تطوير ميدان رمسيس وغياب مفهوم «أنسنة المدينة»

تمضي الحكومة المصرية في ما تقول إنه عملية تطوير ميدان رمسيس، أحد أكثر ميادين القاهرة حيوية، وتحت هذه المزاعم تم إزالة مبنى سوق محطة مصر التاريخي، ثم مبنى الإدارة الهندسية لسكك حديد مصر، وكلاهما يعود للعام 1910م، من أجل الخطة الحكومية التي تهدف لتوسيع كوبري 6 أكتوبر وعمل مطلع جديد له في المنطقة وإقامة مول تجاري وجراج متعدد الطوابق، وهو المشروع الذي يكشف عن توجهات الحكومة الحالية وبعدها عن فكر “أنسنة المدينة” الذي كان حاضرا في مشروع عالمي لتطوير الميدان في العام 2009.
وتفتخر حكومة مصطفى مدبولي، والجهات العاملة معها في الوقت الراهن، بمشروع تطوير الميدان المطل على محطة القطارات الرئيسية في البلاد، إذ صرح الدكتور إبراهيم صابر، محافظ القاهرة، في يونيو الماضي، بأن الهدف هو استرجاع مكانة ميدان رمسيس التاريخية، لكنه لم يبرر كيف سيتم ذلك عبر إزالة المباني التاريخية المطلة على الميدان، ليبدو أن المشروع الذي بدأت الحكومة في تنفيذه هو مجرد توسعة للطرق والكباري لاستقبال المزيد من السيارات على عكس التطوير التي تؤكد على مفهوم “أنسنة المدينة”، حيث الأولوية لراحة المواطن بتوفير مساحات خضراء.
***
إن مصطلح “أنسنة المدينة” لم يعد ترفًا أو كلمات تلوكها ألسن مثقفين أو متخصصين، بل هي فلسفة مهمة تقول صراحة إن لأبناء المدينة الحق في الاستمتاع بها عبر توفير فراغات ومساحات خضراء مجانية، لجعل المدينة أكثر ملاءمة وراحة للإنسان، عبر تحسين البنية التحتية وزيادة المساحات الخضراء، بما يشجع الحركة وثقافة المشي وسط بيئة اجتماعية وبيئية صديقة للإنسان.
ننقل هنا تعريفموقع هيئة تطوير منطقة المدينة المنورة بالسعودية، وبرنامجها لأنسنة المدينة المنورة، وهو مشروع يجري على أرض الواقع، إذ تعرففكرة الأنسنة بأنها “تتمثل في إيجاد وتأكيد البعد الإنساني في التطور والتنمية العمرانية لكافة شرائح المجتمع، وذلك بتحسين الهوية البصرية، ودعم وتشجيع البرامج الثقافية والترويجية والفنية، وإقامة الساحات العمرانية، والمناطق المفتوحة، والساحات الخضراء”.
المدهش أن ذلك المنطق كانت الحكومة المصرية تتبناه العام 2009، فماذا جرى في هذا العام؟بالعودة إلى الزمن الماضي؛ نكتشف أن حكومة أحمد نظيف، قررت في العام 2008، تنظيم مسابقة دولية لتطوير ميدان رمسيس، وذلك عبر محافظة القاهرة والجهاز القومي للتنسيق الحضاري، وتقدم بالفعل 101 متسابق من 38 دولة على مستوى العالم لتطوير الميدان، ومن بين المتقدمين 29 استشاريًا مصريًا.
***
وتم دراسة 34 عرضًا للمشروع تم تقديمها بالفعل لاختيار الأعمال الفائزة من بينها، بينما رصد الدكتور عبد العظيم وزير، محافظ القاهرة وقتذاك، جائزة مالية بقيمة 100 ألف دولار للفائز الأول في مسابقة تطوير الميدان، وخصص للفائز الثاني جائزة قدرها 75 ألف دولار، أما من يحل ثالثًا فيحصل على جائزة قدرها 50 ألف دولار.
وكانت لجنة التحكيم التي ناقشت المشروعات المقدمة، مكونة من الدكتور عبد الله عبد العزيز، أستاذ العمارة والتخطيط بجامعة عين شمس، رئيسًا للجنة التحكيم الدولية للمسابقة، كما ضمت كل من الأساتذة الدكاترة: عبد المحسن برادة وسامح العلايلي من مصر، وإلكسندر وبيلديمان من رومانيا ممثلًا للاتحاد الدولي للمعمارين، وديانا اجريست من الولايات المتحدة، وآكسيل شولتز من ألمانيا، واليسيو أريدوندو من المكسيك.
***
في منتصف سبتمبر 2009، أعلن عن فوز مجموعة آريب “Arep” الفرنسية بالاشتراك مع المكتب المصري بيكت “Bect”، ويمثلها في مصر الدكتور عمر الحسيني، أستاذ التصميم العمراني والتخطيط العمراني بجامعة عين شمس، بالجائزة الأولى للمسابقة الدولية لإعادة التخطيط والتصميم العمراني والتنسيق الحضاري لميدان رمسيس، وقيمتها 100 ألف دولار، بينم جاء المكتب الإيرلندي كويلجان أركتكت “Ouilligan Architects”، بالجائزة الثانية، بينما حلت المجموعة التركية نعمت آيدن “Nimat Aydin” في المركز الثالث.
واتفقت المشروعات الفائزة على ضرورة التخلص من كوبري أكتوبر في منطقة الميدان عبر البحث عن بدائل له، وتضمن المشروع الفائز، إزالة الكوبري مع تنفيذ نفق في المنطقة المُزال منها الكوبري بين الإسعاف وغمرة، مع زيادة قياسية في المساحات الخضراء (18 فدانًا)، وإزالة جميع الحواجز الحديدية بالميدان، مع تخصيص الميدان لمسارات المشاة، والحفاظ على المباني التراثية بما في ذلك مبنى سوق محطة مصر، ومبنى الإدارة الهندسية للسكك الحديدية، لكن المشروع لم ينفذ أبدًا، فقد جرت الكثير من الأمور داخل أروقة الحكومة عطلت المشروع وجعلته يتعثر سريعًا.
***
ويبدو أن المسؤول الأول عن تعثر المشروع ليس ثورة يناير كما يردد البعض، بل شخص بعينه هو الدكتور مصطفى مدبولي، الذي كان يشغل وقتها رئاسة هيئة التخطيط العمراني، ففي خبر نشرته (الشروق) في 20 مايو 2011، نجد تصريحات لسمير غريب، رئيس جهاز التنسيق الحضاري في ذلك الوقت، الذي يقول صراحة إنه طالب من أحمد نظيف قبل الثورة تنفيذ المشروع الفائز بالجائزة الأولى لتطوير ميدان رمسيس، “إلا أنه فوجئ بمصطفى مدبولي رئيس هيئة التخطيط العمراني يعرض مشروعًا آخر، نظرًا لأن تكلفة إنشاء نفق بميدان رمسيس وصلت إلى مليار جنيه، ولصعوبة تنفيذ ذلك اقترح مدبولي مشروعًا آخر على الرغم من وجود حل لما تم وصفه خلال الاجتماع بصعوبة التنفيذ، ويتمثل في الأخذ باقتراح الفائز بالجائزة الثانية بنقل كوبري أكتوبر بعيدا عن ميدان رمسيس”.
وحكى سمير غريب الوقائع التي أدت إلى تعطيل مشروع تطوير ميادين رمسيس والعتبة والخازندار، في الندوة التي عقدت تحت عنوان “تفعيل مسابقات الجهاز القومي للتنسيق الحضاري”، بالتعاون مع لجنة العمارة بالمجلس الأعلى للثقافة في مايو 2011، قائلا إن جهاز التنسيق الحضاري سعى في العام 2010، لتنفيذ المشاريع الفائزة في المسابقة الدولية على أرض الواقع، ولكن لم يستجب أحد، وأنه أرسل بعد انتهاء مسابقة رمسيس خطابًا لمجلس الوزراء يطلب فيه ضرورة تنفيذ المشروع الفائز في المسابقة، ولم يتلق أي رد على مدار عام كامل، ثم دعي لحضور اجتماع برئاسة رئيس الوزراء آنذاك الدكتور أحمد نظيف لمناقشة المشروعات الفائزة في مسابقة رمسيس.
***
وفوجئ سمير غريب بأن الاجتماع ليس لبحث تنفيذ أي من هذه المشروعات، وإنما لتكليف أحمد نظيف لرئيس هيئة التخطيط العمراني مصطفى مدبولي بتطوير ميدان رمسيس، وكان معه أساتذة من كلية هندسة جامعة عين شمس، وكان الاعتراض على تنفيذ مشروع المسابقة من قبل هؤلاء الأساتذة هو عدم إمكانية تحويل كوبري أكتوبر لنفق تحت الأرض نظراً لوجود مترو الأنفاق، وأضاف غريب أنه اقترح عليهم المزج بين المشروعات الثالثة، وأخذ أفضل ما في كل مشروع، ولكن ضُرب بكل هذا عرض الحائط مما جعل غريب يتهمهم بإهدار المال العام حيث خصص مجلس الوزراء ذاته مبلغ مليوني ونصف المليون دولار لعمل مسابقة دولية لميدان رمسيس، ثم تم تجاهل نتائجها.
***
ويبدو أن إصرار مدبولي على طرح مشروعه أدى إلى وأد المشروع الفائز بالجائزة في المسابقة الدولية، ولم يعد يظهر إلا في الأخبار بين حين وآخر، ففي ديسمبر 2013، عاد الحديث للمشروع عندما أمر الدكتور حازم الببلاوي، رئيس مجلس الوزراء وقتها، بتشكيل لجنة تضم وزراء النقل والإسكان والثقافة لوضع التصور النهائي لتطوير ميدان رمسيس، وصرح الدكتور جلال سعيد، محافظ القاهرة حينذاك، أن اجتماعه مع مسؤولي التخطيط العمراني خلص للموافقة على تفعيل الدراسات التخطيطية للميدان والتي أعدت منذ 2009، بدوره قال الدكتور سمير غريب، إن ملامح التخطيط المقترح هي نتاج مسابقة دولية لتخطيط الميدان، وتقرر رفع هذه الدراسات لرئيس الوزراء تمهيدًا لطرح المشروع للتنفيذ.
ثم دخل المشروع إلى الدرج مرة أخرى، لكن في مايو 2016، أجرت صحيفة (الأهرام) حوارًا مع الدكتور عمر الحسيني، الذي كان وقتها رئيسًا لقسم التخطيط العمراني بجامعة عين شمس، ودار الحوار حول مصير المشروع الذي شارك فيه وحصل على الجائزة الأولى لتطوير ميدان رمسيس، ليكشف عن أن المشروع تعطل بسبب ثورة يناير 2011، وتحدث عن إرادة من الدولة لبدء التنفيذ للمشروع المعطل، لافتا إلى أنه “مشروع قومي سيكون له عائد استثماري كبير، ويحقق أهدافًا عديدة من الناحية المرورية والجمالية والبيئية”. لكن يبدو أن هذا المنطق لم يعد مطروحًا للنقاش في مشاريع الحكومة في الوقت الحالي.
***
ولا نجد إشارات واضحة عن فحوى المشروع البديل الذي طرحه مدبولي في 2010، لكن يمكن أن نتوقع أن المشروع المقصود هو الذي تقدمت به شركة “كيوب” (Cube Consultants) للاستشارات الهندسية والمعمارية والتي تأسست العام 1990، على يد الأستاذ الدكتور أشرف عبد المحسن، أستاذ العمارة بجامعة القاهرة، وهي الشركة التي أنضجت الفكرة المعروفة باسم “رؤية القاهرة 2025″، والتي حظيت بإعجاب مدبولي وقتذاك، قبل أن تتبناها الحكومة، والتي قدمت العديد من مشروعات تطوير القاهرة، من ضمنها مشروع تطوير ميدان رمسيس، والذي تضمن عدم إزالة أي مباني تراثية في المكان، مع نقل مسار كوبري أكتوبر إلى خلف محطة قطارات مصر، وتصميم حدائق رمسيس الترفيهية في المنطقة، لكن حتى هذا المخطط الذي تحمس له مدبولي في 2010، ورغب في تنفيذه على حساب المخططات الفائزة في المسابقة الدولية لتطوير الميدان، لم ينفذ!
صعد مصطفى مدبولي لرئاسة مجلس الوزراء منذ 7 يونيو 2018، ومستمر في منصبه حتى يوم الناس هذا، لذا لم يكن غريبًا أن يضرب صفحًا عن المشروعات الفائزة في المسابقة الدولية لتطوير ميدان رمسيس، لكن الغريب أن يتخلى عن المشروع البديل الذي تحمس له في 2010، لنفاجأ بتخطيط جديد ينفذ على أرض الواقع، وعلى جثة التراث بإزالة مباني تاريخية،ويطرح مفهوم أنسنة المدينة أرضًا، من خلال التوسع في الشوارع والكباري، كما غاب الحديث عن الحدائق والمناطق المفتوحة أمام المشاة، فضلا عن رفع الأسوار الحديدية التي تعيق الحركة أمام المشاة، لنقف أمام مشروع جديد ينتصر للمواطن السيارة، بتوسعة الشوارع وتقليص مساحات النزهة والمشي، ويبعث لنا برسالة قوامها الإصرار على القبح الحاضر بفعل كوبري أكتوبر، بل وتوسعته لا إزالته، واستبعاد أي فكر جمالي يحترم إنسانية المواطن المهضوم حقه دائمًا.
***
إن الأزمة التي تكشفها قضية تطوير ميدان رمسيس، تكمن في غياب التخطيط المحافظ على البيئة التراثية التي يعمل وسطها خصوصا في مكان مثل القاهرة المدينة الألفية، والحوار المجتمعي الجاد والحقيقي، ومركزية مفاهيم أنسنة المدينة وحق المواطن في الاستمتاع بالمساحات والفضاءات داخلها، فرئيس الحكومة مصطفى مدبولي هو الرجل الذي يعرف جيدًا تفاصيل تطوير الميدان منذ 2008، لكنه لم يعتمد أي من المخططات الفائزة في مسابقة 2009 الدولية، ولا حتى المخطط الذي تقدمت به شركة كيوب في 2010، وتحمس له مدبولي نفسه.
في المقابل، هبط على الجميع وبشكل مفاجئ بمخطط لقيط لا نعرف من أين جاء، وفرض فرضًا على الجميع، وتضمن مخالفة لكل ما اتفقت عليه المشاريع المتنافسة والمشروع البديل لكيوب، والتي رأت حتمية نقل مسار كوبري أكتوبر من اختراق ميدان رمسيس، على اختلاف بينها في معالجة النقل، ليكون المصير هو تنفيذ مشروع لا يعرف أحد من اقترحه،ويتضمن السير عكس المنطق وكل المشاريع والمخططات المطروحة، عبر العمل على توسعة كوبري أكتوبر، وإزالة المباني التراثية،واستبعاد فكرة المتنزهات العامة،والإبقاء على الأسوار الحديدية التي تشعر معها وكأن الميدان في سجن كبير!
اقرأ أيضا:
قاهرة صنع الله إبراهيم: مدينة شاحبة في زمن التحولات