حسام جاد يكتب: حين خرجت من بيت جدتي.. المدينة ألم يسكننا ونسكنه

كيف تتشكل تصوراتنا وأحكامنا المعيارية (الجمال/ الانتماء) عن المدينة؟. ولماذا يقتصر السعي لتحقيق المكانة، على القدرة في التواجد داخلها، وضمن المجموعات البشرية من قاطنيها (جماعة خلاص)؟!

شعرت درية شفيق بمزيد من الوحدة والضياع، وأصبحت تلك المدينة “طنطا” التي لم تحبها أبدًا، مدينة لا تطاق. وتقول “أني لم أكن سعيدة في طنطا أبدًا”.

جعلني شعور درية تجاه طنطا، أفكر في موقعي داخل المدينة، فأنا لست من أبناء القاهرة على أي حال، وقد نشأت بمدينة دمياط وهي تفوقها هدوءًا ورحابة، تتناغم عناصرها وتتشابه بشكل قد يصل إلى الرتابة، لكنها بلا شك قد شكلت طفولتي.

كشري القاهرة

وأنا على أعتاب العام العاشر على تواجدي في مدينة القاهرة، متنقلًا فيها بين عشرات المطاعم التي تقدم الكشري، حتى استقر بي الحال إلى جوار هذه النافذة التي تطل على القاهرة الخديوية. مازلت أعتقد أن طبق الكشري يعكس وجودي بالمدينة على مدار العشر سنوات. وهي الفترة ذاتها التي أصبح فيها طبق الكشري أحد زملاء السفر الطويل الذي لا يمر أسبوعًا دون الالتقاء به ولو لمرة واحدة، كطقس اجتماعي في المقام الأول تعرفت من خلاله على أجواء المدينة، واندمجت مع عناصرها المتعددة.

تصف درية نفسها:

“الطفل الأعرج في صحراء بلا دليل”.

من ثم ابدأ في التفكير في موضع المدينة وتأثيره في نفسي، فالقاهرة قادرة بكل بساطة على أن تنتزع روحك وأن تسحق عظامك. وأن تُعيد تشكيلك من جديد في كل صباح، ماهرة، مخادعة، يمكنها أن تمنحك الأمل، تأخذك إلى أعلى مناطق الخيال، وأن تسلبك في المقابل العمر في طرفة عين، ودون أن تشعر.

الست أم رانيا.. الحطابة

ابتسامة أم رانيا التي تجمع بين الفخر والسخرية، ابتسامتها التي تعلن عن انتصارها، عندما تتذكر الجنيهات الثلاثة التي كسبتها مقابل التَارك الأول، الذي استغرقها العمل عليه نحو أربع ساعات، وكذلك لدى حديثها عن أول أخطائها في خياطتها على النسيج، وكيف استوعبت الدرس تمامًا حتى لا يتكرر ذلك.

أعادتني ابتسامة أم رانيا إلى نفسي، بل قل إنها كانت مفتاح السر لفهم نفسي داخل هذه المدينة القاهرة، واستيعاب موقعي فيها.

أجلس بجوارها، استمع إلى تفاصيل حياتها اليومية، وداخل ذهني تثور فكرة مركزية كالبركان، ها أنت هنا، تتموضع بين الفئات الاجتماعية ولا تنتمي إلى أي فئة، تستمتع بالتنقل بين أحياء المدينة المختلفة على تفاوتها دون الانتماء إلى أي منها!

وفي النهاية تعلنها درية:

“لا أشعر أنني أنتمي إلى المكان”

حلم الخلاص الجماعي.. الكيتش

لماذا نبحث عن جماعة نضالية ننضم إليها؟

للفنانة: عالية بسيوني
للفنانة: عالية بسيوني
***

تصف درية حالها بعد انتهاء محاولاتها لتدريس الفلسفة بالهزيم. حاولت الانضمام إلى الاتحاد النسائي المصري، وأن الإسهام في ذلك سيصبح مخرجًا عن شعورها بالضيق، وتقول:

“عدت إلى مصر وفي يدي سلاح لا للدفاع عن حقوق فحسب، وإنما للدفاع عن حقوق النساء في بلادي”.

