حين لم يكن الحنين كافيا: «الآرت ديكو» بين الماضي والحاضر
عندما يُذكر اسم الإسكندرية، غالبا ما تُختزل في صورة مدينة كانت أجمل، فنلوذ بالماضي كلما ضاق الحاضر. لكن الحنين وحده لا يفسر سبب عودتنا المتكررة إلى طراز معماري مثل «الآرت ديكو». احتفلت مكتبة الإسكندرية هذا الشهر بمئوية الآرت ديكو في ندوة بعنوان «عمارة الآرت ديكو: منظور متوسطي»، لتسليط الضوء على هذا الطراز التاريخي وإعادة قراءته في ضوء الأسئلة المعاصرة.
هذا الحدث لا يقتصر على الاحتفال بالتراث المعماري، بل يطرح سؤالًا أوسع: لماذا نعيد قراءة هذا الطراز اليوم؟ فما الذي يمثله هذا الطراز، وكيف استطاع أن يصبح أول طراز معماري عالمي، وكيف تكيف داخل مدينة متوسطية مثل الإسكندرية؟
ما هو الآرت ديكو؟
ظهر الآرت ديكو في فرنسا خلال عشرينيات القرن العشرين، في أعقاب الحرب العالمية الأولى. كان العالم آنذاك مضطربًا، ويبحث عن لغة فنية جديدة تعكس التغير الجذري في واقع باتت تسيطر عليه الآلة والصناعة والسرعة والتحولات الاجتماعية. فلم يعد الفن الكلاسيكي وحده قادرًا على التعبير عن هذا الواقع الجديد. كما لم تكن الحداثة الخالصة كافية أيضًا. فجاء هذا الطراز حلًا وسطا؛ طرازا يحتفي بالتقدم الصناعي دون التخلي عن الجمال.
وجاء الاسم من “المعرض الدولي للفنون الزخرفية والصناعات الحديثة” الذي أُقيم في باريس عام 1925. غير أن هذا المصطلح لم يُستخدم على نطاق واسع إلا في ستينيات القرن العشرين. خلال موجة إعادة اكتشاف هذا الطراز في الولايات المتحدة وأوروبا. إذ كان يُشار إليه قبل ذلك باسم “الفن الحديث”.
قامت فلسفة الآرت ديكو على الجمع بين المتناقضات: بين الصناعة والحرفة، وبين الزخرفة والتبسيط، وبين الفخامة والوظيفة. وكان سعيه الأساسي محاولة للإجابة عن سؤال جوهري: كيف يمكن للإنسان أن يجد مكانًا للجمال في عالم تحكمه الآلة والسرعة؟

لماذا أصبح فنًا عالميًا؟
أصبح الآرت ديكو فنًا عالميًا؛ لا لمجرد انتشره الجغرافي الواسع عبر المعارض الدولية – مثل معرض باريس الذي شارك فيه نخبة من فناني العالم-. بل لأنه اعتمد على مجموعة من المبادئ البصرية العابرة للحدود. مثل التبسيط الهندسي، والاحتفاء بالعصر الصناعي، والتوازن بين الجمال والوظيفة.
استلهم الآرت ديكو بعض زخارفه من الحضارات القديمة، كالحضارة المصرية القديمة وحضارة الأزتيك. لكنه لم يفرض قالبًا جامدًا، بل أتاح تعدد الرؤى داخل لغة بصرية مشتركة.
وهكذا تجلى في مدن مختلفة حول العالم: في باريس بزخارفه الأنيقة، وفي نيويورك بارتفاعاته العمودية الجريئة. وفي مدن البحر المتوسط بملامح مختلفة تمامًا. وبهذا المعنى، يمكن اعتباره أول طراز معماري عالمي، لا بالتشابه، بل بالقدرة على التكيف.
الإسكندرية كنموذج متوسطي
كان من الطبيعي أن يظهر الآرت ديكو في الإسكندرية، التي جذبت منذ القرن التاسع عشر فنانين ومعماريين من جنسيات متعددة. ومع النصف الأول من القرن العشرين، خاصةً بعد الحروب العالمية، أصبحت المدينة ملاذًا للهاربين من دمار أوروبا. فوجدوا فيها مساحة لتجربة اتجاهات معمارية جديدة لم تكن مقبولة في بلدانهم، من بينها هذا الطراز.
وخلال الندوة، أشارت المعماريتان أماني محمد وريم عبد العظيم، في عرض بحثهما «تأثير العالمية على فن الآرت ديكو»، إلى أن المنطقة الواقعة بين ميدان المنشية وجامع المرسي أبو العباس من ناحية الكورنيش. والشارع الموازي له – شارع الترام المعروف بمحمد كريم- إضافة إلى الشوارع الواصلة بينهما، تضم نحو 48 مبنى على طراز الآرت ديكو من أصل 160 مبنى في المنطقة.
وتزامنت هذه الكثافة مع توسعة كورنيش الإسكندرية في عهد الملك فؤاد الأول. ما أتاح مساحات عمرانية جديدة استخدمت لإنشاء بعض أحدث الصيحات المعمارية العالمية، وفي مقدمتها الآرت ديكو.
أنواع الآرت ديكو في الإسكندرية
بحسب ما أوضحه المهندس المعماري محمد العواد، المتخصص في الحفاظ على التراث ونائب مدير مركز أبحاث “أليكس ميد”، لم يظهر الآرت ديكو في الإسكندرية بصيغة واحدة ثابتة. بل اتخذ أشكالًا متعددة عكست تنوّع المدينة وتعدد خلفيات المعماريين العاملين بها.
وأشار العواد إلى وجود أربع صيغ رئيسية للآرت ديكو في الإسكندرية، أولها الآرت ديكو المبكر، الذي اتسم بالبساطة والخطوط الرأسية الواضحة. والثاني طراز انتقائي بتأثيرات كلاسيكية، كما في سينما ريو. أما الثالث فمزج بين الآرت ديكو والزخارف المحلية أو الرموز الفرعونية أو الإسلامية، مثل عمارة هيكل بجوار فندق سيسل. بينما تمثلت الصيغة الرابعة في الآرت ديكو الحديث، الذي اتجه نحو التبسيط والانسيابية وتقليل الزخارف. كما في مبنى شركة التأمين في منطقة سبورتنج.
ويعكس هذا التعدد قدرة الطراز على الامتزاج بالبيئة المحلية، سواء من حيث المواد المستخدمة أو المرجعيات الثقافية. وهو ما يجعل تجربة الإسكندرية مثالًا واضحًا على المنظور المتوسطي الذي تناولته الندوة.

السينمات والآرت ديكو: لغة العصر الحديث
من أبرز المجالات التي ظهر فيها الآرت ديكو في الإسكندرية مباني السينما. وبحسب رؤى سامح، مدرس مساعد العلوم والفنون الحديثة في جامعة أكتوبر، خلال عرض بحثها «تتبع التراث المعماري لدور السينما ذات طراز الآرت ديكو في الإسكندرية والقاهرة». فإن هناك علاقة بين نشأة السينما وانتشار هذا الطراز.
فالسينما، بوصفها فنا حديثا في مطلع القرن العشرين، احتاجت إلى مبان مخصصة لعرض الأفلام، وهو ما تزامن مع انتشاره. ومع تحول السينما من عروض مؤقتة إلى مؤسسات ثابتة. كان الآرت ديكو من أوائل الطرز المعمارية التي استُخدمت في تصميم دور العرض، لقدرته على التعبير عن روح العصر القائم على الآلة والتكنولوجيا.
الإضاءة والحركة
تجلت روعة طراز الآرت ديكو في واجهات هندسية واضحة، ومداخل مصممة بعناية لتشكل تجربة بصرية للجمهور. إلى جانب الاهتمام بالإضاءة والحركة داخل المبنى. لذلك بنيت سينمات مثل ريالتو وريو على هذا الطراز.
لكن هذا الإرث لما يبقى كاملًا. فسينما ريالتو، التي أشارت إليها “رؤى” بوصفها أول سينما شيدت على هذا الطراز، هدمت عام 2013. بينما لا تزال سينما ريو قائمة حتى اليوم في شارع فؤاد، وتعد نموذجًا حيًا يمكن من خلاله قراءة ملامحه.
لماذا نحتفل؟
نحن لا نحتفل بالآرت ديكو من أجل استخدامه مرة أخرى في البناء، ولا لأننا نبحث عن استعادة طراز من مئة عام. بل نحتفل لأنه يذكرنا كيف استطاعت العمارة أن تجيب بوضوح عن أسئلة عصرها، وتعكس لحظة تاريخية تغير العالم بعدها جذريًا.
لقد كان الآرت ديكو محاولة نابعة عن وعي للتوفيق بين الجمال والآلة، بين العالمي والمحلي، بين الحداثة والإنسان. والاحتفال به هو محاولة لفهم كيفية ولادة تلك الإجابة، وليس من أجل استنساخها. وهنا نقف لنسأل أنفسنا: هل نملك اليوم المناخ الفكري والثقافي الذي يسمح بظهور طراز معماري جديد، قادر على أن يجيب عن أسئلتنا المعاصرة، كما أجاب الآرت ديكو عن أسئلة زمنه؟
اقرأ أيضا:
الشباب والفن والتراث.. كيف أعاد «إسكندرونا» قراءة تاريخ المنشية الصغرى؟
قراءات جديدة في العمارة والأدب السكندري خلال فعاليات «أيام التراث»
المعماري محمد عوض في افتتاح «أيام التراث السكندري»: «هل يمكن أن يكون للمدينة DNA؟»



