تطوير وسط القاهرة: أفكار لا تناقشها الحكومة

تتحدث الحكومة، برئاسة الدكتور مصطفى مدبولي، عن مخططات تطوير وسط القاهرة، أو “القاهرة الخديوية” أو “وسط البلد” بحكم التسمية الشعبية. هناك حديث رسمي عن تطوير المنطقة، خصوصًا بعد انتقال الوزارات والمؤسسات الحكومية إلى العاصمة الإدارية الجديدة، لكن حتى الآن لم تعلن الحكومة بشكل واضح ومتكامل عن مشروعها لتطوير وسط القاهرة، التي تشمل المنطقة الواقعة بين ميادين التحرير ورمسيس والعتبة وعابدين على وجه التقريب. فالتصريحات غائمة غير واضحة ولا كفاية لنعرف طبيعة الرؤية الرسمية لتطوير المنطقة، لذا نضع بين يديها بعض الأفكار التي تفتح الباب لمزيد من النقاش المجتمعي الجاد، وهي أفكار لا تناقشها الحكومة عادة، في ظل توجه للتركيز على الترفيهي والاستهلاكي في مشروعات التطوير.
التصريحات الحكومية غير كافية لفهم طبيعة التطوير الذي سيحدث في وسط القاهرة، رغم إعلان مدبولي أنه لا مساس بالعمارات التراثية والتاريخية والإبقاء عليها، إلا أن التصور العام لكيفية استغلالها لم يتضح بعد. فوزير الإسكان شريف الشربيني، قال في إبريل الماضي إن “هناك رؤية للدولة للاستغلال الأمثل لمنطقة القاهرة الخديوية، في ظل جهود إحيائها التي تتم حاليًا، بما يحافظ على هذه المنطقة التي تتميز بطابع عمراني متميز وصبغة معمارية وفنية مبهرة”. وأشار إلى أنه يتم العمل للحفاظ على التراث العمراني لهذه المنشآت، ووضعها على خريطة المزارات السياحية لتعظيم الاستفادة منها، وذلك في إطار خطة الدولة لإبراز معالم القاهرة التاريخية وإعادتها لمكانتها التاريخية.
***
تبدو التصريحات هنا عامة بشكل مطاط، يتجنب الدخول في التفاصيل، فحتى الآن لم تتضح الخطة الحكومية للاستفادة من المباني التي تم التخلي عنها بعد انتقال الوزارات، باستثناء مباني وزارة الداخلية بلاظوغلي، التي ستتحول إلى مقر للجامعة الفرنسية ومركز لفنون الاقتصاد الإبداعي، ومركز للابتكار وريادة الأعمال، وعدد من الفنادق. وهو أمر جيد ويخلق حالة من النشاط التعليمي والثقافي في منطقة الوزارات القديمة. لكن السؤال المعلق هنا هو: ما هي خطط الحكومة للاستفادة ببقية المباني الحكومية في المنطقة؟ لا يبدو هذا واضحًا.
كذلك، ما هو مخططها للمباني السكنية التي يتم حاليا إزالة التشوهات البصرية من عليها، وإعادة طلاء الواجهات بما يعيدها لأصلها؟ لكن ماذا بعد؟ فالتصور الحكومي لتطوير منطقة وسط القاهرة لم يتضح بعد فيما يخص هذه البنايات وكيفية توظيفها في التطوير الذي يتحدث عنه الجميع، ولا يعلم أحد شكله النهائي بعد. الأمر الذي يجعلنا في حالة ترقب لطرح الحكومة لتصورها للتطوير للنقاش العام.

***
لكن، المتتبع لتحركات الحكومة وأجهزتها في ملفات تطوير أجزاء مختلفة من القاهرة خلال السنوات الأخيرة، والتي استندت أساسًا إلى منطق المطورين العقاريين، الذي يهتم بقطع الأرض المميزة واستخدامها في مشروعات استهلاكية، أو منطق البحث عن حلول لأزمات مرورية بسحق أجزاء من تاريخ المدينة. هذا ما حدث ويحدث في المشروعات التي طالت جبانات القاهرة المختلفة، أو المنطقة المحيطة بسور مجرى العيون جنوبًا حتى منطقة الفسطاط التاريخية والأثرية.
لذا من حق جميع المعنيين أن يناقشوا النية الحكومية في تطوير قلب القاهرة، لأن هذه المنطقة هي تراث يخص كل مصري، فلا يمكن أن يترك لحكومة تتعامل في أحيان كثيرة بمنطق تجاري استهلاكي بحت، يركز على توفير أماكن ترفيهية لشريحة معينة من المجتمع، وحجب هذا التراث عن غالبية الشعب.
***
هنا نطرح بعض الأفكار المختلفة عن المنطق الحكومي، تقوم هذه الأفكار أساسًا على مركزية القاهرة كدرة ثقافية، فالقوى الناعمة للمدينة هي ميراثها الحقيقي ومركز الثقل والجذب لها. ومنطقة وسط البلد حفرت مكانها في الذاكرة الجمعية بحكم كونها نقطة تجمع أجيال من صناع الفكر والفن والأدب المصري على مدار عقود طويلة، والذين صنعوا قيمة منطقة “وسط البلد” التي لا تقتصر على مجموعة من المباني ذات الطراز الأوروبي التي بني معظمها في فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين.
فهنا أي مشروع تطوير وتحديث لهذه المنطقة يجب أن ينطلق ابتداء من إدراك الثقل الثقافي لها، وإمكانية الاستثمار فيه، وتنميته، والبناء عليه، واستئناف مسيرته، لا تجاوزه لتطوير يستنسخ روح دبي والمدن الحديثة التي تتميز بكونها بلاستيكية واستهلاكية بلا أي عمق أو روح.
ننطلق هنا من أن تعزيز الحضور الثقافي الطبيعي لمنطقة وسط القاهرة سيعزز من خطط تحويلها إلى قبلة للمهتمين، بما يعزز من خطط التطوير من ناحية، ويعزز من القيمة الثقافية للمنطقة من ناحية أخرى، وهي “العملة” الأساسية التي تصدرها مصر في محيطها العربي والعالمي. فدورها الثقافي بمختلف أشكاله، كان ولا يزال أحد أهم منابع ثروتها القومية وترسانتها من القوى الناعمة. كما أن التركيز على النشاط الثقافي يعني تحويل أجزاء من وسط البلد إلى واحة إبداع، بما يضمن خلق حيز لجميع أبناء الشعب على اختلاف المستوى المادي، لا جعل المنطقة الحيوية حكرا على من يمتلك القدرة على دفع مئات الجنيهات في كوب من القهوة في كافيه بديكورات مبالغ فيها.
***
سنركز هنا على أكثر من نموذج من أجل خلق مساحات تركز على النشاط الثقافي في المنطقة، خصوصا مع تسليم مقار الوزارات التي انتقلت إلى الحي الحكومي بالعاصمة الإدارية الجديدة، ما يخلق مساحات جاهزة للاستخدام بشكل ذكي يدعم تصور مختلف لمعنى التطوير. البداية مع مبنى وزارة الأوقاف التاريخي بباب اللوق، والذي بني في مطلع القرن العشرين، بطراز مملوكي محدث، وهو مبنى يستحق أن يتحول إلى شعلة ثقافية نحتاجها جميعا.
فبحكم الاستخدام التاريخي للوزارة، يمكن تحويل المبنى إلى مقر لمركز وثائق الأوقاف المصرية، وكذلك أوراق البردي وأوراق الجنيزة، وهي مجموعات حبيسة الأدراج في دار الكتب ودار الوثائق، هنا سيتم استغلال مساحة مبنى وزارة الأوقاف المهجور في إقامة أول متحف لوثائق الأوقاف والبردي والجنيزة، مع تأسيس مركز للدراسات حول هذه المادة الأرشيفية الضخمة، التي تغطي تاريخ مصر عبر أكثر من ألف سنة. هنا سيتحول المبنى إلى شعلة ثقافية في قلب القاهرة، يخلق وجهة ثقافية بأنشطة متعددة تساعد في ترسيخ هوية المنطقة والاستثمار الثقافي فيها.
***
نموذج آخر، مبنى مديرية أمن القاهرة المهجور، بعدما انتقلت إلى مقرها الجديد والضخم في القاهرة الجديدة في يناير 2022. ذلك المبنى يمكن هدمه وبناء مبنى توأم لمبنى دار الكتب ومتحف الفن الإسلامي، لكي ينتقل له متحف الفن الإسلامي في مبنى أكبر يوفر مساحة محترمة لعرض كنوز المتحف التي لا مكان لها إلا المخازن.
فكما هو معروف يتشارك متحف الفن الإسلامي ودار الكتب المبنى ذاته، الأمر الذي يجعل المساحة المخصصة لكل منهما محدودة داخله. فماذا لو أن الحكومة تبرعت بأرض مديرية الأمن من أجل بناء مبنى فخم على نفس طراز مبنى “الكتبخانة”، وتخصيصه بالكامل لمتحف الفن الإسلامي؟ أليس في ذلك خلق مساحة جديدة في قلب المدينة وتحويل باب الخلق إلى نقطة جذب سياحي وثقافي؟
***
كما يمكن أن تمتد الحالة الثقافية في ميدان باب الخلق باستغلال مبنى محكمة الاستئناف الشهير، الذي افتتح في العام الأول من القرن العشرين، وتميز بطرازه المعماري المهيب والفخم. وهو مبنى تم هجرانه بانتقال المحكمة في 2010، وتعرض بعدها لحريق ضخم في إبريل 2013م. فهذا المبنى يمكن استغلاله بتخصصيه ليكون متحفا للقضاء المصري العريق، وهو مشروع موجود بالفعل، إذ سبق وأعلنت وزارة العدل عن خطة لترميم المبنى التاريخي وتحويله إلى متحف قضائي يحكي تاريخ العدالة والقضاء في مصر، إلا أن المشروع لم ينفذ حتى يومنا هذا.
تخيل معي عزيزي القارئ مشهدا تجتمع فيه محكمة الاستئناف بعد ترميمها وتحويلها لمتحف للقضاء، بجوار مبنى متحف الفن الإسلامي الجديد (بعد إقامته على مكان مديرية الأمن القديمة)، وفي مواجهة مبنى دار الكتب، أي مكسب ثقافي وحضاري ستكسبه المدينة؟ وأي ثقل ستكسبه منطقة باب الخلق؟
نموذج ثالث في قلب القاهرة الفاطمية هذه المرة، وتحديدًا مبنى قراقول الجمالية المعروف باسم قسم شرطة الجمالية، والذي يقع في منطقة بيت القاضي بقلب حي الجمالية، والذي أخلته وزارة الداخلية وسلمته لوزارة الآثار منذ العام 2016، وهو مبنى مهجور حاليًا. هذا المبنى التاريخي يمكن أن يتحول إلى متحف نجيب محفوظ، فموقعه أفضل من موقع المتحف خلف جامع الأزهر في تكية أبو الذهب، وهو مكان لا علاقة له بمسيرة أديب الثلاثية، والذي ولد في منطقة بيت القاضي تحديدًا، بل وفي بناية سكنية مواجهة لمبنى قسم الشرطة التاريخي. فهل يوجد مكان أفضل ليضم متحف النجيب من مبنى القراقول؟ اقتراح آخر يمكن أن يشغل المبنى متحف مدينة القاهرة، فالمدينة التي تخطت الألف عام لم تحصل على متحفها الخاص الذي يحكي قصتها بعد.
***
هذه بعض النماذج التي تخضع لمفهوم التطوير كما نفهم، والذي ينطلق أساسًا من الحفاظ على هوية المدينة، ويعزز من حضورها الثقافي والتاريخي، مما يعزز من كونها مقصد سياحي في النهاية، ويحقق هدف التطوير والتحديث وتحويل وسط القاهرة إلى نقطة جذب، إذ ليس من الطبيعي أن يكون منطق التطوير الحاكم هو التركيز على الجانب الاستهلاكي والترفيهي في مدينة بحجم وثقل القاهرة، فلا يمكن التعامل معها بخفة المدن الجديدة التي لا أصل لها، ولا يمكن حصرها في وجه استهلاكي يقتصر على المقاهي والكافيهات والمطاعم، فهي لن تستطيع أن تنافس دبي أو الرياض في هذا المضمار، بل أن سر تميز القاهرة هو إمساكها بخيوط عربة التنوع فهي تمتلك الميراث الثقافي الذي يستحق التعضيد والدعم والتنمية، بجوار أوجه الترفيه والأنشطة الاستهلاكية، ميزان دقيق تمتلكه القاهرة وحدها، وهو أمر يمكن أن نفتح الحوار حوله بعد إذن الحكومة التي يبدو أنها لا تريد أن تستمع لأي مقترح.
اقرأ أيضا:
الحكومة تزيل «الفلكي» في ذكرى رحيله الـ140