دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

حوانيت الشهود.. السلف الاجتماعي لمقاهي القاهرة

تبدو المقاهي واحدة من أهم المظاهر الحياتية في القاهرة المعاصرة، ولا يتصور أن تخلو المدينة منها يومًا. لكن المقاهي التي غزت القاهرة بشكل واضح بداية من القرن السادس عشر الميلادي، يظن البعض أنها ولدت من العدم، وأنها مرتبطة أساسًا بمشروب القهوة الذي عرف طريقه إلى مصر من اليمن والحجاز منذ نهايات القرن الخامس عشر الميلادي.

لكن على ما يبدو أن المقاهي كان لها سلف خرجت من تحت عباءته، وهذا السلف هو (حوانيت الشهود) التي كانت منتشرة في القاهرة المملوكية، ونرى في تفاصيلها الميلاد الحقيقي لثقافة المقاهي كمراكز للتفاعل الاجتماعي، والتي ستنتشر في “المعزية” بعد ذلك. ففي حوانيت الشهود نجد التشكل الأول لثقافة مقاهي الموظفين، وتلك المنتشرة حول المحاكم المختلفة.

***

الشهود هم أحد مكونات المشهد القضائي الإسلامي في عصور ما قبل الحداثة، إذ كان القاضي يختص مجموعة من أهالي المدينة بإعلان عدالتهم، أي استقامتهم وأمانتهم، ليكونوا الشهود المعترف بهم أمام القاضي. إذ كان القضاء الإسلامي يستلزم وجود الشهود في مختلف القضايا المنظورة أمامه، ومن هنا كانت الحاجة إلى الشهود مستمرة للمتقاضين.

فكان القاضي يختار مجموعة يطلق عليهم “الشهود العدول” في كل حي من أحياء المدينة، بمعنى أنه القاضي رضي عن قولهم وعملهم وعرفوا بالصدق والخيرية، ولهم معرفة بأهالي الأحياء، فتكون شهادتهم أمام القاضي عن معرفة بتفاصيل الحياة اليومية في الأحياء والحواري.

لكن مع الوقت بدأت أعداد الشهود في الزيادة في القاهرة المملوكية، وبدأوا في التكسب من الشهادة أمام القاضي، فتحصلوا على المال ممن يطلب شهادتهم. لذا بدأوا في الجلوس في حوانيت مخصوصة عرفت باسم (حوانيت الشهود)، وتردد ذكرها في المصادر المملوكية بكثافة تستدعي التوقف عندها، لأن نمط جلوس الشهود على هذه الحوانيت يتضح منه أنهم أصبحوا أشبه بمن يقدم خدماته مقابل الأجرة، أي أننا أمام نمط من الوظيفة التي يتحصل صاحبها على المال مقابل أداء مهامها.

***

كان عدد الشهود في القاهرة كبيرًا، فقد بلغ في بعض الأوقات أكثر من 1500 شاهد، ونظرًا لارتباط الشهود بمصالح الناس، فقد تمركزوا سريعًا في الحوانيت الخاصة بهم، التي انتشرت في أماكن مختلفة من القاهرة بحسب الكثافة السكانية، وأبرزها عند باب زويلة، وتحت الربع، وحبس الرحبة، وباب القنطرة، وجامع الصالح، وخارج باب الفتوح، وقنطرة قديدار، بحسب ما رصد الدكتور محمد محمد أمين في دراسته (الشاهد العدل في القضاء الإسلامي).

وقد انحرف العديد من الشهود عن تقاليد مهنتهم، وأصبحوا شهود الزور، فقال أحدهم شعرًا:

احذر حوانيت الشهود     الأخرين الأرذلينا

قوم لثام يسرقون        ويحلفون ويكذبونا

وأشار السبكي في منتصف القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي إلى أوضاع الشهود، فيقول في كتابه (معيد النعم ومبيد النقم): “أنه قد غلب على أكثرهم التسرع إلى التحمل، وذلك مذموم. وأخذ الأجرة على الأداء وهو حرام. وقسمة ما يتحصل لهم في الحانوت، وذلك منهم شركة أبدان”.

 وهو يشير هنا إلى ظاهرة أخذ الشهود المال مقابل إنجاز مصالح الناس، الأمر الذي حولهم إلى موظفين ينتظرون في الحوانيت من يتقدم لطلب خدمة أحد الشهود أمام القضاة.

ونفهم من نص السبكي أن الأجرة كانت تُجمع وتُقسم على شهود الحانوت الواحد بعد جمع الإيراد اليومي، فالأمر أصبح قاعدة في العصر المملوكي حتى نجد في كتب المقريزي التاريخية أوصاف لبعض شخصيات عصره بأنه ممن يتكسب بالجلوس في حوانيت الشهود، أو يقول إن هذا الشخص يتكسب من تحمل الشهادات بالجلوس في حوانيت الشهود، وهي صيغة متكررة في مختلف كتب التاريخ المملوكي.

مقاهي القاهرة قديما
مقاهي القاهرة قديما
***

إن حضور الشهود وانتشارهم في الحوانيت المخصصة لهم زاد عن الحد في الكثير من الأحيان، الأمر الذي دفع الأمير الكبير ألجاي اليوسفي (توفي سنة 775هـ/ 1374م)، إلى إصدار قرار في سنة 774هـ/ 1372م،بألا يجلس في كل حانوت من حوانيت الشهود سوى أربعة، وأمر قضاة القضاة ألا يُجلس كل قاض من الشهود إلا من كان على مذهبه، فانحصر الشهود من ذلك، ثم تنجزوا مرسوم السلطان بإعادتهم إلى ما كانوا عليه فبطل ذلك”، وفقًا لما ذكره المقريزي في كتابه (السلوك لمعرفة دول الملوك).

ولدينا نموذج واضح لأحد الشهود، وهو المؤرخ المملوكي ابن الفرات (توفي سنة 807هـ/ 1405م)، الذي “كان يجلس بحوانيت الشهود”، بحسب وصف المقريزي في كتابه (درر العقود الفريدة)، بينما قال ابن حجر العسقلاني عنه في كتابه (إنباء الغمر بأنباء العمر): “يشهد في الحوانيت ظاهر القاهرة، مع الخير والدين والسلامة”، وكلاهما ينص على الاستفادة من التاريخ الكبير الذي كتبه عن مصر.

***

إلا أن الملاحظة الأساسية على كتابات ابن الفرات هي أن كتابه التاريخي جاء “بعبارة عامية جدًا”. هنا نتوقف عند عامية ابن الفرات الذي يبدو أنها تأثرت بمناخ وجوده في شوارع القاهرة بسبب جلوسه في حوانيت الشهود، حيث مارس وظيفته معظم فترات حياته، الأمر الذي يجعل تاريخه صورة لغوية حية لحوارات المصريين في الشارع بعيدًا عن أي اللغة الرسمية التي تميز أبناء الأدب الرسمي سواء في صورته الإدارية أو الفقهية والتي ميزت الكتابة التاريخية.

لغة ابن الفرات العامية هي واحدة من الأمور التي تجعلنا نفترض أن حوانيت الشهود هي السلف الحقيقي للمقاهي في القاهرة، فحياة الشهود العدل في الحوانيت كانت غنية بالتفاصيل الاجتماعية، لارتباطها بحيوات الناس لأنهم كانوا أقرب ما يكونوا إلى مفهوم العرضحالجي، وهو الشخص الذي يكتب عرائض الشكاوى والالتماسات نيابة عن أصحابها، والذي سيشتهر في العصر العثماني، كما يتولى الشهود كتابة مختلف العقود المرتبطة بالزواج والطلاق وغيرها من معاملات يومية، لذا يمكن عد حوانيت الشهود نقاط مركزية لنشاط سكان القاهرة في العصر المملوكي، بصورة غير مفكر فيها عند الكثير من دارسي العصر المملوكي.

***

بل أن هذه الثقافة الاجتماعية التي كان محورها شهود الحوانيت لا تزال قائمة في الممارسة الفعلية على الأرض في يومنا هذا، فلا تزال الكثير من المحاكم ينتشر حولها المقاهي التي يجلس عليها المحامون والشهود، ففي الكثير من القضايا يتم الاستعانة بهم كشهود في عدد من القضايا المختلفة، خاصة المتعلقة بالأحوال الشخصية، فهنا نرى نفس المكون الذي عرفته الحياة الاجتماعية في حوانيت الشهود، التي تحولت مع الوقت إلى مراكز ثقافية واجتماعية.

بطبيعة الحال عندما انتشر مشروب البن قادمًا من اليمن ثم الحجاز إلى مصر عن طريق الصوفية في نهايات القرن الخامس عشر الميلادي، بدأت تنتشر القهوة كمشروب، والمدهش أن القهوة كانت تقدم في حوانيت وكانت تعرف بحوانيت القهوة، لا شك أن الشهود وهم يجلسون الساعات الطويلة في حوانيتهم في انتظار من يستخدمهم، عرفوا القهوة وشربوها لكي تعطيهم النشاط والحيوية في ساعات العمل الطويلة.

لوحة عن القاهرة المملوكية أواخر القرن التاسع عشر
لوحة عن القاهرة المملوكية أواخر القرن التاسع عشر
***

لذا نرى أن حوانيت الشهود هي السلف المباشر للمقاهي ليس في طقوس شرب المشروب المنبه، بل أساسًا في الطقوس الاجتماعية التي حولت المقهى إلى علامة أساسية في المشهد الاجتماعي والثقافي لأهالي مدينة القاهرة، فعلى ما يبدو أن المقاهي ورثت حوانيت الشهود كمركز الثقل الاجتماعي في شوارع القاهرة، فذكر الحوانيت كان شائعًا في المصادر المملوكية لكن هذا الذكر تراجع في العصر العثماني مع صعود ذكر بيوت القهوة، كما هو حال المؤرخ ابن العجمي الذي كتب كتابه (مباهج الإخوان ومناهج الخلان في حوادث الدهور والأزمان) في القرن السابع عشر الميلادي، ولم يذكر حوانيت الشهود بتاتًا في حين يذكر بيوت القهوة في غير موضع.

التشابه الكبير بين نمط حوانيت الشهود والمقاهي الاجتماعي، يجعل لذلك الافتراض وجاهته، ففي حوانيت الشهود كان الناس يتبادلون أخبار المجتمع وتدور الأحاديث عن مستجدات الأمور في البلاد، وفيها كان يجلس الشهود لقضاء ساعات بين الراحة والانتظار والعمل، كما هو حال الكثير من الموظفين في أيامنا هذه، إذ أن البعض يُعرّف مكانه في المقهى كمكان إقامة يمكن أن تبحث عنه فيه وستجده هناك لا محالة،فطقوس الجلوس على المقاهي كأماكن للراحة والاستراحة بدأت من حوانيت الشهود، ورغم أن طقوس تناول القهوة ظهرت بشكل منفرد إلا أنها اندمجت على ما يبدو في طقوس الجلوس في حوانيت الشهود، وورثت مكانتها في فضاء القاهرة.

 اقرأ أيضا:

تطوير ميدان رمسيس وغياب مفهوم «أنسنة المدينة»

قاهرة صنع الله إبراهيم: مدينة شاحبة في زمن التحولات

البلدوزر الحكومي يطيح بمبنى «هندسة السكة الحديدية» التاريخي

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.