حين يواجه التمثيل الحقيقة.. لماذا تُثير أفلام السيرة الذاتية كل هذا الجدل؟
أثار فيلم «الست» بطولة الفنانة منى زكي، الذي يتناول السيرة الذاتية للمطربة أم كلثوم، جدلا واسعا وتباينا في الآراء حول اختيار الممثلين لأداء الشخصيات الرئيسية، ومدى التشابه بينهم وبين الشخصيات الحقيقية. وهو ما فتح باب التساؤلات حول مدى الالتزام بالحقائق التاريخية في أفلام السيرة الذاتية. وإمكانية تقديم هذه الأعمال مع وجود اختلاف في الملامح الجسدية أو الصوت للشخصية الرئيسية. وتأثير ذلك على مصداقية العمل وقدرته على إقناع الجمهور.
هذا الجدل ليس جديدا، إذ يتكرر مع تقديم أفلام السيرة الذاتية الأجنبية. ويستعرض «باب مصر» أبرز الدراسات المتعلقة بأفلام السيرة الذاتية لا سيما الخاصة بالفنانين، إلى جانب آراء فنانين ونقاد بشأن أفلام سيرة ذاتية عالمية تعرضت للجدل نفسه.
بدايات أفلام السيرة الذاتية للفنانين
ترجع بدايات أفلام السيرة الذاتية لشخصيات فنية إلى أربعينيات القرن الماضي. حين قدم المخرج ألفريد إي. جرين فيلم «قصة جونسون» عام 1946، الذي تناول سيرة المغني وكاتب الأغاني الأمريكي من أصل ليتواني آل جونسون. لاقى الفيلم إقبالا جماهيريا آنذاك، وحاز ثلاث جوائز أوسكار عن الموسيقى التصويرية. وبحسب مجلة “ميلوديك مجازين” شكل نقطة انطلاق حقيقية لهذا النوع السينمائي.
ولم تقتصر هذه الأفلام على تقديم السيرة الذاتية للموسيقيين فقط، بل نجحت كذلك في تحقيق إيرادات مرتفعة. من بينها فيلم “سيلينا” إنتاج عام 1997، من بطولة جينيفر لوبيز، الذي حقق إيرادات وصلت إلى 611 مليون دولار في الأسبوع الأول للعرض. ونال إشادة لتناوله السيرة الإنسانية والفنية لسيلينا كوينتانيلا بيريز.

تشكيل الذاكرة العامة
من هنا، تصاعدت شعبية هذا النوع السينمائي الذي يستكشف حياة رموز الموسيقى والفن وتأثيرهم في مجالهم. وبحسب مجلة “ميلوديك مجازين”، تمثل أفلام السيرة الذاتية مزيجا من السرد والسيرة والموسيقى. لتسليط الضوء على القصص الشخصية لفنانين ذوي شهرة واسعة.
ووفقًا لمبادرة آننبرج للشمول بجامعة جنوب كاليفورنيا، “بإمكان أفلام السيرة الذاتية تشكيل الذاكرة العامة والتأثير في التغيير الاجتماعي”. لأنها تمزج بين السرد والحقيقة إلى حد يتلاشى فيه الفارق بينهما. وغالبا ما تصبح هذه الأفلام هي الرواية التاريخية الراسخة، سواء بشكل إيجابي أو سلبي.
الحقيقة والخيال
يواجه هذا النوع من الأفلام انتقادات مستمرة بسبب طمس الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال. وبحسب تحليل نقدي نشر في مجلة “تاستراي” الفنية. فإن هذه الأعمال تعتمد على مشاهد مضاءة بأضواء الاستوديوهات لتحقيق أقصى قدر من التأثير العاطفي، وليس بالضرورة إعادة بناء أحداث الماضي بدقة.
وعن الجدل المتعلق بمدى شبه الشخصيات الرئيسية بنظيراتها الحقيقية في أفلام السيرة الذاتية. يشير تحليل نقدي بموقع “تاستراي” الفني إلى أن تحدي التمثيل يتضاعف في هذا النوع من الأعمال. لتوافر كم كبير من المعلومات الموثقة عن الشخصية.
ويضيف: “هنا لا نكون أمام دور متخيل بالكامل، بل أمام إنسان حقيقي يعرفه الجمهور ويتفاعل معه. فضلا عن أن ملامح الشخصية وطريقة حديثها وحركاتها موثقة ومحفوظة في الذاكرة العامة. وعلى الممثل أن يحاكيها بدقة”.
دور غير متخيَل
بحسب مقالة بحثية بعنوان “التمثيل في سيرة ذاتية: لعب الدور الحقيقي” للممثلة والكاتبة ميشيل ساباتو، فإن التمثيل يتطلب من الممثل دراسة متعمقة لأبعاد الشخصية التي يؤديها. إلا أن تقديم السيرة الذاتية يُضاعف من صعوبة المهمة. لأن الدور هنا غير مُتخيل، بل يستند إلى شخص حقيقي.
وتستشهد ساباتو بمقولة سانفورد ماينسر، مدرس التمثيل الشهير: «التمثيل هو التصرف بصدق في ظروف خيالية». وتطرح تساؤلا حول إمكانية تطبيق هذه المقولة في حالة أفلام السيرة الذاتية المستمدة من أحداث واقعية، وتقديم شخصية تاريخية معروف شكلها للجمهور.
ما دور الممثل في أفلام السيرة الذاتية؟
في ورقة بحثية بعنوان: «اللعب والتقليد والتجسيد: عن التمثيل في أفلام السيرة الذاتية»، للباحثة سيلفيا كولوس، من قسم الدراسات الثقافية وقسم السينما والثقافة البصرية بجامعة نيكولاس كوبرنيكوس في مدينة تورون البولندية. تنطلق الدراسة من سؤال جوهري حول دور الممثل في فيلم السيرة الذاتية. وما الذي يعنيه تجسيد شخصية حقيقية.
وتستعرض الدراسة تجارب بارزة، مثل أداء هيلين ميرين عند تجسيد شخصية الملكة إليزابيث. سواء الأولى أو الثانية، وتجربة فيليب سيمور هوفمان في تجسيد شخصية ترومان كابوت.
كما تشير إلى تجربة توماش كوت في أداء دور جراح القلب البولندي الشهير زبيجنيو ريليجا. وتتساءل عن أسباب التأثير الذي تركته صورة تشارلي تشابلن على الشاشة كما قدمها روبرت داوني جونيور.
تصور مقنع للشخصية الأصلية
تطرح كولوس في ورقتها البحثية سؤال الإقناع، ومدى قدرة أدوار السيرة الذاتية على جعل المشاهد يصدق ما يراه. وتستخدم كلمة “مقنع” عن قصد بدلا من “دقيق حرفيا”. لأن النقاش لا يدور حول التطابق النصي، بل حول شعور المشاهد بان هوفمان كان كابوت فعلا، وأن ميرين كانت الملكة إليزابيث.
وتؤكد في ورقتها البحثية أن الدور لا يتعلق بطمس الحدود بين الحقيقة والواقع المعروض على الشاشة. بل بخلق تصور مقنع للشخصية الأصلية، وليس إعادة إنتاج واقعها الخاص كما هو.
أساس الشخصية السينمائية
من هذا المنطلق، تبني كولوس تأملاتها على افتراض أن أداء الممثل في فيلم السيرة الذاتية ينتج شخصية سينمائية قائمة على عنصرين أساسيين:
- تفسير الدور: تقديم قراءة تحليلية لشخصية البطل، مستمدة من سيرته وحياته، تحمل دلالات أعمق تساعد المشاهد على فهمه.
- التكيف: ويتصل بالبنية الجسدية للأداء. مثل المظهر الخارجي، ولغة الجسد، وتعابير الوجه، وطبيعة الصوت واللهجة، وطريقة النطق، إذا كانت جزءا من الشخصية الأصلية.
