«حكايات العبور».. التراث الشعبي في ذاكرة الحرب

ليست كل البطولات تُكتب في الكتب، بل تعيش في الحكايات التي تُروى، والروايات التي تتناقلها الألسن جيلًا بعد جيل. نصر أكتوبر 1973 لم يكن مجرد معركة عسكرية، بل حدثا بالغ الأهمية تجاوز حدود الخنادق والمدافع. ليصبح جزءًا من وجدان الشعب المصري، محفورًا في قلب كل أسرة، ومرويًا بصوت الجدود والآباء لأبنائهم وأحفادهم.
جنبًا إلى جنب مع الروايات الرسمية التي توثق الأرقام والخطط والتحركات الاستراتيجية. كانت للشعب روايته الخاصة، التي ولدت من رحم التجربة. ومن لحظات الخوف والانتصار، ومواقف البطولة الصادقة التي عاشها الجنود البسطاء على الجبهة.
في كثير من البيوت المصرية، هناك حكاية محفوظة تروى مع كل مناسبة وطنية عن أحد الأقارب أو الأجداد الذين شاركوا في الحرب. إما كمقاتل أو كعنصر دعم خلفي. وغالبًا ما تتسم هذه الحكايات بطابع شعبي مؤثر، يجمع بين الفخر والعاطفة. فمنها من يتحدث عن زميل لم يتردد في التضحية بنفسه لإنقاذ كتيبته، أو عن لحظة رفع العلم تحت وابل النيران، أو حتى عن معاناة الصحراء قبل العبور بلحظات. ومع مرور الوقت، تتحول هذه القصص إلى ما يشبه الوثائق الأسرية التي تروى بقدسية، وتجسد فيها معاني الشجاعة والتضحية والكرامة.
حكايات شعبية عن الحرب
كما انتشرت بين الناس حكايات شعبية غير موثقة رسميًا، لكنها عاشت في الذاكرة الجمعية. مثل قصة الجندي الذي عبر القناة بمعجزة، أو الفلاح البسيط الذي ترك أرضه وانضم للجبهة يوم العبور.
ورغم أن بعض هذه الروايات قد تكون خضعت للمبالغة أو الإضافة. إلا أنها تؤكد أمرًا واحدًا: أن نصر أكتوبر كان نصرا لشعب كامل شارك فيه بالروح، وربما بالكلمة، أو بالحكاية التي نقلها للجيل الذي يليه.
في هذا التقرير نحاول أن نلقي الضوء على هذه الحكايات التي شكلت وجهًا آخر لذاكرة النصر، بين أجيال عاصر بعضها الحرب. وسمع عنها آخرون من أجدادهم، لتظل حية في الوجدان الشعبي حتى اليوم.
الله أكبر.. صيحة النصر
تحكي إنجي عن والدها سري سليم متياس، جندي المدفعية وأحد المشاركين في حرب أكتوبر، من خلال روايات احتفظت بها منذ طفولتها. كانت تبلغ من العمر نحو ست سنوات حين سألته ذات يوم عن إصابة قديمة في قدمه، فأخبرها أنها تعود إلى معركة العبور عام 1973.
وتقول إن أكثر ما علِق بذهنها من حديث والدها هو ترديده الدائم لعبارة: “الله أكبر” التي كان يؤكد أنها كانت تقال بصوتٍ واحد من المسلمين والمسيحيين معًا. حتى بدا له وكأن الجبال تهتز من حولهم حين تقال. وتضيف: “كنا أنا وأخي نتابع مشاهد الحرب في الأفلام. وكلما سمعنا صيحة الله أكبر نقفز من الفرح ونرددها كأننا نعبر معهم. كان والدي يقول إنهم وقتها شعروا أن كل بيت في مصر يردد معهم نفس الكلمة”.
ورغم بساطة هذه الذكريات، فإنها حملت للأبناء تصورًا حيًّا عن كيف عاش الجنود تلك اللحظات. وكيف حملوها معهم إلى بيوتهم بعد الحرب. لتتحول من وقائع ميدانية إلى جزء من العهد المتوارث داخل الأسرة.

قذيفة “أبو جاموس”
تروي إنجي أيضا بعض المواقف التي حكاها والدها بعد مشاهدة الأفلام الوطنية. مثل مشهد استشهاد زملائه أمام عينيه، وكيف كان يتم إنقاذ بعض الجنود بأعجوبة.
وفي واقعة أخرى، قال إن طائرة إسرائيلية هاجمته، وأمره قائده بالانسحاب. لكنه لم يتمكن من العودة، فاضطر إلى القفز والجري حتى نجا بنفسه. وبعد أربع ساعات عاد إلى الكتيبة بثياب ممزقة، وسط دهشة زملائه وقائد الكتيبة الذين كانوا قد بحثوا عن أشلائه في الممرات الحربية. ويحكي أنه لم ينظر خلفه أبدًا، بل ظل يجري دون توقف حتى نجا.
كما تشير إنجي إلى واقعة أخرى في موقع كانت تستخدم فيه قذيفة تُعرف باسم “أبو جاموس”. وكان والدها وقتها أنباشي. تلقى تعليمات من قائده بتحديد الهدف، الذي قال له: “قبل ما أقولك اضرب، تكون ضربت”. وبالفعل، نفذ البطل سري سليم الضربة بنجاح دون أن يرى الهدف مباشرة. فقط من خلال الوصف، وأصاب الهدف من أول طلقة. وسط إشادة من قائده الذي قال بصوتٍ مسموع للكتيبة: “الله ينور عليكم، جبتوها، سري نفذها من أول مرة.
وتضيف أن تأثير الحرب ظل ملازما لوالدها لسنوات طويلة، حتى أنه كان يرتبك ويخاف من صوت الطائرات. رغم مرور عقود على انتهاء الحرب. تقول: “حتى لو طيارة مدنية كانت تمر فوق العمارة، كان يتخض”.
ورغم انتهاء الحرب، استمرت علاقات الصداقة بينه وبين رفاقه في الخدمة. وكان أحدهم – ويدعى حسين – يحرص على زيارته بشكل دائم. رغم أنه من المنصورة، فقط ليستعيدا معًا ذكريات الحرب التي شكلت جزءًا مهمًا من شخصيتهما وحياتهما بعد العودة. لتصبح حكاياتهما من الذاكرة الدائمة للعائلة.
إعلان استشهاد غير رسمي
أما بتول صلاح، فتحكي عن خالها الشهيد المساعد شعبان عبد العال محمد، الذي استُشهد يوم 21 أكتوبر 1973 في سيناء. تقول إن العائلة لم تتلق خبر استشهاده رسميًا في البداية. ما دفع والدتها للبحث عنه لفترة طويلة حتى تعرف مصيره.
وبحسب ما تناقلته الأسرة عن زملاء الشهيد، فقد تمكن من تدمير عدة دبابات إسرائيلية. وبعدها طالبه قائده بالانسحاب حفاظًا على الموقع. لكنه رفض حماية للكتيبة والجنود معه، ما أدى إلى استهدافه بصاروخ أصابه في الرأس وأدى إلى استشهاده.
تروي بتول أن والدتها حاولت التأكد من الخبر عبر سؤال زملائه والذهاب إلى الجهات المعنية. حتى تمكنت من زيارة مقابر الشهداء، وهناك رأت جثمانه بملابسه العسكرية داخل الكيس، وهو ما أكد لها خبر الوفاة. ومن بين التفاصيل التي تحتفظ بها العائلة، أن الشهيد سلم زميلًا له دبلته ومحفظته قبل استشهاده. وطلب منه أن يسلمهما لأخته فقط، ولا تزال الأسرة تحتفظ بهذه الرواية كجزء من ذاكرتها الخاصة عن الحرب.

يذاكر وهو يحارب
أما الكاتب والناقد أحمد كريم بلال، يروي أن والده، أحد الجنود الذين شاركوا في حرب الاستنزاف وعايشوا مقدمات حرب أكتوبر، كان يذاكر وهو يحارب. إذ لم تعقه الحرب عن استكمال دراسته.
يقول أحمد: “كنت في بداية طريقي نحو الحصول على درجة الماجستير في الأدب العربي عام 2003. وكانت لدي التزامات مهنية كثيرة تعيقني عن الدراسة، فكان أحد أصدقاء والدي يسألني دومًا عن دراستي. ولما أخبرته أن الشغل يعطلني عن المذاكرة، قال لي: يا أخي، دا أبوك كان بيذاكر وهو بيحارب!”. ليكتشف أن هذه السمة دائمًا ما عرفت عن والده خلال الحرب وأصبحت تاريخًا مرتبطًا باسمه.
وبالعودة إلى سيرة والده، يوضح أنه التحق بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر عام 1964. وهو في السادسة والعشرين من عمره، بعد انقطاع طويل عن التعليم. وبسبب كبر سنه، لم تقبل أعذار التأجيل عند استدعائه للخدمة العسكرية بعد نكسة 1967. فاضطر إلى أداء خدمته العسكرية وهو لا يزال طالبًا جامعيًا. ولم يتمكن من دخول معظم امتحاناته في تلك الفترة. بسبب تزامنها مع الحرب، إلا أنه واصل محاولاته لاحقًا حتى أنهى دراسته الجامعية.

من ذكريات العائلة
في هذا السياق، يستعيد الكاتب عمرو الجندي جانبًا من سيرة والده، أحد المشاركين في الحرب، والذي التحق بالخدمة العسكرية عقب تخرجه في كلية الزراعة، وكانت رتبته – على الأرجح – ملازم احتياط بسلاح المدفعية.
يقول عمرو: “توفي والدي وأنا في سن المراهقة، الأمر الذي لم يتح لي فرصة طرح أسئلة تفصيلية حول مشاركته في الحرب أو خوضه ملحمة العبور، لكني أتذكر جيدًا مدى فخره الدائم بدوره في نصر أكتوبر، واعتزازه الكبير بكونه جزءًا من هذا الحدث التاريخي. وكان هذا الفخر يزداد وضوحًا كل عام مع حلول ذكرى النصر. لا سيما أثناء عرض الأوبريتات والأعمال الغنائية الوطنية التي كانت تذاع في تلك المناسبة. حيث كان يتابعها بشغف ويشارك بترديد كلماتها بحماسة واضحة”. ويضيف أنه ظل يستمد من تلك الذكريات مصدر حماسته حتى الآن.
فخورًا بالنصر حتى وفاته
تحكي هيلانا ماهر عن والدها، العريف المقاتل ماهر شفيق حنا، من محافظة الشرقية، الذي خدم في القوات المسلحة المصرية خلال حرب أكتوبر. بعد أن التحق بالجيش أثناء النكسة بديلًا عن شقيقه الأكبر المسافر في بعثة عمل بالخارج. ورغم صغر سنه وقتها، تحمل المسؤولية كاملة. وانضم إلى صفوف الجيش في وقت حساس من تاريخ البلاد.
وتقول إن والدها لم يكن يحتفظ بالكثير من الصور من فترة خدمته، إلا صورة وحيدة بقيت بعد أن فقدت أغلبها. وتضيف: “كان أبي لا يبخل بسرد الحكايات عن الحرب، بل جعلها جزءا من طفولتنا. كنت فخورة جدًا بانتصار أكتوبر. وكنت أقول له: يا ريت الحرب ترجع تاني – كنت صغيرة لا أفهم معنى الحرب- فكان يرد بهدوء: الحرب مش حاجة حلوة، أتمنى ما تحصلش تاني”.
بطل تبة الشجرة
من أكثر المواقف التي كانت يكررها في حديثه معنا، أيام ما قبل الحرب في الصحراء. حيث كان الطعام لا يكفي، وكان الجنود أحيانًا يصطادون الثعابين ويأكلونها للبقاء.
كما تأثر كثيرًا بفقدان زملائه المقربين، إذ كان يراهم يضحكون، ثم تسقط عليهم دانة في لحظة، ليجد أحدهم قد استشهد. وعن الحماس والإيمان الذي كان يملأ قلوب الجنود. تقول هيلانا: “كان دايمًا يقولنا لنا إن ربنا هو اللي كان بيديهم القوة يشيلوا أسلحة تقيلة ويطلعوا بيها على خط بارليف. وكان واحد من اللي شاركوا في تحرير تبة الشجرة”.
تبة الشجرة، التي كانت من أبرز مواقع العدو الإسرائيلي شرق القناة، ظل والدها مرتبطًا بها طوال حياته، وكان يأخذ أسرته كل عام في زيارة للموقع. يشرح لهم الأسلحة التي استخدمها الجانب المصري، وتلك التي تم أسرها من العدو. وتضيف أن هذه الذكريات شكلت جزءًا من وعيها الوطني المبكر. وأن روايات والدها لم تكن مجرد حكايات، بل توثيق شفهي حقيقي لمعركة عاشها وشارك فيها. وظلت محفورة في وجدانه حتى رحيله.
البيان العسكري الأول.. لحظة لا تُنسى
الحكايات عن النصر لا تنتهي مهما تعددت الروايات واختلفت من بيت لآخر، لكن تبقى شهادات شهود العيان هي الأكثر تأثيرًا. وفي إطار توثيق شهادات المشاركين في الحرب كجزء من التراث المصري، نستعرض شهادة اللواء طارق رجب، الذي تحدث عن التجربة من قلب الحدث. إذ قضى سبع سنوات بين التدريب والانتظار بعد نكسة يونيو 1967. حتى جاء يوم العبور الذي طالما حلم به جيل كامل من الشباب المصري.
ورغم انتهاء الحرب وتحقيق النصر، يقول اللواء طارق رجب إن حرب أكتوبر ترتبط في ذاكرته دائمًا بالبيان العسكري الأول يوم 6 أكتوبر. في إشارة إلى اللحظة التي أعلن فيها عن بدء العبور، والتي ظلت حاضرة في ذاكرته إلى اليوم.

حكايات لم تصل إلى الدراما
حول المواقف المفصلية التي لم يتم توثيقها في الأعمال الفنية أو الأدبية، أشار اللواء إلى أن المجموعة (73) مؤرخين قامت بدور مهم في هذا الجانب. حيث عملت على توثيق حكايات الأبطال الحقيقيين من القوات المسلحة على وسائل التواصل الاجتماعي.
كما أكد أهمية الاستمرار في توثيق جميع الشهادات عن الحرب. سواء الرسمية أو الشعبية، قائلًا: “البطولات كثيرة، والشهداء من كل أفرع القوات المسلحة. ولن أنسى الشهيد إبراهيم الرفاعي، وزميلي في الدفعة الشهيد جمال عزام”.
وحول تأثير الأغاني الوطنية خلال فترة الحرب، أوضح أن أغنية “الله أكبر بسم الله” كانت من أكثر الأغاني تأثيرًا. إذ كانت تبث لرفع الروح المعنوية للجنود، وحققت أثرًا فعليًا على أرض المعركة. كما تحدث عن أجواء الحرب داخل البيوت المصرية. مشيرًا إلى أن التواصل مع الأهل لم يكن سهلًا، لكن الجميع كان يعيش حالة ترقب، مؤمنًا بأن النصر سيأتي، لا محالة.
دعوة للتوثيق
يختتم اللواء حديثه قائلا: «نصر أكتوبر لا يقل عظمة عن طرد الهكسوس أو التتار، فهو إنجاز تاريخي لا يقل أهمية عن أي انتصار في تاريخ مصر. واليوم، في عصر الذكاء الصناعي، يمنحنا الإنترنت فرصة أكبر لتخليد ذكرى الحرب وتوثيقها كما فعلت السينما الأمريكية مع الحرب العالمية الثانية”.
ويضيف: «حرب أكتوبر ليست فيلمًا سينمائيًا… بل تجربة عاشها الآلاف، وأنا كنت من المشاركين فيها، وحاصل على نوط الشجاعة».
اقرأ أيضا:
د. بسمة سليم: مصر الجديدة تملك هوية بصرية فريدة يجب إدراجها على خريطة السياحة
بطل قومي وجندي يعاني.. «الفلاح المصري» في لوحات الفن التشكيلي وكتب الأدب
الروحانيات على الشاشة.. كيف جسدت السينما المصرية الموالد والطقوس الدينية؟