سعيًا إلى الخلاص الجماعي واستجابة ملحة للتفاعل مع مشكلات الواقع أي “حلم تغيير الواقع”، أم لدوافع شخصية تعبر عن أزماتنا الداخلية “ثقل المدينة والطبقة”، وتلبي حاجاتنا النفسية.

وتعلن درية:

“وهكذا لم أصبح أبدا عضوة في الاتحاد النسائي التابع لهدى شعراوي”.

ليس في حاجاتنا النفسية وأزماتنا الداخلية ما يخجل. ولا يحق لأحدهم مساءلة المناضل السياسي أو الاجتماعي عن حاجته النفسية وأزمته الخفية. وإن كانت سياقات العمل “الأدبي/ الفني”، وخاصة السيرة الذاتية “اعتراف شخصي”، تُتيح لنا أن نطرح سؤال الدوافع الخفية وراء النضال والانتماء إلى “جماعة خلاص”. وما بين الدوافع الخفية والانتماء العام يتبلور الوسيط وهو الكيتش*

(*مفهوم الكيتش في كتاب المبتسرون  لـ أروى صالح، نقلا عن ميلان كونديرا في روايته “كائن لا تحتمل خفته”.)

وتنتهي درية إلى سؤالها، ولم تكف أبدًا عن التفكير فيه، وأرقها هذا السؤال طيلة حياتها:

“ترى ما أسباب التنافر بيني وبين الوسط الذي قدر لى أن أعيش فيه”.

حلم العودة إلى بيت الجدة

لماذا لا نتخلص من الحنين إلى بيوت جدتنا؟

وتصف درية جدتها “إن جدتي كانت شخصية نبيلة، ذات قيم أخلاقية واجتماعية رفيعة. ناهيك عن روح الدعابة والجاذبية والطيبة التي كانت تتحلى بها، موت جدتي بالنسبة لي نهاية حقبة..”.

فكرت درية في مغادرة طنطا، رغم معرفتها أن رغبتها تلك ستكون سببًا في تألم جدتها التي ترى فيها تعويضًا نفسيًا عن غياب ابنتها “أم درية” التي توفت وهي في سن صغير. إلا أن درية قد استجمعت شجاعتها واختارت تحررها – الانضمام إلى المدرسة في الإسكندرية – من قيد جدتها، بل يمكن القول من قيد القيم الاجتماعية التي تلعب جدتها دور الحارسة لها.

وإن كانت درية قد أعلنت ثورتها على الماضي وأفكاره بقرار الخروج من بيت جدتها، إلا أنها لم تنجح في التخلص من الحنين إلى عالم جدتها، ويمثل موت جدتها لها، “رمزا لاختفاء زمن يتصرف فيه الناس بوحي من الاهتمام بالغير”.

جدتي في شبابها

ظل بيت جدتي بوصلة لروحي سنوات طفولتي وبعدها. وحين سافرت جدتي نحو السماء، فقدت أنا تلك البوصلة، فوقعت فريسة سهلة في شباك المدينة. وإن كنت لم أتشارك مع درية في ثورتها على القديم، واختيار الخروج من بيت جدتها. فقد دفعني موتها دفعًا إلى الثورة خارجه “المدينة”، إلا أننا نتشارك الحنين إلى ما كانت عليه الحياة، وما كنا نحن عليه في الحياة داخل بيت الجدة، ونجتمع أنا وهى حول سؤال ما الجدوى من الثورة.

وبعد ذلك بسنوات كتبت درية تتساءل:

“هل كسبنا أم خسرنا بالتخلي عن عاداتنا وتقاليدنا، وهل تميل كفة السعادة في صالحنا أم في صالح جداتنا؟”.

اقرأ أيضا

ملف| راوية صادق تكتب: «درية شفيق»أو الطريق الشاق إلى المعرفة

وليد الخشاب يكتب: الدريتان… شفيق وعلي

كرم يوسف تكتب: طنطا التي تلفظها درية شفيق.. وأحبها أنا

كارولين كامل تكتب: درية.. أن تجرؤ على الاختلاف

سهير الحفناوي تكتب: محاولات أكثر لمعرفة درية

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر