خرافات ونصب وسرقة: طبيب يستغيث بالملك فؤاد لمنع الإعلانات الطبية

سنة 1923 رفع الطبيب فخري ميخائيل تقريرا إلى الملك فؤاد يطلب منه التدخل لوقف الدعايات الطبية المضللة، ويستعرض فيه بعض الإعلانات التي تستغفل الناس، وتتاجر بأمراضهم، وينهي التقرير بسؤال المولى عز وجل “بأن يسدد خطوات رجال حكومتنا الأفاضل في خدمة البلاد ، ويطيل حياة صاحب الجلالة الملك المحبوب وولي عهده سمو الأمير فاروق”.

ونحن نقرأ التقرير بعد قرن من الزمان نشعر بدوار، وكأننا سقطنا في حفرة برميلية نلف وندور فيها دون أن نتقدم للأمام. وكأن الزمن توقف. وكأن الدكتور فخري ميخائيل ما زال يصرخ  بسبب ممارسات تتم الآن، ولكن على نطاق أوسع وبإمكانيات أكبر.

سنة 1923 كانت الإعلانات تتم عن طريقين، الأول من خلال النشر في الجرائد، وكانت مدة نشر الإعلانات لا نهاية لها، لأنها تستمر طول حياة الطبيب وتنتهي عند رحيله من البلاد أو (بعد عمر طويل) بعد وفاته.

والأخير من خلال كتابة منشور وتوزيعه عن طريق “الأولاد جامعي أعقاب السجائر وما سحي الأحذية”. أما الآن فتطاردك الإعلانات الطبية المُضللة في كل مكان كما نعلم جميعا.

ترى ما هي المنتجات والعقاقير الطبية التي كانت منتشرة منذ قرن؟

إعلان قطرة اللؤلؤة

يقول الإعلان: “تشفي بكل تأكيد ـ جميع التهابات العين ـ والجفون الحديثة والمزمنة، واللحمية أو الحبيبات اللحمية، تزيل احمرار العين والجفون والغباشة والنقطة عن العين، تمنع الرمد الصديدي، تستأصل الشعرة بدون سلاح”.

ولأن موضوع إزالة الشعرة بدون سلاح يعتبر غريبا وغير قابل للتصديق يقول الطبيب في إعلانه:

“كان يظن الناس أن الشعرة لا يمكن استئصالها إلا بواسطة العمليات الجراحية رغما عن أن العمليات تشوه منظر العين التي هي نقطة جمال الوجه، ولكن قوة الله فوق كل قوة وعلمه فوق كل علم. فقد أراد سبحانه وتعالى أن ينفع عبيده بفائدة عظيمة لم تكن تخطر على بال بواسطة عبده، فقد ساقتني الصدف لاستعمال علاج امرأة فقيرة كادت الشعرة تعميها… فاستعملت لها “قطرة اللؤلؤة”. فجاءت بنتيجة ما كنت أحلم بها، وهي أن الشعرة لم تعد تظهر أبدا وأصبحت عينها آية في الجمال … ولذلك أعلنها الآن بكل جرأة خدمة للإنسانية غير مبال بغضب أطباء العيون ولا رضاهم”.

من الإعلانات الطبية
من الإعلانات الطبية
الدهان والحبوب السحرية

إعلان الدهان والحبوب السحرية من نماذج المنتجات الطبية التي كانت منتشرة منذ قرن، وكان أحد الأطباء يوزعه عن طريق ماسحي الأحذية وغيرهم ويقول فيه.

الأستاذ الدكتور فلان اختصاصي في الأمراض الطبية من إنجلترا وفرنسا وألمانيا، اطلبوا دهان الدكتور فلان.. دهان صحي للتقوية وإطالة المدة!!؟ ثمنه 10 قروش صاغ”.

وفي إعلان آخر وزعه هذا الطبيب كتب الآتي: الحبوب التناسلية للدكتور فلان بالجهة الفلانية….. كثير من النساء المصابين بأمراض عدم الحمل وخلافها يعشن بالأمراض ولا يقبلن فحصهن بواسطة طبيب. لذلك قد بحثتُ وتوصلت إلى إيجاد تركيب هذه الحبوب لمعالجة جميع أمراض النساء، وخصوصا عدم الحمل والالتهابات وعدم انتظام العادة وانقطاعها، والضعف والوجع والرطوبة.

وقد جربتُ هذه الحبوب في أوروبا فنجحت ونلت الجائزة الأولى، واستعمال علبة واحدة يجعل العاقر تحمل بعد شهرين من استعماله، مهما كانت الأسباب، وتفيد المرأة التي يحصل عندها دائما (سقط)… العلبة 100 مائة قرش صاغ، وتطلب من العيادة وترسل بالبوستة، وقد صادقت على فوائدها وزارات الصحة النمساوية والألمانية…. !!!!؟

لغة النصب واستغفال المرضى

في حديثه إلى جلالة الملك يهاجم الدكتور فخري ميخائيل لغةَ الإعلانات عن الأدوية والعقاقير قائلا: أصبحت لغة يسعى فيها من يريدون ابتزاز أموال الشعب باستغفال الشعب، بل إن فيها من روح التحقير والسخرية بالأمة ما يستدعي قيام رجال السلطة باتخاذ الإجراءات الفعالة لإيقاف هذه الألفاظ عند حدها، لأنني أرى في هذه الكتابة صورة بشعة. أرى فيها رجلا نصابا ينظر إلى مجموعة من الفلاحين وأهل المدن البسطاء ويقول لنفسه: المصري مغفل يصدق كل شيء، فلنأخذ أمواله ببضعة إعلانات، ولو أخذ هذا المال بدون إيذاء صحة المصري البسيط لعذرناه كزملائه المسيطرين على بورصة القطن المصري، ولكنه يعتدي على صحة البلاد العمومية، ولذا يجب إيقافه عند حده بواسطة إدارة رقابة المطبوعات الطبية.

الدافع الحقيقي لطلب هذه الرقابة كما يقول الدكتور فخري هو الفوضى الفظيعة في الإعلانات الطبية عموما، لأنني أعرف أن أكابر الأطباء يترفعون عن مثل هذه الإعلانات المشينة. وأما هذه الطبقة التي ترصع جيد الجرائد بأسمائها التي تدرج داخل إعلانات مأجورة لغتها ساقطة، وكذب صراح فإنها لا يليق  اعتبارها ـ أدبيا ـ كطبقة من الأطباء، بل إنها مجموعة من المرتزقة في بلاد ليس بها ـ لسوء الحظ ـ أي هيئة تقي الأطباء والطب والمرضى شر هذه  الحيوانات الطفيلية التي تتغذى من دماء كرامة المهنة وصحة المرضى، من شعب لم ينتشر التعليم بعد في طبقاته، فأمام هذه الفوضى وما ينتج عنها من الإضرار بصحة الشعب ليس على الحكومة إلا أن تتدخل.

يخجلني أن أطلب تقييد حرية الطبيب في أي عمل يعمله، ولكن الحالة الأدبية في مهنة الطب في مصر أصبحت تُخْجل وتشين لدرجة تجعل الإنسان يضحي في سبيل إصلاحها بكل شيء حتى بجزء من الحرية الشخصية.

الصرخة والفراغ

منذ قرن بالتمام أطلق الدكتور فخري صرخةً قوية، لكنها ظلت تدور في الفراغ حتى مات الملك فؤاد، وكبر الأمير فاروق وتولى الحكم، وجاء بعده عدة رؤساء، وما زلنا بحاجة إلى مراقبة الإعلانات الطبية، والقضاء على أشكال استغفال المرضى، والمتاجرة بآلامهم.

مازالت صرخة الدكتور فخري تدور في الفراغ وتجذب حولها صرخات وصرخات، لأننا أمام لعبة مستمرة أو تقوم على نفس الأسس: دغدغة مشاعر المُتْعَبين بالوعود السحرية، واستغلال الدين في الترويج للخرافات، واستخدام الفقراء في سرقة الفقراء.

تعيش الأمم الناجحة في زمن يتقدم إلى الأمام بشكل مستقيم ومنتظم بينما نعيش في زمن دائري. فاللحظة التي نعيشها الآن سبق وأن عشناها في زمن سابق، والتحذيرات التي أطلقها أسلافنا منذ قرن تظل صالحة حتى الآن، تختلف المظاهر الخارجية، ويبقى الجوهر الداخلي كما هو، تتغير الأعراض ويبقى المرض بلا علاج.

اقرأ أيضا

الإنشاد الديني والثقافة الشعبية: تجديد الخطاب والحزام السحري

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر