين وقت مقتل والده.

وقد نشر في آخر ساعة بعد مقتل الخط تحقيقا بعنوان “ابن الخط تتبناه الحكومة؟”. فضلا على الدعاوي التي طالبت بضرورة تعليمه حتى يكون التعليم سلاحه ضد الجهل والثأر. وظل اسم “هاشم منصور” ابن الخط يتردد في الصحف عدة أسابيع بعد مقتل والده مع تكهنات بمصيره وسلوكه القادم. ومرت الأيام وتوارت أنباء ابن الخط وذهب في غياهب النسيان وضرب بعرض الحائط كل الأصوات التي دعت لاحتضان الحكومة لهذا الطفل.

رحلة البحث عن ابن الخط

بعد 16 عاما من مقتل الخط  ذهب الصحفي “كمال سعد” المحرر في آخر ساعة إلى قرية “درنكة” بأسيوط مسقط رأس الخط، ذهب الصحفي عام 1963 في رحلة البحث عن ابن الخط .ومعرفة ما هو مصيره الآن ومصير فضة جدته ورشيدة والدته وكانت الرحلة  مثيرة  واستطاع الصحفي إجراء حوار مع “هاشم منصور”.

قبل أن يلتقي بهاشم ابن الخط جلس مع الكثير من أهالي درنكة في أسيوط ليستمع إليهم. كانوا جميعا يصرون على أن شيئا ما سيحدث في منتصف الطريق لهذا الشاب وأنه ليس من المعقول أن يخرج ابن الخط إلى الدنيا ليصبح فيها شيخا وقورا. كان أهالي القرية ينظرون إلى قصة الخط وكأنها أسطورة ناقصة سيكتبها ابنه من بعده. بل ويؤكد أهالي القرية أن تظاهر هشام منصور ابن الخط بالصلاة والتقوى ما هو إلا تمثيلية رائعة رسمتها جدته “فضة” التي أقسمت على الانتقام يوم مصرع ابنها.

ويذهب أهالي القرية لأبعد من ذلك وهو أن فضة تأخذ بيدها صغيرها وتصعد إلى مغارة الشيخ بخيت. وهذه المغارة يعرف أهل البلدة أنها كانت أشهر مخابئ الخط وقت أن كان في عز مجده وسطوته على أهل الصعيد. ويتفق أهالي البلدة على أن الجدة “فضة” لابد وأنها قد أرضعت حفيدها باللبن الممزوج بالحقد والكراهية وهو الآن يعرف أعداء أبيه واحدا واحدا.

وعندما التقى الصحفي بهاشم وصف انطباعه قائلا: “الملل والقلق والضياع أصبحت هي الانطباعات الوحيدة التي تستطيع أن تكتشفها عندنا تدقق النظر في تقاطيع وجه أثناء اندفاعه معك في الكلام. وتجربة السنوات القليلة التي قضاها وهو يجري من الكلمات القاسية التي ظل يعايره بها أهل القرية. هذه التجربة خلقت منه إنسانا مهزوزا لا يعرف عن أمور الدنيا ما يفيده وما يؤذيه. فهو اليوم مقتنع بفكرة معينة وهو في الغد عدو لهذه الفكرة. ولكنه وسط الحيرة والارتباك تجده دائما يهرب منك أثناء الكلام ويظل بخياله مندفعا وراء أفكار مجنونة”.

 

في المدرسة مادة للسخرية

من المفارقات المؤلمة أن الصيحات التي أطلقت بعد مقتل الخط باحتواء ابنه وتعليمه حتى يكون العلم سلاحا له تبددت عندما اختار هاشم منصور التعليم طريقا له يحتمي به كسلاح كان ينقص أباه. لأن ما حدث هو أنه فوجئ من أول يوم له في الدراسة بمدرسة “درنكة الأولية” بالمدرسين يوقفونه في الفصل ويتخذون منه مادة للسخرية أو للشرح. فهذا مدرس الدين يوقف هاشم وسط التلاميذ. ويسألهم وهو يشير إليه “هل تعرفون لماذا نشأ هذا الطفل يتيما؟ لأن أباه كان مجرما خطيرا وظن أنه قادر على الهرب من القصاص وكانت نهايته هي نهاية كل مجرم أثيم. فمن قتل يقتل لو بعد حين”.

واستطاع المدرس بوسيلته القاسية في الشرح بأن يجعل الطفل يكره المدرسة وينفر منها منذ اليوم الأول. فكان يشعر دائما باحتقار المدرسين له وهو ما ينعكس على تعامل زملائه معه. ولذلك فقد ظل في المدرسة إلى أن وصل للصف السادس وتركها بعد ذلك للأبد. وظلت جرائم أبيه تطارده أينما ذهب، وعقدة الشعور بالذنب تتضخم في عقله وتسيطر عليه.

شبح أبيه يطارده في العمل

ويستمر الحوار مع الصحفي وينفعل الشاب الصغير ذو العينين الزرقاوين كعيني أبيه وترقرق في عينيه الدموع. وهو يقسم بالله أنه لم يفعل شيئا ولم يرتكب أي جريمة ويصرخ وهو يلوح بعصا كان يحملها: هل يرضيك؟ هل يرضيك أن تعرف أن لعنة أبي تطاردني حتى الآن؟

ويتابع ابن الخط قائلا: “هل تصدق أنني فشلت في العثور على أي لقمة عيش بعرق جبيني. وليت فشلي في العثور على هذا العمل كان بعيدا عن الإهانة. فقد كنت أطير من السعادة كلما سمعت أن واحدا من أصحاب الأرض الزراعية في حاجة إلى عمال زراعيين لجني المحصول. كنت أخرج وأذهب -وكلي أمل – لصاحب الأرض وقد صممت على أن أكون خادما له حتى النهاية.

وكانت الصدمة القاسية تحدث عندما يسمع صاحب الأرض اسمي. كان ينتفض في هذه اللحظة وكأن ثعبانا قد لدغه ثم يندفع ليخرجني بيده من وسط الصفوف وهو يصب كل لعناته على ريس العمال بقوله :”الله يخرب بيتك جايبلي داهية، خليه يغور زي ما غار أبوه”.

وهنا يسأله المحرر: “ولكن ألا تعتقد أن هناك شيئا غير ماضي أبيك يطاردك في مورد رزقك؟”.

ويجيب هاشم: يمكن… ولو أن أهل البلد يعرفوني كويس وكلهم عارفين أني بأصلي وإني مستقيم واني تزوجت في الشهور الماضية علشان أؤكد لهم رغبتي في الاستقرار. ولو كنت أريد الانحراف أو الخروج على القانون لفضلت العزوبية حتى استطيع أن أكون حرا وحتى أربط مصيري بالجبل الغربي. دون أن يكون في هذا المصير مستقبل زوجة أو ابن مثلا.

قصة الخُط

ويسأله الصحفي: “إذن لماذا لا يريد الناس فتح الطريق المسدود أمامك؟”.

ويجيب وهو يضع رأسه بين يديه: اسألهم .. ولو أني عارف الإجابة الحقيقية على هذا السؤال، “فيسأله سريعا: وما هي؟”.

فيجيب: “أنها حكاية قديمة بطلها أبي والذي يجني ثمارها الآن هو العبدلله.كان أبي في مستهل حياته يرعى الغنم وحدث أنه ذهب بأغنامه إلى أرض يملكها شيخ الخفر في درنكة واسمه “حميدة” ورآه صاحب الأرض فهجم عليه وظل يصفعه على وجهه. وعاد في اليوم التالي إلى نفس المكان وهو يحمل بندقية أفرغها في قلب وجسد ابن شيخ الخفر. وبعد الحادثة بيوم واحد بدأ الثأر بقتل أكبر أفراد عائلة أبي. قتلوا عم أبي وجن جنون أبي لأنه كان يحب عمه فحمل بندقيته مرة ثانية وذهب مع أفراد عائلته ليقتلوا في ثلاثة أيام تسعة مرة واحدة من عائلة شيخ الخفر. وبعد عملية القتل بالجملة خرج أبي مع أخوته وبدأوا في ارتكاب الجرائم التي ذاع بسببه صيت الخط”.

وهنا يسأله الصحفي: وما علاقة هذه القصة بعدم رغبة الأهالي في معاونتك لكسب لقمة العيش؟

أجاب: ما هو الخلق كلهم بيقولوا أن الواد هيطلع لأبوه ومش بعيد أن حكاية شيخ الخفر تتكرر لو صاحب الأرض غلط مرة واحدة ووجه إهانة لابن الخط.

**

كان مشهد مقتل الخُط بـ21 رصاصة استقرت في جسده مشهدا لا ينساه أي فرد من أفراد القرية. وكانت أفكار الناس كلها أن العجوز “فضة” لا تنسى الذين قتلوا ابنها وتبث في عقل حفيدها الصغير مع كل يوم فكرة أخذ الثأر من الذين قتلوا أباه.

ويسأله الصحفي هل ما يدور في أذهان الناس صحيح؟

ويجيب وهو يبكي: “أنا فشلت في إقناع الناس، أنا زهقت من مطاردتهم ليا، كل واحد فيهم بيرسم مصيري وكأنه الله. كأنه العليم بمواطن الأمور. أنا أمنيتي أن أختفي من هذه الدنيا أن أغمض عيني وأفتحها لأجدني إنسانا آخر. لأجد أبا لي غير هذا الأب الذي أورثني شماتة الناس وحقدهم.

فقد كنت أتمنى ألا يحدث كل هذا من أبي، وجدتي اللي بيقولوا عليها إنها بترضعني الثأر. منذ أكثر من خمس سنوات وهي لا تسمع ولا ترى. أنها عبارة عن عجوز مشلولة تقضى بقية أيامها وهي تئن من الآلام التي تأكل جسمها. فهل من المعقول أن يصدر من هذه العجوز مثل هذا الكلام؟ وحتى لو صدر أليس لي أنا عقل؟ ألست أعلم عاقبة الجريمة؟

**

وهنا سأله عن والدته وكانت قد تزوجت بعد مقتل زوجها، فأجاب ابن الخط: أن والدتي ماتت منذ سنوات.

– وإيه شعورك دلوقت ناحية الذين اشتركوا في قتل أبيك؟

بأطلب من ربنا لهم المغفرة . ربنا يجازيهم بقدرما فعلوا، وفي سر أحب أذيعه لأول مرة، لقد عرفت من أقرب الأقارب إلى والدي أن عمدة جحدم الذي قتله كان شريكا له في عمليات الخطف التي حدثت في منفلوط.

– بتسمع مغامرات أبوك في الجبل الغربي؟

كتير .

– وبتصدق الحكايات دي؟

أيوه لأنها تكررت في ألسنة الناس مرات عديدة

– ومافيش قصة من هذه القصص كنت لا تصدقها؟

فيه

– زي إيه؟

إن مثلا أحيانا أسمع أن أبويا كان بيقتل على طول. وأنا غير مؤمن بأن فيه إنسان يقتل لمجرد أنه يقول للي قدامه خلاص أنا هموتك. لازم فيه أسباب ودوافع مش موت عمال على بطال، يعني مرة قالوا أنه خرج على خمسة أشخاص من قرية وقتلهم مرة واحدة، هذه لا أصدقها ومرة قالوا أنه قعد بجوار حكمدار أسيوط في السينما الشتوي ليتحداه، وهذه الكذبة وأمثالها لا أصدقها .

– طيب أنت ليه بتعتقد أن أبوك كان بيقتل؟

والله ده سؤال معرفتش جوابه لغاية دلوقتي، ولو أني أرجع وأقول أنه لا يوجد إنسان مبسوط ومرتاح ويقعد يموت الناس ويخرب الدنيا.

 

**

وتتوالى الأسئلة على “هاشم منصور” ابن الخط الذي يحب دخول السينما ويحب الأفلام العاطفية. ويكره أفلام العصابات لأنها تصيبه بنوبة صرع بعد الخروج منها ولا يحب سماع الأغاني ويسمع قرآن فقط .

ويترك الصحفي ابن الخط بعد أن وعده بأن يرفع قصته إلى محافظ أسيوط حتى لا يتركه هكذا بلا عمل ومعرض للانحراف في أي لحظة .

وربما يعيد هذا التحقيق الصحفي إلى الأذهان التحقيق القديم “ابن الخط تتبناه الحكومة” ويبدو أن الحكومة لم تتبن ابن الخط سابقا أو لاحقا. والسؤال الآن كيف أصبح مصيره بعد هذا الحوار وكما ذكر فيه أنه تزوج وربما أنجب أبناء، فما هو مصيرهم؟

هل “هاشم منصور” ابن الخط لا يزال على قيد الحياة؟ وأحفاد الخط في قرية “درنكة” بأسيوط هل لهم وجود الآن؟

اقرأ أيضا

«فؤاد الشامي» ملك الظلام يعود من جديد

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر