سلسلة عاشت الأسامي| تاريخ "حارة اليهود" في مصر

كانت الخلية الأساسية للحياة في القاهرة الإسلامية تتمثل في الأحياء، أكثر ما كانت تتمثل في الطوائف، وكان الأحياء يطلق عليها اسم الحارات ومنها حارة اليهود.
وجاء انغلاق الأقليات في أحياء خاصة بهم إما لرغبة الحكومة في السيطرة عليهم، خاصة في جباية الضرائب، وإما لأن الأقليات رغبت في ذلك لاعتبارات متعلقة بالحياة المشتركة، ولأسباب متعلقة بالأحساس بالأمان.

حارة اليهود

فى أواخر القرن التاسع عشر، ذكرعلي باشا مبارك، مؤلف الخطط التوفيقية الجديدة، أن اليهود أطلقوا في ظل هذه الفترة تعبير حارة النصارى على حارة زويلة، نظرا لكثرة ساكنيها من المسيحيين، ولوجود كنيسة قبطية فيها.
وكانت الحارة مقسمة الى أربعة أحياء:
– حارة زويلة
– حي اليهود الربانيين
– حي القرائين
– درب الصقالبة
أما الحى كله فسمى بحارة اليهود، وكان لكل حي من الأحياء الأربعة بوابة مستقلة، وإن كان الحي كله من الداخل كتلة واحدة.
يقول الباحث ا.ريموند، المتخصص في دراسة تاريخ القاهرة ومدن أخرى في الفترة العثمانية، إن حي اليهود امتد على مساحة نحو ستة هيكتارات، ويوجد في قلب (المينو) على مقربة من حي الصاغة في المكان الذي تجرى فيه أعمالًا مرتبطة بصياغة المعادن النفيسة، وقد اليهود دورًا كبيرًا في هذه الأعمال.
ولم يكن الحي منغلقا بل كان مفتوحا ويمكن دخوله من خلال عدة أحياء أخرى، وكان يوجد بشارعه الرئيسى مسجد.
ويتضح من وصف أوليا شلبي في كتابه رحلات، أن حي اليهود لم يكن معزولا كما يوضح ريموند، لأن اليهود نظموا حياتهم حتى يمكنهم الحياة مع المصريين واستخدام نفس المرافق العامة معهم.
يضيف أن اليهود من ناحية أخرى حاولوا أن تكون اتصالتهم بالعالم الخارجي محدودة قدر الإمكان، وأن تتوفر كل احتياجتهم داخل الحي.

شوارع الحارة

وكان الشارع الرئيسي ضيقًا، لدرجة استحالة مرور حصان أو جمل أو رجلين بجوار بعضهما في بعض الأماكن، كما كان كثير من المنازل يتكون من خمسة أتو ستة طوابق، وكان منظر الحي فقير جدًا، لدرجة تجعل من ينظر إليه يخطئ التقدير، خاصة أن كثير من منازله كانت تضم ممتلكات كثيرة، فضلا عن أثاث هذه المنازل، التي كانت تدل على تمتع أصحابها بمنزلة رفيعة.
وتشغل حارة اليهود مساحة كيلومترين مربعين تقريبا، تبدأ من وسط شارع الصاغة، وتتفرع بداخلها نحو 12 حارة وزقاقًا، تكثر به المنحيات والمنعطفات، وتتصل عن طريق سبع منافذ بحي الخرنفش وجنوب الحسينية، وتجاور شارع الموسكي وخان الخليلي والصاغة وحي الحسين، وقد فصلها عن شارع الحمزاوي “سوق الحمزاوي الكبير” شارع الأزهر عند شقه عام 1930.
وفي حارة خميس العدس، وبالتحديد في منزل شموئيل القرائي، عاش الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لمدة خمس سنوات.
على الرغم من أن بنيامين التطيلي، رحالة يهودي، يخبرنا أن اليهود المصريين عاشوا في 15 مدينة أو قرية كبيرة معظمها في الوجه البحري، وعلى الرغم من أن المقريزي لم يذكر لنا شيئًا عن معابد اليهود خارج القاهرة والفسطاط والجيزة وضواحي الإسكندرية، فإن وثائق الجنيزا كشفت عن أنهم عاشوا في طول البلاد وعرضها شأن المسلمين والمسيحيين.
وإذا كانت الطبيعة التآزرية للأقليات قد حكمت اليهود، حتى كانوا يشكلون جماعات صغيرة داخل المدن التي يسكنوها، فإنهم لم يكونوا نسيجا اجتماعيًا خاصًا يختلف عن النسيج الاجتماعي العام، وإنما كانوا جزءًا مهما داخل النسيج الكلي.
كذلك فإن إقامة اليهود في أنحاء البلاد المصرية ارتبطت بالحرف والصناعات والمهن، التي تعيَّشوا منها، ولم يكن توزيعهم السكاني والجغرافي، نتاجًا لاعتبارهم أقلية دينية.
كما أن تركز عدد من اليهود حول المعبد اليهودي كان يمثل ظاهرة سكنية في كل أنحاء مصر، ولكن ذلك لا يعني أنهم سكنوا هذه المناطق فقط.

الطائفة اليهودية في مصر

في القاهرة عاصمة مصر، عاشت طائفة يهودية ضخمة في هذه المدينة منذ العصر الفاطمي، ضمت في صفوفها أبناء الطوائف اليهودية من فلسطين، وبعض يهود بابل، وعاشت في القاهرة منذ القرن العاشر الميلادى طائفة قرائية.
وفي عام 1168 أشعل أبناء المدينة الحرائق في أجزاء كبيرة من

اليهود في مصر-قاسم عبده قاسم
اليهود في مصر-قاسم عبده قاسم

الفسطاط للحيلولة دون الغزو الصليبي، وأسفر هذا الحريق عن هجرة أعداد كبيرة من سكان الفسطاط بمن فيهم اليهود إلى المدينة الجديدة.
ويذكر الحاخام عوفديا في رسالته عام 1448 أنه يوجد في مصر “مصر لفظ يطلق على المدينة الجديدة القاهرة” نحو 700  منزل يهودي، خمسون من بينهم للسامريين الذين يدعون كوتيم، و150 من بينهم للقرائين، أما البقية فهي خاصة بالربانيين، ويوجد نحو خمسين بيتًا للمتنصرين الذين هم من أصول أندلسية .
وفي واقع الأمر فقد تزايد عدد اليهود في القاهرة منذ خروج اليهود من الأندلس إذ ارتحلت أعداد كبيرة من الأندلس إلى القاهرة، متجهين إلى فلسطين، إلا أن الكثير منهم فضل البقاء في القاهرة نظرا لجودة الظروف الأقتصادية و المعيشة بها.
ورغم أن معظم يهود القاهرة من السفاراد، إلا أنه كانت توجد في القاهرة طائفة من اليهود المستعربين، وطائفة يهود شامية،  وأخرى اشكنازية، وأقام معظم اليهود في حى زويلة، أما اليهود القراؤون فقد أقاموا في حارة القرائين التي تقع في نفس الحي.

حي الحمزاوي

كان لحى الحمزاوي فى القاهرة، الذي كان حيًا يهوديا خالصًا شهرة واسعة في الغرب، خاصة أنه كان متخصصًا في تجارة الجملة، وكان معظم المشتغلين بالصرافة وتجارة الأثاث من اليهود، وكان أغلبهم من أبناء الطائفة اليهودية القرائية، ومن الاشكناز.
كانت الزيادة في أعداد اليهود نتيجة طبيعية لتزايد أعداد المهاجرين، الذين قدموا من الغرب إلى مصر خلال فترة الأزدهار الاقتصادي، التي شهدتها مصر خلال فترة حكم الخديوي إسماعيل.

وفي الفترة من  1897 إلى 1947 استمرت الزيادة نتيجة لتدفق حركة الهجرة اليهودية على مصر من سوريا وسالونيك وسائر المدن التركية والبلقان وأوروبا الشرقية وإيطاليا والمغرب وفلسطين، وخاصة الهجرة من فلسطين إلى مصر، خلال فترة الحرب العالمية الأولى، ثم هجرة اليهود من مصر إلى فلسطين في الثلاثينيات من القرن الذي شهد صحوة صهيونية .
وقدر عدد سكان حي القرائين خلال عام 1917 بنحو 1096 يهوديًا في مقابل ازدياد المجتمع الرباي الناتج عن الهجرة إلى مصر.
حارة اليهود
كان الحي اليهودى القديم في القاهرة يقع شمال شرقي المدينة أي في منطقتى الجمالية والموسكي، وقد جاء في أعمال الرحالة الذين زاروا هذا الحي خلال القرن التاسع عشر أن هذا الحي يعانى من التكدس، وأن شوارع هذا الحي ضيقة للغاية للدرجة التي يصعب معها أن يجتاز شخصان الشارع فى نفس الوقت.
وشهد القرن التاسع عشر بداية خروج اليهود من هذا الحي، والنزوح إلى أحياء أخرى غير بعيدة من الحي اليهودي القديم، ومع هذا فقد نزح فقراء المهاجرين اليهود إليه، وخلال عام 1897 بلغ عدد اليهود الذين أقاموا في حي اليهود الربانيين الواقع في منطقة الجمالية  5501 يهودي، شكلوا ما نسبته  47.4% من مجمل يهود القاهرة.
وقدر عدد اليهود الذين أقاموا في حى البرابرة “درب البرابرة حاليا” الواقع في منطقة الموسكي في نفس العام بنحو 1986 يهوديًا، شكلوا 17.1% من تعداد يهود القاهرة، بينما يهود الظاهر بحي الوايلي 1038 يهوديًا، بنسبة 8.9% من يهود القاهرة.
وشكل يهود الجمالية في عام 1907 أكثر من ثلثي يهود القاهرة، كما شكلوا نحو 12% من سكان الحي، وقدر عدد اليهود في حى اليهود الربانيين عام 1917 نحو 4283 نسمة.
وفي المقابل قدر عدد اليهود في حي اليهود القرائيين نحو 1096 يهوديًا، وتركز اليهود في أحياء أخرى بنسب عالية من سكان تلك الأحياء مثل حي الوايلي والدرب الأحمر والموسكي والعباسية الشرقية والأزبكية وباب الشعرية وعابدين وهليوبلس مصر الجديدة.
وحرص اليهود في الأحياء التي تمركزوا فيها على الحفاظ على تقاليدهم اليهودية، وعلى الإقامة بجوار بعضهم بعضًا، وفي عام 1937، عاش 60 % من يهود القاهرة في منطقة الوايلي، التي كانت تضم هليوبليس وعابدين، وكان الانتقال إلى الأحياء الجديدة من أبرز سمات التحولات التي طرأت على المجتمع اليهودي في العصر الحديث .
وتبقى في القاهرة في عام 1961  نحو 5658 يهوديًا معظمهم في أحياء الوايلي “الظاهر وهليوبليس وعابدين”.
وأسهمت الهجرة إلى مصر، التي ضمت في صفوفها أعدادًا ضخمة من اليهود ف خلق جو من التنوع الثقافي، في النصف الأول من القرن العشرين، ومنح نظام الامتيازات مزايا عديدة للرعايا الأجانب، فسعى اليهود وغير اليهود إلى الحصول على رعاية القوى العظمى.
وفي عام 1947 حصلت أعداد كبيرة من العائلات اليهودية في مصر على الرعاية الأجنبية، وكانت نسبة اليهود المتمتعين بالرعاية الأجنبية كبيرة جدا، فاقت أعداد اليهود المصريين الذين لم تتعد نسبتهم نصف بالمائة من المجتمع اليهودي.
وفى عام 1896 تأسست أول مدرسة يهودية تابعة لجماعة (الاتحاد الاسرائيلى العالمى ) في القاهرة و أصبحت خاضعة لاشراف الطائفة في عام 1912 م ( “والمدرسة الاسرائلية في حارة اليهود  مكانها الأن مدرسة النصر” ).
وتلقى أطفال اليهود في مصر تعليمهم في إطار تعليمى اتسم بالتعددية اللغوية، وكان الغالب اللغة الفرنسية، والانفتاح على الثقافات الغربية المختلفة، بينما لم تلق اللغة العبرية أي اهتمام يذكر، وقد مكنهم ذلك من الاندماج في المجتمعات التى هاجرو إليها من مصر بعد عام 1948.
_______________________________
مراجع
أندريه ريمون، فصول من التاريخ الاجتماعي للقاهرة العثمانية، ترجمة زهير الشايب، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1975م-ص 18.
– قاسم عبده قاسم : اليهود في مصر ، دار الشروق ، القاهرة، 1993 ص 38- 54 .
– يعقوب لاندو : تاريخ يهود مصر في الفترة العثمانية، ترجمة جمال الرفاعى وأخرون ، المشروع القومى للترجمة ،المجلس الأعلى للثقافة ، 2000 م .
– عرفه عبدو على : يهود مصر بارونات وبؤساء ، ايتراك للنشر ، مصر ، 1997 م .
– جوئل بنين : شتات اليهود المصريين ، ترجمة  محمد شكر ، دار الشروق – مصر- 2008 م
– جاك حسون : تاريخ يهود النيل ، ترجمة يوسف درويش ، دار الشروق مصر ، 2008 م
– محمد أبو الغار : يهود مصر من الازدهار الى الشتات ، دار الهلال ، مصر ،2006 م

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر