دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

حكاية «فواخير طلخا».. من دخان الأفران إلى صمت الشارع

عُرفت مدينة طلخا بصناعة الفخار من عشرات السنين، خاصة في المنطقة المعروفة اليوم بشارع الفاخورة، أو «فواخير طلخا». وتعد هذه الصناعة من أقدم الصناعات المصرية التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، إن لم تكن أقدمها على الإطلاق. وقد انتقلت في عهد الملك فاروق من مدينة سمَنُّود بمحافظة الغربية إلى طلخا، عن يد أحد «الفواخرية» الذي نشر المهنة في المدينة، حتى اشتهرت بها وراجت تجارتها بين أبناء المحافظة وبعض المحافظات المجاورة، قبل أن تهدد بالاندثار في السنوات الأخيرة.

بائعو الفخار في شارع الفاخورة

لا يزال شارع الفاخورة بمدينة طلخا عامرًا بـ”بائعي الفخار”. كل منهم يفرش البضاعة التي ورثها عن أبيه، وأبوه عن جده، ويبيع الأواني الفخاريَّة من أُصص الزرع، وقلل الماء، وزواليع الحمام ومعالفها. إلى جانب أشكال مختلفة من الفخار مثل الفازات والأكواب والأطباق.

ورغم هذه الفِرَش الموزَّعة في أنحاء المنطقة، فإنها تفتقد اليوم إلى صنَّاع الفخار أو “الفواخرية” الذين كانت عامرةً بهم دهرًا طويلًا. كما تفتقد إلى فواخيرها التي اشتُهرت بها. إذ لم يبق في المنطقة فاخورةٌ واحدة تعمل! بعدما هدمت جميعها أو هجرت. بل إن “الصنعة” نفسها – أو بلفظٍ أدق “عادت”- إلى سمنود، المدينة التي لا تزال عامرة بمصانع الفخار وصناعه.

فخار مستورد بدلا من المحلي

الواقع اليوم أن كل ما يعرض على فرش الفخار في المنطقة هو في الحقيقة مجلوبٌ من خارجها، من المصانع المنتشرة في الغربية وغيرها. فبعد أن كان الفخار بعد أن كان الفخار محلّيَّ الصنع في المنطقة، صار مستورَدًا من خارجها.

والواقع أن أمورًا عديدةً طرأت على المنطقة، أدت بها آخر المطاف إلى زوال تلك الصنعة وانقراضها منها تمامًا. وهذا ما يقرره فواخرية طلخا اليوم، بين ثنايا أحاديثهم عن الفواخير، وكيف كانت وانتشرت؟ وكيف زالت؟

فخار طلخا.. تصوير: عبدالرحمن الأمديدي
فخار طلخا.. تصوير: عبدالرحمن الأمديدي
نشأة الفواخير في طلخا

يوضح المعلم محمد حمزة الفواخري، الذي تجاوز السبعين من عمره وقضى معظم حياته في صناعة الفخار، أنه تعلم المهنة صغيرا مع إخوته عن أبيهم. وانتهى به الحال اليوم إلى الجلوس أمام فرشته في شارع الفاخورة. بينما يتولى أبناؤه شراء الفخار من مصنع في الغربية وتجهيز الفرشة وعرض البضاعة عليها وبيعها.

ويضيف ابن عمه، المعلم حمدي حسن الفواخري، أن القصة بدأت مع جدهما الأكبر، المعلم مصطفى الفواخري. الذي أخذ الصنعة عن أبيه هو وإخوته الثلاثة. ثم قرر الانتقال من سمنود الغربية إلى طلخا بالدقهلية، والاستقرار بها. أسس مصطفى أول فاخورة في المنطقة، وبدأ في العمل مع أبناءه شيئًا فشيئًا. ثم انضمّ إليه عدد من أبناء المنطقة، وجميعهم أخذوا عنه صنعة الفخار. وزاد عدد الفواخير تدريجيًّا حتى صارت المنطقة بأكملها عبارةً عن فواخير وبجوارها بضعة بيوت. وتحول الشارع إلى سوقٍ لبيع الفخار، لا غير.

انتقال الفواخير بعيد عن المساكن

مع مرور الوقت ازدحمت المنطقة بالسكان، ودخلها الزحف العمراني. ومع مطلع التسعينات تغير شكلها تمامًا بانحسار المساحات الخضراء منها وزيادة عدد البيوت حديثة البناء. وإزالة الفواخير وهدمها، ثم نقلها.

ويحكي المعلم حمدي حسن الفواخري أنه كان يعمل يومًا في فاخورته، وإذا بأحد الجيران يأتيه مصطحبًا ابنه الذي لم يجاوز العشر سنوات. ويشرح له حجم الخطر الذي تسببه الفواخير على صحة ابنه. فدخان أفران الفخار قد سبب له التهابًا رِئويًّا وهو في هذه السن. وما زال يجري به من مستشفى إلى أخرى لعلاجه.

وتكررت مثل هذه الشكاوى من أهل المنطقة. حتى اضطر الفواخرية إلى نقل الفواخير إلى منطقة أخرى وسط الأراضي بعيدًا عن المباني. وبقيت فِرَش الفخار كما هي في المنطقة إلى اليوم، لعرض البضاعة وبيعها فقط.

لماذا انهارات صنعة الفواخير؟

منذ انتقال الفواخير بدأ عدد الفواخرية أو “صنايعية” الفخار يقل تدريجيًّا. فمنهم من عجز عن العمل لكِبَر سنه، ومنهم من سافر إلى دول الخليج للعمل بنفس الصنعة لكن براتب أعلى وعائد أفضل. وأغلبهم انصرف عن العمل في تلك الأفران التقليدية البدائية للعمل في مصانع الغربية، في سمنود والفرستق وغيرها. لما تتمتَّع به من أفران حديثة. ولا يضطرون إلى استخراج الطمي بأيديهم من الأرض كما اعتادوا.

كما اهتم الفواخرية الجدد بتعليم أولادهم في المدارس بدلًا من تلك الصنعة. إضافةً إلى أن أولادهم أنفسهم ينصرف معظمهم عنها إلى الدراسة والسفر ونحو ذلك. واستمرت الحال على هذا النحو، حتى جاءت جائحة كورونا عام 2020م. ولم تزل الجائحة تمامًا حتى كانت الفواخير كلها قد هجرت وخَرِبت تمامًا. وكان كل الفواخرية قد رحلوا عن المنطقة، ولم يعد بالمنطقة إلا الفواخري الأخير حسن حمدي. لا يزال يصنع بيده إلى اليوم، ويعرض بضاعته في شارع الفاخورة بجوار منزله.

الفواخري الأخير في طلخا

يحكي المعلم حمدي قصته مع الفخار التي بدأت منذ أن كان عمره أحد عشر عامًا. ويقول إنه كانت تسحره تلك الصنعة، وكيف يتحول هذا الطمي المائع إلى قُلة ماء، أو قصرية زرع، أو زلعة حمام؟ وكيف تخرج بهذه الدقة والصلابة والرشاقة؟ كان يراقب حركة أبيه والفواخرية الذين يعملون معه. ويناولهم ما يحتاجون، ويساعدهم كصبي. لكنه كان حريصًا على تعلم الصنعة سريعًا.

وفي ليلة من الليالي تسلَّل إلى فاخورة أبيه، وأتى بالطمي، وصعد على “المكنة”. وبات ليلتَه يحاول صنع قُلة واحدة، لكنه لم ينجح. وبقي على هذه الحال خمسَ عشرةَ ليلة، حتى نجح أخيرًا. فكاد يطير فرحًا، وصنع في تلك الليلة عشرة قُلَل. ثم تركها وأوى إلى فراشه لينام.

القلل العشر

في الصباح سأل والدُه من حوله عن تلك القلل العشر! ولما عرف أنها من صنع ولده حمدي ناداه في جديَّة. وأمره بالصعود فوق “المكنة” وأتى بالطين ووضعه أمامه. وقال له: “أنت من اليوم مش صبي، أنت بقيت صنايعي خلاص، اشتغل!”.

وانطلق حمدي منذئذٍ في صناعة الفخار، بمختلف أشكاله وألوانه، وهو اليوم في السابعة والستين من عمره. يطلب في مدارس المدينة ليعرض على الطلاب مهاراته في التشكيل بالطمي. فبِطِينة واحدة يصنع كوبًا، ثم يعيد تشكيلها إلى فازة، أو إلى طاجن، أو قلة، أو أصيصة، أو طبق. كل ذلك بسرعة وخِفة يد تدهش من يراه. لا سيما الأطفال الصغار الذين يصيحون جميعًا: “برافو يا عمّو، تاني يا عمّو”.

الفخار الذي يصنع في طلخا

بين ثنايا كلام المعلم حمدي، وضح أن كل منطقة تختص أو تشتهر بصناعة نوع معين من الفخار. وذلك يرجع في نظره أولًا إلى نوع التربة. ثم إلى عادة أهل المنطقة. فمثلًا: طينة طلخا الحمراء (وكذلك الغربية) تستخرج من أنقاض البيوت القديمة، أو: “الهدد”، ثم يغربل وينقى. ثم يجفف عند درجة معينة، ويحفظ بعيدًا عن الشمس، ولا يصلح إلا لقلل الماء وأُصص الزرع ولوازم الطيور والحمام؛ من سقايات ومعالف وزوالع، ونحو ذلك.

أما محافظة الشرقية فاشتهرت بصناعة أزيِرة المياه. بخلاف الصعيد المختص بصناعة بلاليص المِشّ. وهكذا تكاد تستقل كل منطقة بصناعة نوعٍ من المصنوعات الفخّارية.

فواخير مدينة طلخا – تصوير: عبدالرحمن الأمديدي
فواخير مدينة طلخا – تصوير: عبدالرحمن الأمديدي
من سمنود بدأت.. وإليها عادت

من سمنود بدأت الصنعة، وإليها تعود. هذا هو الوصف الملخص لما جرى لصناعة الفخار في مدينة طلخا، وتحول شارع الفاخورة من مكان يعج بالفواخير والأفران و”المكن” والسماء الملبدة بدخان الطمي المحترق إلى مجرد فرش لبيع الفخار، الذي لم تعد سوقه رائجة، ولا الاتجار فيه صار مجديًا أو على الأقل كافيًا في فتح البيوت، وأصبح الحل إما السفر إلى الخارج للعمل بنفس الصنعة، وإما البقاء وتركها بالكلية، وهكذا اندثرت فواخير طلخا بعد رحلت استمرت حوالي 150 عامًا.

اقرأ أيضا:

رحلة التآليف المولدية عبر القرون.. من كتب الموالد إلى أصوات المشايخ

«ليلة الملوخية».. عادة متوارثة للاحتفال بالمولد النبوي بنجع العقاربة

من البقالة إلى الشعر.. حكاية «عوض قشطة» شاعر الدقهلية المنسي

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.