«تاريخ الغذاء في مصر القديمة»: محاولة فهم أصل المطبخ المصري

بين الحين والآخر يتجدد النقاش حول تاريخ المطبخ المصري على صفحات التواصل الاجتماعي المختلفة. إذ تسعى صفحة إلى توثيق هذا المطبخ، بينما تكشف أخرى عن أسراره. لكن الرغبة في الدفاع عن الهوية المصرية في صناعة الطعام والأكلات تغفل معها جوانب مهمة مثل تغير النطاق الجغرافي وكذلك تاريخ الزراعة في مصر. إذ أن كثيرا من المحاصيل والنباتات التي نزرعها اليوم كانت يومًا ما واردة من مناطق أخرى في العالم ومستنبتة لدينا في عصور قريبة مثل الطماطم التي لم يعرفها العالم الحديث إلا مع استعمار أمريكا الجنوبية.. فإذا كان هذا صحيحًا، كيف صنع المصريون اﻷكل المسبك دون طماطم؟

تاريخ الغذاء

تقدم الدكتورة هالة بركات، استشارية في علم البيئة وباحثة مستقلة في قضايا الغذاء وهي حاصلة على الدكتوراه في تاريخ علم البيئة القديمة من جامعة “إيكس مارساي” Aix-Marseille III في فرنسا، ولديها اهتمام خاص بتاريخ النباتات والغذاء في مصر، في كتابها «تاريخ الغذاء في مصر القديمة» الذي سيصدر قريبا عن “إيه يو سي برس” AUC Press، معلومات تهم علماء المصريات وكذلك المهتمين بتاريخ الطعام المصري.

تقول بركات: “رغم أن عهد ما قبل اﻷسر الحاكمة في مصر استمر من 6000 إلى 5500 قبل الحاضر. لكنه شهد تغيرات هائلة. إذ انتقل سكان الصحراء للعيش في وادي النيل حيث وجدنا أولى آثار الزراعة”.

وتابعت: في الحقيقة، وجدت أولى الحبوب المزروعة في مواقع عهد ما قبل اﻷسرات اﻷثرية بشمال بحيرة قارون في الفيوم. حيث زرع المصريون اﻷوائل القمح والشعير والعدس والبازلاء. كما ظهرت حبوب وبذور وثمار في مواقع أخرى عديدة إلى جانب نهر النيل وفي دلتا مصر، بعضها مزروع واﻵخر بري. وقد وجدت كلها متفحمة في أماكن المعيشة الجماعية ونادرًا ما وجدت في المقابر.

القمح والبذور

وتستطرد: النقطة المهمة هنا أن القمح لم ينم بريًا في مصر، ولا الشعير ولا العدس ولا البازلاء. إذ تفيد الدلائل أن تلك الحبوب والبذور المزروعة قدمت إلى مصر من مناطق كانت تنمو فيها بريًا وكانت تزرع قبل أن تصل إلى مصر. حيث تمثل منطقة الهلال الخصيب في الشام والعراق أكثر اﻷقاليم احتمالاً لهذه الفرضية.

وقد زرعت الحبوب والبذور في مصر فأصبحت غذاءها الرئيسي، لكن كذلك وجد العديد من النباتات البرية والفواكه والخضروات القابلة للأكل إلى جانب هذه النباتات المزروعة مثل الجميز وحب العزيز وحبوب السدر (النبق). وأيضًا النباتات ذات اﻷوراق الخضراء مثل الرجلة والملوخية، رغم أنهم نادرًا ما وجدوا بين البقايا بسبب طبيعتهم سريعة التحلل.

وحول كيفية استخدام النباتات المجمعة، تقول بركات: “رغم أننا لا نعرف الكثير عن الطريقة التي استخدمت بها هذه النباتات المجمعة، فإنها مألوفة ومماثلة لما نعرفه اليوم ونستطيع أن نفترض أن حبوب القمح والشعير وبذور النباتات اﻷخرى قد طحنت وصنع منها الخبز. وأن ثمار النبق قد استعملت لصناعة الخبز والكعك”.

أطعمة البروتين

كذلك طبخت البقول (مثل الفول والبازلاء) وحظيت باهتمام المصريين لاحتوائها على نسبة عالية من البروتين. وأضيفت النباتات ذات اﻷوراق الخضراء من أجل إضفاء نكهة على الطعام ولصنع المرق والحساء. بينما أكلت الفواكه طازجة أو مطهية أو مجففة ومخزنة.

وتشير إلى أن ظهور العديد من النباتات اﻷخرى أثناء عهد اﻷسرات المصرية مثل الشمام، والبطيخ، والتين، عقب تلك الفترة. أولت بعض اﻷسرات أهمية خاصة للزراعة وتعلق ذلك بالحملات الحربية التي قام بها الملوك والملكات لفتح أراض جديدة وتيسير حركة التجارة والنقل بين الناس.

وبالإضافة إلى البقايا النباتية التي اكتشفت. هناك الكثير من اﻵثار الفنية على حوائط المعابد والمقابر التي ساعدت في إيضاح حالة الغذاء في مصر القديمة وقدمت لنا معلومات حول الطريقة التي استخدمت بها النباتات لصنع الطعام.

أدوات ورسوم

تختم د.هالة عرض كتابها -الذي سيصدر قريبا- وتقول: “في الواقع لقد وجدت اﻷدوات وبعض الرسوم لتحضير اللحم والخبز في المواقع اﻷثرية. واكتشفت بعض عينات الخبز وبقاياه بين محتويات المقابر وربما وجبة جنائزية كاملة أيضًا.

لكن نستطيع أن نفترض أن أنواع الطعام الموجود بالمقابر تدل على ما اعتقد المصريون القدماء في قدرة الميت على اﻷكل. إذ تصف مائدة الطعام في المقابر طريقة تناول النباتات والحيوانات. لكن عدا الخبز والنبيذ والجعة، ما من توثيق متاح في كتب طعام أو وصفات أكلات. لقد نفذ باحثون بعض تجارب اﻵثار النباتية كما في حالة صناعة الخبز”.

وتشير إلى أنه من المغري أن نجد تشابهًا مباشرًا بين الخبز المصري القديم والخبز الشمسي المصنوع من القمح وكذلك البتاو.. إلخ. فقد أفادت الدراسات والتجارب في صناعة الخبز طبقًا للدلائل الفنية والاختبارات التي أجريت على عينات الخبز القديم في المتاحف كثيرًا من التشابه بينهم. لكن الخبز القديم كان أكثر سمكًا وجفافًا وربما صنع من حبوب القمح ثنائي الحبة المخمرة. فهناك دليل أيضًا على أن الخبز المسطح قد خبز في اﻷركان الدافئة من أفران أسطوانية الشكل.

ما زلنا نحتاج إلى الكثير من اﻷبحاث المماثلة في تاريخ الغذاء تقتفي أثر المطبخ المصري وتطوره عبر العصور من أجل فهم ما يمكننا اعتباره من المطبخ “المصري” حَقًّا.

اقرأ أيضا

الطعام في الأمثال الشعبية.. وعشق المصريين منذ أيام الفراعنة

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر