حين هبطت النساء السوق.. دائما

لا يخفى على أحد ذكر تردد المرأة، بتعدد ألوان الطيف وتنوع كافة الشرائح الاجتماعية، على السوق عبر أزمنة طويلة، حيث لازمت طرق هذا الطقس اليومي، الذي صار ملمحاً اجتماعيا، يمثل فعلاً وظيفياً، ودوراً في الحياة، ملاصقاً لمتعة التسوق، حيث صارت المرأة مأخوذة بالفرجة واصطياد ما يروق لها من سلع متنوعة، في هوس وسعار لافت.
وصار اكتظاظ السوق بنماذج بشرية عديدة شملت كافة الطبقات من النساء، باباً مفتوحاً للثرثرة والحوارات المثمرة أنا ودون جدوى وهزيلة أنا آخر، فالسوق ساحة للكلام بين البائع الذي يبغي ترويج سلعته بأثمان باهظة، والزبون الذي يأمل في بضاعة بثمن زهيد، وكثيرا ما تنشب المحاججة بين النساء والباعة، حتى العراك بصوت ذائع، حيث تلتقط النساء شخصية المحتال من الباعة، وأن العدل والإنصاف محض وهم وكذب، تحديداً في غياب لافتات الأسعار على السلع.
***
في عقود مضت، كانت النساء تنصت جيداً للراديو، حيث كان يمثل النافذة الوحيدة لمعرفة تخص امرأة لا تبرح البيت كثيراً سوى السوق، فكان الإصغاء لنشرة التسعيرة الجبرية المشمولة بأثمان السلع، وبرنامج ربات البيوت، وكانت عديد من العائلات في حرص لاقتناء مجلة “حواء” الأسبوعية، حيث شملت باترون الخياطة، وباب المأكولات الشهية، حيث سادت في العائلة حالة اجتماعية أشبه بدولة صغيرة يرعاها الجميع؛ ولا تغيب رؤية المرأة الناقدة دوماً، حيث تلتم زمرة العائلة على مائدة واحدة وفي توقيت محدد، فكان النظام والمحبة والمودة الزاهرة.
كان لدي بعض الأسواق زبائن تاريخية يعرفها الباعة، حيث ألفت النساء التردد عليها، وحيث نشأت علاقات حميمة بين الأطراف، وأخرى من لم يعتد التردد عليها، ثم إن الدنو الجغرافي عاون في هذا الوصل والصلة.
وأحياناً تقطع بعض النساء طريقاً طويلاً في زيارة لسوق باب عمر باشا، بقطار أبي قير سابقاً، أبو بصحبة ميكروباص لميدان محطة مصر، ربما كما روج لرخص أسعاره، أو لأنها زبونة لدى باعة ذوي صلات مجاورة في المنزل أو الحي، وحيث لا يخلو التلاقي من هوى طازج أو بريء أو دون ذلك.
***
ومن الظواهر المأثورة، تردد بعض من الموسرين من تجار وكالة الخضار، لزيارة صاحب محل يمثل لديه رفيق عمر، يحتسي الشاي ويدخن النارجيلة، وعيناه معلقة بمنزل أنثى في سكن متهالك، قد تشبع رغائبه أو يرتوي بما اغتوت، وآخر من طائفة الباعة هائم بإحدى الصبايا، فلا يكف عن مطاردتها. وكثيراً ما نشأت معارك حامية بين أنداد لمقاسمة أنثى الغواية.
لقد تعددت الأسواق في كثير من ضواحي الإسكندرية، غير أن تنوعها ميزها بسمات تخص الضاحية الكائنة بالسوق، فناحية الإبراهيمية احتلها الإجريج والجاليات الأجنبية زمناً طويلاً، فسكنها سوق شيديا، شارع ضيق يخلو من الزحام، زبائنه يقطنون في الأرجاء المجاورة.
ونساء من العجائز توارت وراء جلال زمن راحل، ولكن ما زالت تتمتع ببعض من فتنة وأناقة وتألق وحيوية، وتأسرها في بهجة ومسرة الأسماك المصطفة في طاولات خشبية بضفاف الشارع، ثم تنعطف على تنقية حبات الفاكهة الطازجة، ثم تمضي في تؤده إلى البيت في أجواء من الهدأة والسكون.
***
وثمة ظاهرة برزت في الآونة الأخيرة، شملت البائعات اللاتي يغدون من القرى والمدن الصغيرة والمجاورة، يحملن بضاعة في طسوت ضخمة مكتظة بأنواع الخضار والبيض والفطائر، تحتل بعض الأرصفة العريضة في كافة الأماكن التي تدنو من السوق، وتنهمك تلك البائعات في إعداد وتحضير الوجبات النيئة، حيث تقصدها موظفات وعاملات، وأحياناً ربات بيوت لا تفرغ لتلك المهام، ربما تكترث بضرورة أخرى.
ولا أحد يغفل، من سكني الإسكندرية، سوق زنقة الستات التاريخي بالمنشية، ولا حتى من تردد على المدينة. سوق لم يبدل الزمن من عمارته وطرزه كثيراً، فقد امتلك السوق أمير مغربي من أكثر من 500عام، يدعى الأمير جريجي، الذي رهنه بعد ذلك لأحد المرابين اليهود (زكي عدس)، ووقت أن زادت الديون، وكذا فوائد الدين، حتى استولى المرابي اليهودي على السوق، ثم سافر وسلم السوق لنسيبه جان وهبة، وظل يملك السوق حتى العدوان الثلاثي عام 1956، ثم آل للحراسة على أموال الأعداء. وبقي بعض المغاربة، غير أن السيطرة كانت لليهود بإقراض المغاربة من مال بالربا الفاحش. حتى رحلوا جميعاً في أعقاب العدوان.
***
وتخطيط السوق لا يعدو أكثر من أزقة ضيقة، وكان للسوق سقف وأربع بوابات، وتوزعت زنقة الستات إلى سوق المغاربة، وسوق الخيط والصاغة، ويعمل في عديد من محلات الحقائب الجلدية والسلاسل المذهبة عدد هائل من الفتيات اللاتي تزودن بالعلم في ذات الوقت، وحلت الصناعة المحلية محل المستوردة، كالكليم والسجاد، وحيث التراوح بين طائفة من نساء الفئات الاجتماعية الدنيا، مروراً بالشرائح الاجتماعية الوسطى والعليا، التي صارت مأخوذة بالتردد على محلات صالون فير، وشكوريل، وهانو، وكافة بيوت الأزياء الراقية بمحطة الرمل.
حينما تشرق شمس يوم الجمعة، يطرق طريق السبع بنات أو الباب الأخضر وبعض من شوارع أخرى، عديد من الرجال وقليل من النساء، سوق الجمعة الكائن بضاحية الورديان. ساحة هائلة تتسع لعاديات متنوعة لفظتها بيوت البسطاء والموسرين على السواء، ومن أحياء شعبية وأخرى راقية، فسوق الروبابيكيا يبتلع كل شيء، من أدوات وسلع، يصلح البعض منها للاستعمال، وأخرى أحوج إلى إصلاح.
ومن مآثر إدارة المرافق (الإزالة)، تغذية سوق الجمعة بما تحصده من صيد الشوارع والمحلات بحجة المخالفة. في السوق، الوجوه تشبه الوجوه: جامدة، خشنة، يحجبها السأم والسخط، ونساء تكافح للقوت اليومي، ويطل من بعيد ميناء الإسكندرية، وبورصة ميناء البصل، وشوارع ربما حملت من عاش فيها من الشوام والعارفين بالله، وأهل الورع والتقوى الذين هجروا الأوطان، وعبر البوارج استوطنت الإسكندرية.