دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

حكايات الولاية اليومية: ستّات يصنعن خرائط الشبع في الخفاء (5-5)

فالكل يدخل تحت الحصر أجمعه

وليس ثم سوى من ليس يمنع

فاعجب لمنفعل في ذات فاعله

يكن بها فاعلاً والكلّ قد جمعوا

على وجود الذي قلناه من عجب

وكلهم بالذي جئنا به قطعوا

-ابن عربي.

تقول نزهة برضة في كتابها الأنوثة في فكر ابن عربي: “يستند مبدأ تماثل البشرية إلى خاصية جوهرية في الإنسان، وتتلخص في قدرته على المعرفة، إذ بالمعرفة يتميز الكائن البشري عن باقي الموجودات، وبالمعرفة يتمتع بالحرية والاختيار، مما يكسبه النبل والشرف باعتباره الكائن الوحيد الذي يحوز ملكة الفهم والإدراك. غير أن قابلية المعرفة، التي يشترك فيها جميع البشر كحد يوحدهم، تتميز عن المعرفة المكتسبة والتي تتحقق بطرق متنوعة، فيتسلل الاختلاف بين البشر، وهو اختلاف يمس الأحوال لا العين. ويترتب عن التمايز تنوع المراتب وتفاضل المنازل.

من هذه الناحية الأخيرة، يصح الحديث عن شرف الإنسان، فدل أن شرف الإنسان بأمر عارض يسمى المنزلة أو المرتبة، فالمنزلة هي الشريفة (…) وأرفع المنازل عند الله أن يحفظ الله على عبده عبوديته دائمًا (…) فهذه أشرف منزلة تعطى للعبد. سفر الإنسان في منازل المعرفة يؤهله لمقام العبودية (283)، ويقصد بها، في الخطاب الأكبري، المعرفة بحقيقة الإنسان التي تميزه عن ربه.

ومن ثم لا يراد بالمعرفة التأسيس النظري لأنساق فكرية، بل المقصود هو المعرفة بالنفس التي تمكن صاحبها من إدراك طبيعة ذاته في علاقتها بالمطلق. وبذلك يحصل له القرب من نفسه ومن ربه استنادًا إلى حديث نبوي شائع في الفكر الصوفي يقول: “من عرف نفسه عرف ربه”.

***

ومن صفات العبودية أن يتقرب العبد إلى الله، ويكون في خدمة أخيه، وغيرها من الصفات التي تنزل على العبد صفة العبودية، ولكن ليس محلها هنا الآن.

لكنني أعود لبداية رحلتي في التسجيل مع النساء اللاتي يدِرن الخدمات لأسمع حكياتهن، ولأحكي حكايتي معهن، بينما يحاول الجميع النسيان. نحاول في الميدان أن أتذكر كل شيء، فمن الذي يريد أن يتذكر كل شيء على أي حال؟! ألم يتم إخبارنا مرارًا أن النسيان نعمة! على أي حال، أنا أيضًا بينما تذكرت أشياء نسيت أخرى، إذ وقعت في فخ الشفاهية ونسيت أن أدون يوميًا كل ما يحدث معي وتاريخه، فأتذكر اللقاءات وأنسى التاريخ، هكذا أفقد حلقة من حلقات اللعبة.

في البداية كنت أريد أن أسجل مع ثلاث نساء، فجاءت الصدفة أن أصبحن أربعة، واحدة منهن بترت لقائي معها، والخامسة مجرد حكاية إذ رفضت التسجيل من الأصل. كنت أبحث عن درويشات، وكانت الصدفة الثانية أنهن كن جميعًا أصحاب خدمات؛ إدارة الخدمة ليست بالأمر الهين، حتى على الرجال فما بالك بالنساء، ما جعلني أود أن أكمل بشكل خاص فيما بعد حكايات النساء اللاتي يدِرن خدمات صوفية وكيف يدِرنها، ليكون هذا مشروعي الجديد في الفترة المقبلة.

***

تعرفت في هذه الرحلة على خمس سيدات، لكل واحدة منهن شخصية وطابع مختلف، فمنهن المثقفة المتمردة التي تتكلم بعين الحقيقة، ومنهن المديرة أو بالعامية “الأدرجية” التي تحمي خدمتها وتقدم وجه الشريعة، ومنهن الشعبية البسيطة التي تتحدث على سجيتها، ومنهن التي تحاول مسك العصا من المنتصف فتقول أشياء وتحذف أخرى، ومنهن التي رفضت تمامًا أن تتحدث معي.

وبينما استقبلتني بعضهن بحفاوة، خفت أخريات ورفضن التسجيل، حتى أنني شبه طُردت من أحد تلك الخدمات. تواجه النساء تحديات مضاعفة في هذا الأمر، فلا يواجهن فقط المتاعب الاقتصادية أو الاجتماعية مثل نظائرهن من الرجال، بل أيضًا التعرض للسمعة، أو ترويج شائعات عنهن، أو التشكيك في صدق مقصدهن. تبدأ الكثير من الأسئلة والملاحظات في التسلل إلى رأسي، إذ أنني وجدت أمرًا غاية في الغرابة؛ الرجال في الساحات الذين يتردد عنهم أنهم “شمال.. نصابين.. مش بتوع ربنا.. بتوع نسوان… إلخ” لا يؤثر عليهم هذا الأمر أبدًا، بل يرونه نوعًا من الشهرة، دربًا من دروب الصيت، فيزداد فخرهم وسعادتهم، يكثرون من الظهور والكلام في المجالس، وحتى اختلاق القصص ونعلم أنهم اختلقوها لأنهم ينسون فيحكون القصص نفسها مرة أخرى بأكثر من طريقة. أما النساء اللاتي يتردد عليهن مثل هذه الأمور، فيميلن للحذر وإحاطة أنفسهن بسياج من الحماية، من دراويش، واختفاء وصمت.

***

حلاوتهم: امرأة في السبعين، وجهها مجعّد وعيناها لامعتان بذكاء خافت. تجلس دائمًا على كنبة بلدي داخل حوش صغير، تدخّن الشيشة وتدير خدمة بسيطة تُمرَّر فيها أكياس السكر والأرز واللحمة من باب جانبي إلى رجال يظهرون ويختفون. خلفها ديب فريزر مكدّس، وبجوارها طفلة نحيلة تناديها “ستي”، تنفّذ أوامرها قبل أن تُقال. لكنها تستند إلى مفهوم السرّ عند أهل الله: ما يوحى إليهم لا يجوز الكشف عنه. استقبلتنا بحفاوة، ثم انقلبت فجأة إلى غضب وزجر حين ذكرتها بسبب الزيارة، رافضة أي تسجيل بحجة أن “هذه أسرار”.

الخدمة هنا مصدر عيش، بين من يمارسها لوجه الله، ومن يستخدمها – كما قالت أم حسين لاحقًا – بمنطق: “أدي المساكين بياكلوا وأنا وعيالي بناكل معاهم”، وتعتبر هذه من أهم التهم التي تُوجّه للنساء حسب ملاحظاتي، بينما في أكثر من مرة رأيت أنه يتم التعامل بشكل عادي جدًا مع الرجال الذين يديرون الخدمات بالمنطق نفسه، إذ يقول الناس حوله: “عادي مشغلها شحاته.. وكله من عند ربنا.. هو اللي بيرزق الكل”.

