دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

حكاية «مدينة سفاجا».. مناجم الفوسفات وصوت التاريخ العابر للأجيال

يخيل إليك للوهلة الأولى عند دخول مدينة سفاجا أنها مدينة حديثة النشأة لا تقارن بعراقة المدن المصرية الضاربة بجذورها في عمق التاريخ. لكن ما إن تعمّق النظر في أحياء “سفاجا البلد”، حتى تكشف لك هذه المدينة الساحرة أسرارها وحكاياتها التي لا تنتهي، وتطل عليك بمعالمها القديمة الشاهدة على أحلام وطموحات وآمال أجيال متعاقبة.

وتلقي عليك شيئًا من سحرها العتيق، ذلك السحر الذي اجتذب في عام 1902 مهندسًا إنجليزيًا شابًا جاء ليخط ملامح مختلفة داخل المدينة، ملامح جمعت ثقافات وطبقات اجتماعية متعددة، فنجح في أن يؤسس حياة نابضة ما زالت تقاوم الزمن وتحفظ لنفسها حضورًا خالدًا في وجدان المكان.

تأسيس الشركة

بدأت الملحمة التاريخية في سفاجا عام 1902م، حين اكتشف المهندس الجيولوجي الإنجليزي إندي كراكسين خام الفوسفات في جبال البحر الأحمر بالمدينة. ومن هنا انطلقت شرارة التحول. إذ أسس شركة فوسفات سفاجا، لتشهد المنطقة لاحقًا أول انطلاقة للقطار المتجه نحو ميناء سفاجا محمّلًا بالفوسفات عام 1910م. معلنًا بداية عهد جديد غيّر ملامح المدينة تمامًا.

يقول علي غزالي، مهندس زراعي ومهتم بالتراث من أبناء مدينة سفاجا: “كان إندي حريصًا على تأسيس شركة تسير وفق المعايير الإنجليزية الصارمة في الانضباط والدقة في العمل. وأنشأ منازل للعمال قسّمها ما بين سكنٍ مخصص لغير المتزوجين وآخر للمقيمين مع أسرهم. كما أسس معملًا للأبحاث لتحليل خام الفوسفات وعيّن فيه مهندسًا إنجليزيًا”.

مباني الشركة تنبض بالذكريات

يقول عبدالوهاب مبارك حسن، 70 عامًا، أحد موظفي الشركة: “تأسست فوسفات سفاجا تأسست عام 1902م. وظلت تعمل تحت الإدارة الأجنبية حتى تم تأميمها عام 1956م. ثم جرى دمجها مع شركة فوسفات القصير تحت مسمى :شركة فوسفات البحر الأحمر – قطاع القصير”. وفي عام 2000م تم دمجها مجددًا مع شركة النصر للتعدين التي ضمت قطاعات (سفاجا، القصير، الحمراوين، السباعية)”.

ويضيف: أُدخلت المباني الأصلية للشركة ضمن توسعات ميناء سفاجا. وبلغ عدد العاملين بالشركة نحو 4034 عاملاً. بينما وصل إنتاجها السنوي إلى نحو 300 ألف طن من أجود أنواع الفوسفات، بمعدل 25 ألف طن شهريًا. كان يصدر إلى دول عدة أبرزها: الصين، سريلانكا، إندونيسيا، وكوريا الشمالية.

وجوه أجنبية صنعت ملامح الشركة

يضيف غزالي: حرص إندي على تشييد مباني الشركة في موقع مميز يطل مباشرة على شاطئ البحر الأحمر وقريب من ميناء سفاجا، لتسهيل أعمال النقل والتصدير. وبجانب مباني الشركة ومرافقها أنشأ ناديًا خاصًا للعمال وأخر للموظفين. كما وضع نظاما واضحا للتدرج الوظيفي يضمن ولاء العمال وانضباطهم.

وأشار إلى أن الهيكل الوظيفي للشركة حمل بصمة واضحة من فكر مؤسسها، الذي أسند المناصب الهامة لكفاءات أجنبية. إذ تولى إنجليزيان مسؤولية الأبحاث والمعمل والشؤون المالية، بينما تولى إيطالي شؤون الموظفين. وكان من بين أبرز مساعدي إندي شخص يدعى “الخواجة بلطو”، ارتبط بالمكان إلى حد أنه آثر البقاء في مصر حتى بعد تأميم الشركة. ودفن في مدينة سفاجا.

ويشارك محمد مبارك، سكرتير مدينة سفاجا سابقًا وأحد أبناءها، رأي المهندس غزالي. مؤكدًا أن هذه القلعة التعدينية العملاقة التي شيدها الإنجليز في سفاجا اكتملت بسواعد مصرية، سواء في مجال الجيولوجيا أو بين عمال المناجم. وبرغم قسوة ظروف العمل في البداية. حيث كان مؤسسو الشركة يرفضون وجود أسر العمال ويشددون الرقابة عليهم حتى وصلت إلى حد مراقبتهم بالمنظار من أعلى قمة بالمنطقة، لكن العمل استمر وبقيت الشركة.

حياة العمال فى الفوسفات

يكمل المهندس غزالي حديثه قائلاً: “جذبت الشركة عمالة من شتى الأنحاء، وكان على الجميع الالتزام بالقوانين واللوائح. بينما حرصت الإدارة على توفير حياة كريمة للعاملين، فأنشأت لهم مساكن راقية”.

كما أسست الشركة أول سنترال وأول مكتب بريد بالقرب من شاطئ مدينة سفاجا. وما زال العمل ساريًا بهما حتى اليوم، محتفظين بين جنباتهما بذكريات وأسرار وحكايات الموظفين والعمال الذين صنعوا تاريخ الشركة.

تصريح الدخول إلى سفاجا.. بين المعاناة والاكتفاء الذاتي

يسرد غزالي بصوت يفيض بالحنين والأسى حجم المعاناة التي تكبدها العمال قبل السماح لهم باصطحاب أسرهم. ويقول: “حتى بعد صدور الإذن، ظل دخول مدينة سفاجا أمرًا بالغ الصعوبة، فهي منطقة حدودية. وكان لا بد من استخراج تراخيص من حرس الحدود تتضمن بيانات دقيقة عن أفراد الأسرة تصل إلى حد وصف لون العينين وطول القامة. ولتخفيف وطأة تلك القيود، أنشأت الشركة مستودعًا للدقيق ومخبزًا يوزع خمسة أرغفة يوميًا لكل عامل. بالإضافة إلى جوال دقيق شهريًا للأسر التي تفضل إعداد الخبز في منازلها”.

ويستعيد غزالي ذكريات تلك الأيام قائلاً إنه لا يزال يتذكر مشهد توزيع الدقيق والخبز. وكيف حرصت الشركة على توفير الاكتفاء الذاتي للعمال بما يحفظ كرامتهم الإنسانية ويعزز رغبتهم في الاستمرار بالعمل. وما زال المخبز ومنفذ توزيع الدقيق قائمين حتى اليوم. وكأنهما شاهدان على مرحلة صنعت تاريخ المدينة.

جودة الفوسفات المصري.. سر التميز العالمي

كان السر وراء اختيار سفاجا لتكون القلعة التعدينية الإنجليزية، هو الخصائص الفريدة التي يتميز بها خام الفوسفات المصري. فقد تبيّن أن تركيبته الكيميائية وارتفاع درجة حرارته يمنحانه ميزة نوعية عن نظائره في باقي الدول العربية. ما جعله مادة مثالية تدخل في العديد من الصناعات الحيوية.

ودفع ذلك الشركة إلى تكثيف جهودها في البحث عن مزيد من المناجم، حتى وصل عددها إلى عشرة مناجم. من أشهرها: أبو رباح، أبو يوسف الجنوبي، نمرة خمسة، نمرة سبعة، أبو عدلان، البيضاني، السحيمات، منجم كوبري الحو، منجم أبو عدلا، منجم الجاسوس. وهكذا غدت سفاجا مركزًا متفردًا لصناعة الفوسفات، واسمًا يتردد في سجلات التعدين العالمية.

استراحة على الهضبة.. إرث مستر إندي الباقي في سفاجا

يصف عادل عبدالغني، 65 عامًا، وكان يشغل رئيس قطاع بالشركة، استراحة مؤسس الشركة بأنها تقع على قمة هضبة مرتفعة في منطقة سفاجا البلد. إذ شُيّدت في موقع يطل منه هو ومساعدوه آنذاك ليتابعوا تفاصيل العمل وحركة الحياة في المدينة الناشئة.

وجسدت الاستراحة الطراز الإنجليزي العريق. حيث بنيت من طابق واحد محاط بسور من حجارة ضخمة. فيما شيدت حوائط غرفها من الحجر الجبلي لتتماهى مع طبيعة المكان، وارتفع خلفها خزان مياه معلق.

هنا كان يقيم مؤسس الشركة. وهنا أيضًا تستمر الحكاية، إذ تحولت لاحقًا إلى استراحة تابعة لشركة النصر للتعدين، لتبقى شاهدًا معماريًا يروي فصولًا من تاريخ المدينة وصناعة الفوسفات في ربوعها.

استراحة كبار الزوار.. نافذة على البحر من قلب الجبال

يضيف عبد الغني أن استراحة كبار الزوار بنيت على أعلى نقطة مستوية من جبال سفاجا، كتحفة معمارية تجمع بين البساطة والفخامة، وبين صلابة الحجر ودفء الخشب. فقد اختير الحجر لبناء جدرانها بما يمنحها متانة وجمالًا خالدا. فيما جاءت الأسقف شديدة الانحدار محمولة بألواح متقنة الصنع، تعلوها مداخن بارزة تضفي على المكان هيبة خاصة.

وبدت الاستراحة متفردة في شكلها. إذ امتزج فيها الطابع الريفي الإنجليزي مع البيئة الشرقية، تزينها الأخشاب التي تم استخدامها سواء في الأثاث أو التفاصيل المعمارية. حيث تزين بعض جدرانها ألواح خشبية مزخرفة أو نصف خشبية. كما تضفي عليها دفئًا وحميمية.

أما النوافذ والشرفات، المفتوحة منها والمغلقة. فقد صُممت بذكاء لتُطل مباشرة على البحر الأحمر، حتى يخيل للزائر أنه يجلس فوق صفحة الماء، لا فوق قمة جبل، في انسجام بديع بين العمارة والطبيعة.

استراحة كبار الزوار.. تصوير: إسراء محارب
استراحة كبار الزوار.. تصوير: إسراء محارب
استراحة الحكايات.. ذاكرة الزعماء والمبدعين

لفرادتها في الموقع والتصميم، غدت استراحة كبار الزوار قبلةً لشخصيات بارزة في المجتمع المصري آنذاك، من السياسيين والفنانين والمثقفين. ويروي أهالي سفاجا أن جدرانها احتفظت بأصداء حكايات تاريخية. حيث استضافت أول رئيس لمصر محمد نجيب، والمشير عبد الحكيم عامر، والرئيس اليوغسلافي جوزيف تيتو.

كما مر بها عدد من المحافظين والوزراء، بينهم الفريق سعد الدين الشاذلي. إلى جانب نخبة من الكتّاب والمثقفين الذين وجدوا فيها ملاذًا يجمع بين هدوء الطبيعة وسحر البحر وعبق التاريخ.

أول مدرسة في سفاجا.. ذاكرة الطفولة ومصنع القادة

بحديث يملؤه الحنين إلى أيام الطفولة، قادنا المهندس علي غزالي إلى ثاني مدرسة أُنشئت في سفاجا بعد المدرسة الإنجليزية. وذلك في أربعينيات القرن الماضي بجوار المسجد الكبير بسفاجا البلد. هناك كانت الفصول تضج بأصوات التلاميذ الصغار تحت رعاية معلمين تميزوا بالوقار والهيبة. مثل الدسوقي أفندي القادم من ميت غمر، ومحمود أفندي من دمنهور، وآخر من قنا. وكانوا يرتدون الزي المصري التقليدي من جبة وقفطان. وقد خرّجت قادة كان كثير منهم من أبناء قرية أم الحويطات، الذين حملوا فيما بعد راية القيادة والفكر في المدينة.

ويحكي غزالي أن شركة الفوسفات لم تكتف بخدمة عمالها. بل سخّرت أحد أوتوبيسات نقل الوردية لاستخدامه صباحًا في نقل طلاب المدارس. في لفتة جسدت التكافل بين الشركة والمجتمع المدني.

أما المدرسة الابتدائية الأولى فكانت تبعد خطوات قليلة عن شاطئ البحر الأحمر. وقد شُيدت على تصميم دائري يبدأ بفصول الصف الأول وينتهي بالصف السادس، في دائرة تُغلق على غرفة الناظر. وكانت جميع الفصول تطل على البحر. في مشهد بديع يوحي بأن البحر نفسه كان شاهدًا على أحلام الصغار، الذين أصبحوا فيما بعد قادة المدينة وكبار عائلاتها.

نادي العمال.. تصوير: إسراء محارب
نادي العمال.. تصوير: إسراء محارب
نوادي الشركة.. مرآة المجتمع الطبقي

يروي أحمد السيسي، أحد أبناء سفاجا، أن الشركة لم تغفل الجانب الترفيهي للعاملين، فأنشأت نوادي قريبة من الشاطئ بالحجر لتكون متنفسًا لهم ولأسرهم. وكانت تلك النوادي انعكاسًا حيًا للمجتمع الإنجليزي عام 1910. حيث تم الفصل بوضوح بين نادي العمال ونادي الموظفين، ولم يكن مسموحًا لأبناء العمال بدخول نادي الموظفين.

بهذا الفصل، أرست الشركة تقاليد طبقية صارمة. فالعمال، وهم الطبقة الكادحة، كانوا يكافحون لتلبية احتياجاتهم الأساسية ويعملون في وظائف يدوية أو شبه يدوية. بينما حظي كبار الموظفين بامتيازات واسعة: من تعليم جيد ومكانة اجتماعية مرموقة وأمان اقتصادي. وصولًا إلى أسلوب حياة مريح تحيطه الرفاهية والخدمات.

وهكذا، غدت نوادي الشركة مرآة تعكس التمايز الطبقي بين فئتين تحت سقف مؤسسة واحدة. في مشهد يلخص الكثير من ملامح المجتمع الصناعي في تلك الحقبة.

اقرأ أيضا:

شركة فوسفات البحر الأحمر.. حكاية أثر صناعي مهدد بالزوال (صور)

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.