الملامح والصوت
تستند كولوس إلى آراء بيوتر سكريبتشاك في كتابه، مستعينا برأي الفيلسوف ستانلي كافيل، الذي يرى أن الممثل على خشبة المسرح يجسد الدور بمعناه الخارجي. بينما يكون التمثيل في السينما أعمق، لأنه يقوم على احتواء الدور ووضعه داخل الممثل نفسه.
وتقول في ورقتها البحثية إن من بين العناصر الأساسية التي تخضع لعملية التكيف في أفلام السيرة الذاتية تبرز أهمية المظهر الجسدي للممثل. إذ تمنح هذه الأفلام الأولوية للمظهر بدرجة تفوق كثيرا من الأنواع السينمائية الأخرى.
اختلاف الملامح وعدم إقناع الجمهور
ينص البحث على أن: “هذه الأفلام تكشف أهمية المظهر في بناء الشخصية وتثبيت إحساس الواقع على الشاشة. وأول ما يثير خللا في تلقي المشاهد للفيلم غالبا ما يكون مرتبطا بعدم الاقتناع بالمظهر”. وتضرب مثالا برد فعل الجمهور لو أسند دور أدولف هتلر إلى رجل أشقر خال من شاربه المميز. في إشارة إلى أن تأثير الإخلال بالملامح الأيقونية للشخصية وعلاقته بمصداقية التجسيد.
وتطرح تساؤلا آخر حول شكل الفيلم لو تم تجسيد دور الأميرة ديانا بواسطة امرأة سمراء أو قصيرة وممتلئة الجسم. وتقول في البحث: “العلاقة بين الممثل والشخصية التي يؤديها تقوم على توقعات راسخة لدى المشاهد”.
وترى أن المسؤولية في هذا السياق مشتركة بين منظومة العمل بالكامل. بدءا من مختصي اختيار الممثلين، مرورا بفناني المكياج، وصولا إلى القرار النهائي الذي يتخذه المخرج والمنتجون. فاختيار الممثل هو نتيجة عمل جماعي يهدف في النهاية إلى تحقيق قدر من الانسجام بين الصورة المعروفة للشخصية وتجسيدها السينمائي.

تطابق المظهر والمكياج
رغم ذلك، تؤكد الباحثة أن مسألة تطابق المظهر لا تلغي إمكانية الإبداع. إذ تتجلى درجات الإبداع تبعا لتأثير مظهر الشخصية في حياتها العامة. والفترة الزمنية التي عاشت فيها، والسياق التاريخي الذي يعالجه الفيلم.
وبحسب البحث، تزداد الإشكالية عندما يقدم الفيلم شخصية تحولت صورتها إلى أيقونات بصرية من خلال لوحات أو رسوم أو تماثيل. لأنها- على غرار السيرة الذاتية- “لا تقدم الشكل كما هو، بل تنشئ علاقة قائمة على تفسير فني أو تحويل جمالي لمظهر الشخصية”.
أنجح أفلام السيرة الذاتية
تزايد تقديم هذا النوع من الأفلام، وأصبح واحدا من أكثر الأنواع جذبا للجمهور. ويبرز في هذا السياق فيلم Bohemian Rhapsody الصادر عام 2018، الذي تناول قصة فريدي ميركوري وفرقة كوين. وحقق نجاحا استثنائيا بإيرادات عالمية تجاوزت 910 ملايين دولار، ليصنف ضمن أنجح أفلام السيرة الذاتية في تاريخ السينما الأمريكية.
تغيير الحقائق في أفلام السيرة الذاتية
يختار بعض المخرجين كسر القوالب السائدة وعدم الانصياع للقواعد المألوفة، مبتعدين عن السرد التقليدي. وتطرق موقع “تاستراي” لهذه الإشكالية في تحليل استند إلى مواقع Rotten Tomatoes وFactCheck.org وIndieWire.
ومن بين هذه الأعمال فيلم “أنا تونيا” الذي قدم تجربة مختلفة عبر مزج رواية غير موثقة بروح وثائقي ساخر. ما يدفع المشاهد إلى الشك في صحة كل ما يراه. إضافة إلى فيلم “ستيف جوبز” الذي تم تقسيمه إلى 3 فصول. مع تركيز واضح على البعد النفسي للشخصيات أكثر من الالتزام بالتسلسل الزمني.
