حين خايلت أشباح يونيو ذاكرتي

بعد أن صمتت المدافع بقليل، نشبت معارك ضارية في بؤر عديدة، وجرت وقائع وأحداث مريرة، حيث شهدت مدينة السويس وبور فؤاد قصفا داميا أسفر عن استشهاد عدد هائل من المدنيين، ودمار عدد من المنازل والمستشفيات والمساجد، واعتقال قوات الاحتلال عدداً من رجال التعليم في الضفة الغربية احتجاجاً على بعض المقررات المناهضة للصهيونية في الكتب المدرسية، ورداً على ذلك، شهدت عموم الضفة الغربية سيناريوهات الاضطرابات التي عمت الضفة،

وقتها، تعززت أعمال الدفاع المدني، حيث احتلت الوقائع التي شملت طلاء زجاج النوافذ ومصابيح السيارات باللون الأزرق، والاستحكامات الأمنية من مخابئ وخنادق وغيرها، ونداءات “طفي النور يا وليه”.

***

علاوة على ذلك، فرض الحاكم العسكري الإسرائيلي حظر التجول في مدينة العريش، واعتقل الشباب إثر المظاهرات التي اجتاحت المدينة، ورفع الأعلام المصرية فوق البيوت، وظلت الدوريات الإسرائيلية تطوف بالشوارع في أكبر حركة تفتيش شملت كل البيوت.

في ذات الوقت، رفضت إسرائيل طلب الصليب الأحمر الدولي بمد عودة النازحين إلى مناطقهم في الضفة الغربية لنهر الأردن، والجرائم البشعة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في المنطقة المحتلة من سوريا، من تدمير للقرى ونسف المنازل. وأن لجنة راسل للسلام تزور القاهرة للتحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية.

ومن الظواهر اللافتة في الجبهة الداخلية، تطوع فتيات معهد التربية الرياضية ومعهد الخدمة الاجتماعية والمدارس الثانوية الصناعية للعمل المجاني في مصنع البطاطين، لسد النقص في اليد العاملة، وتصدرت الجرائد خبراً منها 750 عالماً يشتركون في موسوعة ناصر في الفقه الإسلامي تشمل جميع المذاهب الإسلامية.

***

ولقد كشفت الهزيمة عن وجوه أخرى أحوج للتأمل والدهشة، حيث شاعت بعض الخرافات التي عرضت الذهنية العربية، حيث أفصحت عن “افتح المصحف ستعثر على شعرة” دلالة على أن الانتصار آت، أو تجلي العذراء في الزيتون، أو أن يملي علينا مدرسو اللغة العربية في المرحلة الثانوية “رب ضارة نافعة” في موضوع الإنشاء. وتصطحب مصر بحركات احتجاجية شملت عديد من الكتاب والمفكرين، وتبرز شهادات الأدباء الشبان، وكيانات وجمعيات ثقافية جنينية تعبر عن استنفارها بمواقف وكتابة جديدة، أفضت بهم إلى السجون والمعتقلات.

آنذاك، اصطف الراديو في صفوف آلة الأكاذيب التي كانت تعلن عن التضليل والسفه والابتذال، حتى أن صورة الصحفي الإنجليزي الذي التقى إحسان عبد القدوس ورأى القاهرة مضاءة في الليل كسطوع الشمس، لم تغب عن عقلي بعد. إذ كان تعليق الصحفي: “كيف تحاربون إذن؟” وربما كان تعبير الصحفي الأوروبي رمزا لشارع الهرم ومماثلاً لأرجاء القاهرة، التي كانت مسار تندر جماهير القاع الفقيرة، حيث تعرض دور السينما طائفة من الأفلام الهزيلة فنياً، ولا تتلازم مع طبيعة الحدث.

***

فقد عرضت سينما ميامي “إجازة غرام” لفؤاد المهندس وشويكار، وسينما ديانا “شنطة حمزة” لأمين الهنيدي ونجوى فؤاد. وقدم كازينو الأريزونا نجوى فؤاد وشريفة ماهر في استعراضات راقصة، وملهى بالميرا “فاتنة الرقص السويسرية” ليزا بشماي وسهير صبري. وشاعت ظاهرة “سهرة الفن” لنجدة ضحايا العدوان، بإشراف اللجنة العامة لجمع التبرعات لضحايا العدوان بوزارة الشؤون الاجتماعية، والتي كان يحييها عبد الحليم حافظ، ماهر العطار، نجوى فؤاد، ثريا حلمي، قطقوطة، سيد الملاح، في دور السينما الشهيرة ريفولي، ميامي، قصر النيل وغيرها.

وقدم مسرح الريحاني فرقة حسني العطار مسرحية “العريس مستعجل”، وكازينو المقطم صالة الرقص مفتوحة طوال العام، وفرقة الريحاني بالإسكندرية تعرض مسرحية “ابن مين بسلامته”، و”غراميات عفيفي”، و”البيجامة الحمراء” للفنانين المتحدين.

***

في ظل تلك الصور، لماذا غابت أم كلثوم عن المشهد، وسافرت إلى عديد من العواصم خارج مصر بدعوى جمع الثروة للمجهود الحربي؟ ولماذا كتاب “كل ست ساعات” كانت مباشرة وموجهة، علاوة على السطحية في مجتمع لا يقرأ؟

ولماذا توافدت حشود هائلة إلى المساجد للصلاة بشكل غير مسبوق، بعد أن ساد همس يحمل الخوف من التردد عليها؟ مظاهر عديدة جرت، وأحوج إلى تفسير وتحليل محتوى اجتماعي لتلك المظاهر. زي موحد لطلاب المدارس “زي عسكري” تحت مسمى “الفتوة”، حيث مضينا إلى مناطق نائية للتدريب على إطلاق النار، وصار تقليد بتوظيف ضباط في المدارس آنذاك. وحين درسنا “الميثاق” في سياق منهج اللغة العربية، سرت أيضاً مقولة تفيد أن من سيرسب في الميثاق سيرسب في كافة المواد الدراسية وأن “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.

اقرأ أيضا:

«غارة» الصحافة على الوزارة

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.