حوار| الأثري أحمد مسعود: جبانة الاغاخان تكشف الحلقة المفقودة في تاريخ جبانات أسوان
على الضفة الغربية للنيل في أسوان، حيث تتجاور الجبال مع النهر وتحرس الرمال أسرار التاريخ، كشفت الجبانة الأثرية بمنطقة الأغاخان عن صفحات جديدة، من حضارة المصريين في العصور المتأخرة والبطالمة والرومان. هناك، قاد الأثري أحمد مسعود مدير آثار أبو سمبل دراسة معمقة تحت عنوان ” الجبانة الأثرية بمنطقة الأغاخان بأسوان دراسة أثرية – معمارية”.
أعادت الدراسة رسم صورة الدور الحضاري والعسكري والديني لأسوان عبر الزمن، في هذا الحوار الذي اجراه ” باب مصر” يتحدث مسعود عن أهم ما كشفته البعثة الأثرية، وما حملته المقابر من أسرار وطقوس، وحكايات دفن ومحاربين لا تزال رائحتها عالقة في هواء الجنوب، ومعلومات يتم كشفها لأول مرة.
بداية.. كيف تصف لنا أهمية موقع الجبانة الأثرية بمنطقة الأغاخان؟
تعد منطقة غرب أسوان منذ أقدم العصور التاريخية بمثابة الجبانة الرئيسية لحكام وأفراد أسوان، والحاضنة الكبري لأجسادهم، فقد انطلق المصري القديم بناظريه إلى البر الغربي المقابل لآبو وسونو، ليشق فيه منزله الأبدي مشيداً في الفترة من الدولة القديمة وحتى العصرين اليوناني الروماني، ما يعرف بمقابر الحكام والأفراد وساعده في ذلك الطبيعة الجيولوجية المكونة من الحجر الرملي المختلط بطبقات من الطفل .
امتدت تلك المقابر في المساحة بطول النيل من جبل تنجار جنوبًا حتى الكوبانية شمالًا، وقد أدت أعمال الكشف الأثري منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى السنوات الأخيرة الماضية، إلى اكتشاف العديد من المقابر الصخرية في جبانات منفصلة تعود لعصور مختلفة، كان آخرها تلك التي تم الكشف عنها بمنطقة الأغاخان، التي يعد اكتشافها اكتمالًا للحلقة المفقودة من التسلسل التاريخي للجبانات القديمة بأسوان، ومع ذلك تظل مساحات كبيرة لم تفصح عما بداخلها، وهو ما قد تكشف عنه لاحقًا أعمال الحفائر التي لا تزال مستمرة حتى وقتنا هذا.

وما أبرز ما توصلت إليه الدراسة الأثرية التي قمت بها حول الجبانة؟
تشير الدراسة التي قمت بها والتي حملت عنوان “الجبانة الأثرية بمنطقة الأغاخان بأسوان ” دراسة أثرية – معمارية ” إلى أهمية الدور التاريخي والحضاري، الذي مثله إقليم أسوان عبر عصور مصر التاريخية، وخاصة في العصرين اليوناني الروماني.
وأوضحت الدراسة كيف أن الموقع الجغرافي لأسوان مباشرة عند منبع الجندل الأول لنهر النيل، الذي مثل الحدود الطبيعية للبلاد، جعل منه موقعاً استراتيجيا ومقراً للحاميات العسكرية، تماماً كما كان الوضع عليه منذ نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد، وكيف أن المنطقة باتت تمثل مركزا تجاريا مهما بين مصر وإفريقيا شبه الإستوائية. حيث كان إقليم أسوان بمثابة نقطة الانطلاق للتجارة مع النوبة، حيث انطلق منها المصريون أولا ومن بعدهم الحكام الفرس والبطالمة والرومان في رحلاتهم لجلب السلع الفاخرة مثل العاج وجلود الحيوانات والذهب والبخور والتوابل عبر الحدود.
هل يمكن أن نعرف تفاصيل أكثر عن أنواع المقابر وطرازها الهندسي؟
تنوعت المقابر بجبانة الأغاخان، فهي من طرز معمارية مختلفة، ولعل ما ساعد في استخدام أكثر من طراز معماري للمقابر، هو الطبيعة الجيولوجية والظروف البيئية للجبانة.
وهل كشفت الحفائر بالجبانات عن طرق مختلفة للدفن والتحنيط ؟ وهل وجدت أدلة علي طقوس جنائزية غير مصرية لوجود مقابر بطالمة ورومان ؟
الأدلة التي ظهرت تؤكد ممارسة طقوس جنائزية مصرية كاملة من أنماط وطرق دفن، في مقابر جبانة الأغاخان، رغم تأخر العصور وتعاقبها، لكن كان التحنيط هو السمة الرئيسية، وتفاوتت جودة التحنيط وطريقة الإعتناء بالجثث من مقبرة لأخرى.
وقد جدت مومياوات محنطة جيدا وملفوفة بالكتان، وموضوعة علي أسرة جنائزية إلي جوار موائد قرابين، مع زخارف ملونة ذات طابع مصري، وغطيت أحيانا بقطع الكارتوناج وأحيانا أخري تم تغطيتها بالقار الأسود، أو تم لفها بالحصير وأربطة الكتان.
مما يعكس استمرار الهوية الدينية المصرية حتي العصرين البطلمي والروماني، كما تنوعت طرق الدفن، في تابوت أو بدون تابوت، وكانت التوابيت توضع علي مصطبة، أو في فتحات الدفن أيضا، وهو ما كشفت عنه الحفائر لاحقا.

من الملاحظ أن جدران مقابر الأغاخان خلت من النقوش والرسومات عكس ما كان متبع لماذا؟ وكيف يتم معرفة هوية صاحب المقبرة عند غياب تلك النقوش ؟
بالفعل جدران مقابر جبانة الأغاخان خلت من أية نقوش أو كتابات أو تصاوير، إذ يبدو أن أصحابها اكتفوا بالمناظر المنفذة على بعض التوابيت واللوحات الخشبية وقطع الكارتوناج، علي غرار جبانات بمناطق أخرى تعود لنفس الحقبة التاريخية.
ويعتمد الباحثين في تحديد ومعرفة هوية أصحاب المقابر عند غياب النقوش، على طراز المقبرة الذي يدل علي الطبقة الاجتماعية، بالإضافة إلى نوعية التحنيط وجودته، إذ أنه كلما زاد الإتقان كانت المومياء لصاحب رتبة أعلي.
كما تشير نوعية التوابيت الخشبية كونها منحوتة لكهنة أو أعيان، وطبيعة اللقى المكتشفة داخلها مثل التمائم والكارتوناج والرموز الدينية، وهو ما يُسهم في رسم ملامح طبقات المجتمع التي استُخدمت الجبانة.
هل كشفت الدراسة عن طبيعة اللقى الأثرية التي عُثر عليها داخل المقابر؟ وما أهم ما تم اكتشافه؟
تم العثور على الكثير من اللقى داخل المقابر، لكن معظمها كان مُبعثرًا نتيجة أعمال نهب قديمة منذ العصر الروماني، ونهب حديث قبل بدء الحفائر الرسمية، ومن أهم اللقى المكتشفة توابيت ( خشبية، حجرية، وفخارية ).
وأجزاء كارتوناج مصبوغ وتمائم وأخراز وأواني فخارية جنائزية، ولوحات جنائزية خشبية ملونة، وأسرة جنائزية نادرة تكشف عن طقوس راقية للدفن، ومسارج وهي أواني أثرية كانت تستخدم للإضاءة في الاحتفالات الدينية.
هل كان للجانب الديني دور واضح داخل الجبانة؟ وكيف كانت علاقة الكهنة بالموقع؟ ومن هم أبرز المدفونين فيها؟
الجبانة كانت في البداية مخصصة لبعض العائلات الثرية الذين كانوا يشغلون مناصب هامة وتقلدوا ألقابًا دينية مثل “الكاهن الأول لإلفنتين” “الكاهن المطهر”، ومن الواضح أن علاقة الكهنة بالموقع ارتبطت بمعبد خنوم في جزيرة إلفنتين ومحيط معابد فيلة.
هذا الارتباط بما يعكس الصلة الدينية المباشرة بين المعبدين والجبانة، كما أن التحاليل الأثرية كشفت وجود مومياوات لأشخاص غير مصريين، مما يشير إلى استخدام الجبانة من قبل جاليات أجنبية تواجدت في أسوان خلال العصور المتأخرة، حيث عُثر على بطاقتين للموتى مدونًا عليهما بالأحرف اليونانية.
وماذا عن الجانب العسكري؟ وهل تم العثور على أدوات أو دلائل حربية؟
فيما يخص الجانب العسكري، لم يُعثر داخل الجبانة على أسلحة أو دروع أو رؤوس سهام أو تحصينات دفاعية، ما يدل على أن الموقع جنائزي خالص، يعكس تنوعًا في طبقات المدفونين من كهنة وإداريين وتُجّار وجنود، كما تم الكشف عن بعض المومياوات بجبانة الأغاخان مؤخرًا، بدت عليها إصابات عظمية تعرض لها هؤلاء الموتى، تمثلت في كسور في العظام وبتر للأطراف.
وهناك احتمالية قوية أن هذه الإصابات حدثت نتيجة صراع عسكري ومواجهات عنيفة، وبطبيعة الحال هؤلاء قد يكونون جنودًا أو مشاركين في عمليات القتال، مما يسلط الضوء على الدور العسكري الحيوي للمنطقة في هذه الفترة تحديدًا، ولعل هذا يفسر وجود أعداد كبيرة من الدفنات داخل المقابر المعاد استخدامها.
ما أوجه التشابه بين جبانة الأغاخان وجبانات أخرى في مصر؟
كشفت الدراسة عن وجود أوجه تشابه عديدة بين مقابر الأغاخان ومقابر كهنة فيلة بالشلال التي تعود للعصر البطلمي، وكذلك بعض مقابر الواحات التي تعود للعصرين اليوناني والروماني، مما يسلط الضوء على الطرق والمسارات الصحراوية التي ربطت بين الواحات والنوبة وبين الواحات ووادي النيل، ويعكس العلاقات التاريخية بين وادي النيل والمناطق الصحراوية.
تم الكشف عن الجبانة الأثرية مؤخرًا بواسطة فريق إيطالي مصري، ما هو الدور المصري في هذا الاكتشاف،وما سبب اختيار تسميتها بهذا الاسم؟
تم اختيار اسم الجبانة من قبل أول فريق عمل أثري مصري بالموقع تابع لمنطقة تفتيش آثار أسوان، في عام 2015، وذلك قبل وصول البعثة الإيطالية للموقع في عام 2019.
تطل الهضبة التي نُحتت فيها الجبانة على نهر النيل مباشرة من ناحية الشرق، وتم تسميتها مقابر الأغاخان استنادًا إلى قربها من أحد المعالم الأكثر شهرة في الضفة الغربية لأسوان، وهو ضريح الأغاخان لصاحبه “السلطان محمد شاه” أغاخان الثالث الذي دُفن في مقبرة مهيبة بُنيت خصيصًا له هناك عام 1959، ويقع الضريح مباشرة إلى الجنوب من الهضبة التي نحتت فيها مقابر الجبانة، ويغطي الضريح أيضًا جزءًا من المنطقة الأثرية المحيطة.

ما سبب اختيار هذا الموقع الجبلي ليكون جبانة؟
جبانة الأغاخان تمتد على تل صخري يطل مباشرة على نهر النيل، حيث شيدت المقابر في منطقة صخرية مرتفعة بعيدة عن منطقتي السكن الرئيسيتين في هذا الوقت وهما جزيرة ألفنتين التي تقع قبالة الجبانة ناحية الشرق، وسونو ( أسوان القديمة) التي تقع على الضفة الشرقية لنهر النيل.
ونتيجة لهذه الظروف الطبوغرافية فقد نُحتت المقابر في الحجر الرملي في عدة مستويات من أسفل الجبل إلى أعلاه بارتفاع يصل إلى أكثر من 50 متر تقريبًا، ويبدو أنه تم اختيار موقع الجبانة لميزة موقعها المطل على جزيرة ألفنتين ومدينة أسوان، وكذلك لتكوينه الصخري وسهولة نحت المقابر في الحجر الرملي .
ما الفترة الزمنية التي تعود اليها المقابر الجنوبية بجوار الاغاخان ؟ وما عدد المقابر المكتشفة؟
جبانة الأغاخان تعود إلى العصرين اليوناني والروماني، أي من القرن الثالث قبل الميلاد حتى القرن الثالث الميلادي، مع وجود دلائل محدودة على أن بداية الاستخدام قد تعود إلى العصر المتأخر (الأسرة 26)، وذلك استنادا الي بقايا سطحية وجدت علي التلة.
كانت أسوان قديما تمثل الحد الجنوبي لمصر ومركزًا لحماية الحدود والتجارة مع النوبة وإفريقيا، لذا ضمت الجبانة مقابر لكهنة وكبار موظفين وجنود وتجار، ما يعكس تعدد الفئات التي دُفنت بها، موضحًا أن الجبانة تضم أكثر من 226 مقبرة لأفراد من النخب الحضرية وكهنة المعابد والإداريين والتجار، إضافة إلى بعض الجنود وعامة الناس.
لماذا اختار حكام أسوان هذا الموقع لبناء مقابرهم ؟
اختيار حكام أسوان لهذا الموقع لم يكن مصادفة وإنما لاعتبارات جيومكانية ودينية وعسكرية، أهمها ارتفاع الهضبة وإطلالتها المباشرة على نهر النيل وجزيرة إلفنتين ومعبد خنوم، وهو ما منح المدفونين مكانة رمزية وروحية عالية.
كما أن الطبيعة الصخرية الرملية الصلبة سمحت بسهولة نحت غرف الدفن وثباتها الإنشائي دون الحاجة إلى بناء إضافي، إلى جانب البعد عن المناطق السكنية، وهو شرط أساسي للحفاظً على حرمة المقابر وفق التقاليد المصرية القديمة.
ما آخر ما وصلت إليه أعمال الحفائر والتوثيق؟
تضم الجبانة ما يقارب 250 مقبرة تم إحصاؤهم وحصرهم خلال أعمال المسح الأخيرة، تم العمل في 20 مقبرة منهم بين عامي 2015 و 2018 بواسطة فريق عمل مصري من تفتيش آثار أسوان، ثم استُكملت أعمال الكشف عام 2019 بالتعاون بين البعثة المصرية الإيطالية (جامعة ميلانو) ، ومنطقة آثار أسوان والنوبة، بإشراف المجلس الأعلى للآثار، وذلك من خلال تقارير موسمية ونشر علمي مشترك لنتائج الأبحاث.
هل هناك خطة لحماية وتعزيز التراث الثقافي بغرب اسوان ؟ وهل هناك خطة لفتح الجبانات للزوار أو السياحة قريبًا؟
فيما يخص خطة التطوير، هناك خطة لتوثيق الجبانة وحماية مداخل المقابر وإدخالها ضمن مسار سياحي جديد، يبدأ من قبة الهواء مرورًا بالمقابر الشمالية، ثم جبانة الأغاخان وصولًا إلى ضريح الأغاخان، ليصبح الموقع جزءًا من مشروع متكامل لحماية وتعزيز التراث الثقافي بغرب أسوان، ويصبح مسارًا تاريخيًا متكاملًا يربط بين التاريخ المصري القديم والمعاصر .
اقرا أيضا:
وداعًا ترب السيدة نفيسة.. دهسها البلدوزر الحكومي
«مونيكا حنا» تتحدث: توضيحات حول الاتهامات ومقترحات لإصلاح منظومة الآثار