تقييم أفلام السيرة الذاتية
استعرض موقع “تاستراي” أبرز أفلام السيرة الذاتية مع تقييماتها والمشكلات الملحوظة فيها. فعلى سبيل المثال، حاز فيلم Selma على تقييم 9 من 10. ووثق مسيرات الحقوق المدنية التي قادها الدكتور مارتن لوثر كينج الابن عام 1965، وكانت المشكلة الملحوظة فيه التعديلات على الجدول الزمني.
أما فيلم “Bohemian Rhapsody” السيرة الذاتية للمطرب فريدي ميركوري، فحصل على تقييم 6 من 10. وكان من أبرز مشكلاته الجدول الزمني والشخصيات المركبة. في حين نال فيلم “The Imitation Game” تقييم 5 من 10، بسبب تغيير بعض الحقائق الرئيسية.
ويرجع الموقع الفني أسباب تغيير الحقائق في أفلام السيرة الذاتية إلى أن التركيز الصارم على الوقائع قد يجعل الفيلم مملا. بينما تؤدي المبالغة في التركيز على الترفيه إلى تبسيط التاريخ.
من سيؤدي دور البطولة؟
حول الجدل الدائر بشأن اختيار الممثلين في أفلام السيرة الذاتية وتحوله أحيانا إلى معركة. لم يعد السؤال المطروح يقتصر على من سيؤدي الدور، بل امتد إلى من يملك الحق في رواية القصة.
وبحسب بحث أجرته مجلة “تاستراي”، تستمر النقاشات حول مفاهيم التمثيل والتجربة الحياتية. وقد تسببت قرارات من هذا النوع خلال السنوات الأخيرة في موجات غضب ومراجعات نقدية حادة حول من يستحق أن يروي القصة.
وتواجه هذه الأفلام رقابة متزايدة من الجمهور الذي يطالب بمزيد من الشفافية واحترام هويات الشخصيات. وبحسب جوردان، تراهن بعض المشاريع على نجوم الصف الأول لضمان النجاح التجاري. بينما تعتمد أعمال أخرى على اختيارات مختلفة، مثل الاستعانة بممثلين غير معروفين.
فيلم الجوع إنتاج عام 2008
يعد فيلم “الجوع” إنتاج عام 2008 أحد أبرز أمثلة أفلام السيرة الذاتية. إذ قدم الممثل مايكل فاسبندر شخصية بوبي ساندز (9 مارس 1954- 5 مايو 1981). وهي شخصية محورية في تاريخ أيرلنديا، إذ كان جمهوريا أيرلنديا ومتطوعا في الجيش الجمهوري. ولعب دورا بارزا في النضال ضد الإمبريالية البريطانية في شمال أيرلندا خلال سبعينيات القرن الماضي.
اختار المخرج ستيف ماكوين فاسبندر لبطولة هذا الفيلم الروائي المستوحى من إضراب ساندز عن الطعام. بوصفه محاولة أخيرة لاستخدام جسده للتعبير عن رفض الوجود الاستعماري. إذ مات جراء هذا الإضراب مع تسعة آخرين.
وبحسب مقالة نقدية نُشرت في صحيفة “الجارديان” البريطانية، فإن الفيلم “صريح ومُؤدَى ببراعة، ويقدم رؤية جريئة عن الإضرابات عن الطعام”. مشيدة بأداء فاسبندر الذي وصف بالمقنع، خاصة بعد فقدانه أكثر من 22 كيلوجراما من وزنه للظهور بمظهر شديد النحافة.
اقرأ أيضا:
عشرات الآثار المصرية تغادر المتحف البريطاني للهند.. وحجر رشيد في الواجهة| ما القصة؟
من أين جاء المصريون؟ قراءة في الجغرافيا والجينوم وأصل الهوية المصرية
الكشري المصري بـ«اليونسكو».. كيف يواجه الطعام الشعبي غزو الثقافة الأجنبية؟