***
خدمة أم هاشم رحمها الله.. الصورة من الكاتبة
خدمة أم هاشم رحمها الله.. الصورة من الكاتبة
***

أم هاشم – رحمها الله، إذ علمت بخبر موتها بعد فترة ليست بطويلة من هذه المقابلة – كانت الأكثر اضطرابًا. لا أعرف إن كانت متزوجة أم لا، لكن سؤالًا بسيطًا عن أولادها فجّر غضبًا صريحًا. كانت ترتدي دائمًا عباءات فاتحة مزركشة، وتمسك حقائب مبهرجة، وتتحرك بعصبية وحذر. خدمتها تقع في أرض مهجورة قرب الحسين؛ غرفة وجداران قديمان، إضاءة حمراء ليلاً، وأوشحة وصور معلّقة بينها صور لها. حين سجلت معها أول مرة، تحدثت عن كراماتها وعلاقتها بالله، وأنه يُطلعها على ما في القلوب، وتقول ذلك بنبرة تهديد.

وفي اللحظة التي سألت فيها عن أبنائها، صرخت: “أنتي جواكي حاجة مش خالصة!” ثم أنهت الحوار. عرفت لاحقًا أنها لم تتزوج قط، وربما كان هذا ما حاولت إخفاءه. زرتها بعد ذلك، لكنها رفضت تمامًا أي تسجيل إضافي ودلتني – باستياء – على خدمة أم حسين.

***

أم حسين كانت النقيض الكامل. تشبه أمي بطريقة غامضة؛ نفس العباءة السوداء، نفس الضحكة العالية والعيون الواسعة. خدمتها تقع في حوش كبير مهجور يشبه بيوت القاهرة القديمة، مليء بالناس والأطفال. وجدتها تغرف العدس للمارة صباح مولد النبي، بهدوء وثقة. رحّبت بنا فور أن عرفت صلتنا بأم نهلة.

وما إن ذكرتُ لها أم هاشم حتى انفجرت بالشكوى: “الست دي واقفة لي زي اللقمة في الزور!” وبدأت تحكي بلا خوف عن خلافاتهما، وعن بلاغ قدّمته أم هاشم ضدها أيام كورونا. تتحدث أم حسين بعفوية مطلقة عن أولادها: “الخاربين الدنيا”، وعن خلافاتها العائلية، وعن علاقتها بالله التي تقول عنها بلا تردد: “بحب سيدنا الحسين أكتر من النبي ومن ربنا… وربنا مش هيزعل مني”. وافقت على التسجيل، لكنها أجّلته لليوم التالي بسبب التعب من أيام المولد.

***

الحاجة صفية: كان أول لقاء لي مع الحاجة صفية في أيام مولد سيدنا الحسين مع أحد الأصدقاء المشتركين بيني وبينها. أكلنا وسهرنا عندها، ساعدتها في تجهيز الطعام، جلسنا معًا على الكنبة بينما جلس الرجال بالقرب منا على الجلسة العربية على الأرض. صفية قصيرة بيضاء ووجهها يطل منه الذكاء والحكمة أيضًا، في منتصف الستينات. سهرنا عندها حتى الفجر، ثم نزلنا للصلاة، وحين نزلنا قال لي الصديق المشترك: “أنا كده وريتك شريحة تانية من الدراويش، الشريحة اللي مايلة للتشيع”، لم أفهم سبب قوله هذا، فلا يوجد أي دليل على كلامه. بعد عام قررت أن أسجل معها، وللحق كنت خائفة أن ترفض التسجيل معي. في بيت صفية تجد بعض الكتب والأوراق في أكثر من زاوية، ونظارة للقراءة، وأقلام.

بعد الحديث معها، تجد صفية مثقفة جدًا، متمردة على عاداتها الصعيدية لكن دون تجاوز فج، أو ضد الدين. ترفض بصرامة أن هناك فرقًا بين الرجال والنساء، كما ترفض فكرة أن المرأة لا يصح أن تعطي عهدًا، وتقول صراحة أنها قابلت أحد الصالحين في سيدي أبو الحسن الشاذلي وقال لها: “اللي مخدش قبضته من ست يبقى مخدش قبضة”. تميل إلى فكر ابن عربي، وحين علمت أنني لدي علم ببعض أفكاره فرحت وقالت: “حلو.. حلو.. ده هيفتح مواضيع كتير للكلام بينا”. أما حين سألتها عن فكرة التشيع وهل هي فعلاً متهمة بهذا الأمر، قالت إنها ليست متهمة فقط بل أنها عانت لسنوات وسنوات من هذا الأمر.

***
بوابة خدمة الحاجة أم حسين.. الصورة من الكاتبة
بوابة خدمة الحاجة أم حسين.. الصورة من الكاتبة
***

الحاجة نهلة: ربما بدأت علاقتي بنهلة قبل سنوات من مقابلتها بالفعل، حكيت عنها وعن قبة الشيخ أحمد باشا حسنين في المقال السابق. لأسجل مع الحاجة نهلة بذلت جهدًا مضنيًا، كانت رافضة تمامًا للفكرة، وبصعوبة وافقت أن تسجل معي، كان هذا ديسمبر 2022 تقريبًا. بعدها بأيام خرب هاتفي ومحيّت التسجيلات كلها فجأة بشكل غريب. حين أخبرتها بضياع التسجيلات، ضحكت طويلاً وكانت فرحة وقالت: “كده يبقى مكنش في إذن”.

ترددت عليها بعدها مرات كثيرة، حتى اقتنعت أخيرًا وسجلت معي. لا تحكي نهلة أي شيء بسهولة حين يفتح التسجيل، مع أنها تتحدث بحرية وطلاقة وتحكي الكثير والكثير حين يكون التسجيل مغلقًا عن كرامات والدتها وعن أشياء رأتها، عن إحساسها بالناس قبل حضورهم، وغيره. تخبرني بأن الآن الوقت سيء، لا يوجد أولياء ولا صالحين كما كانوا في السابق، بينما تكون أثناء التسجيل أكثر تحفظًا، تؤكد على ما هو متفق عليه في المجتمع والمتعارف عليه من أحكام الشريعة بصرامتها، فتؤكد أنه لا قوامة للنساء، ولا قيادة، وتستشهد بأن الله لم يأت بأي نبي، لأن المرأة لم تُكلف من الله بأن تكون نبية أو قائدة، وفي الوقت نفسه حين تتطرق للحديث عن والدتها تصفها بأنها كانت “قائدة”! كما تؤكد أنه لا يمكن لأي شيخة أن تعطي عهدًا، وفي كل سؤال أسأله لها، تقدم لي وجه الشريعة من الأحكام الإسلامية، لا عين الحقيقة.

***

أعود إلى مفهوم «خرائط الشبع» وأوضح أنه لا يحيل إلى جغرافيا مادية بقدر ما يكشف طبقة مستترة من المدينة، تلك التي ترسمها النساء بأفعال صغيرة ومتكررة. فالمدينة كما نعرفها تعتمد على الطرق والكباري والإحداثيات، لكن ثمة مدينة أخرى تُبنى بخطوات النسوة اللواتي يطهون، ويوزعن، ويُسندْن غيرهن بلا إعلان. كل مرة تمدّ فيها امرأة طبقًا لجائع، أو تفتح شقتها لطفل حائر، أو تترك كيسًا من السكر على باب محتاجة، تتكوّن نقطة جديدة في هذه الخريطة غير المرئية. هي شبكة من العطف والجدعنة، تربط بين البيوت والحارات، وتعيد ترتيب القاهرة بعيدًا عن خرائط السلطة والسوق. في هذه المدينة البديلة، يصبح الشبع ليس مجرد امتلاء للمعدة، بل شكلًا من أشكال الطمأنينة، ودليلًا على أن المدينة – مهما اشتدت – لا تزال تُحمل على أكتاف ستّات ينسجن جغرافيتها بخيوط غير ملموسة.

اقرأ أيضا:

قيادة النساء في الخدمات الصوفية: الإطعام بوابة الروح والمجتمع(4-5)

الست الإمام: إمامة المرأة في التصوف بين التحقق الروحي والقيادة الباطنية(3-5)

نساء في حضرة البركة: «الست الولية.. حين تحمل النساء سرّ الولاية» (1-5)

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.