«بيت المساجيري».. إرث عظيم يبحث عن اهتمام

في قلب مدينة السويس، وتحديدًا في حي السويس، أمام شاطئ الخور على طريق الكورنيش القديم، كانت الحياة تنبض ذات يوم بحركة لا تهدأ من البضائع والمسافرين. هنا، في هذا الموقع الاستراتيجي، كانت ترسو المراكب القادمة من مختلف بقاع الأرض، حاملة شحناتها من البضائع والمسافرين، قبل أن تُفرغ حمولتها في بيت يُعرف باسم «بيت المساجيري»، أحد أهم مراكز التبادل التجاري في المنطقة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ويطالب أهالي السويس بتحويل المنطقة إلى منطقة تراثية، بمكوناتها الثلاثة: الميناء، السكة الحديد، وبيت المساجيري.

ابن حميدو في بيت المساجيرى.. سحر السينما وعبق التاريخ

يُعد فيلم “ابن حميدو” من أبرز علامات السينما الكوميدية المصرية، وبطله الفنان الراحل إسماعيل ياسين، أحد أبناء مدينة السويس. قدم من خلاله عملاً لا يُنسى، يجمع بين خفة الظل وروح المكان الذي دارت فيه أحداث الفيلم. ومن أشهر مشاهده، المشهد الذي يُسكب فيه الماء على “الباز أفندي”، الذي أداه ببراعة الفنان توفيق الدقن. من إحدى نوافذ منزل تاريخي يُعرف بـ”بيت المساجيري”.

ما لا يعرفه كثيرون أن هذا المشهد لم يُصوّر في استوديوهات السينما. بل داخل منزل يحمل تاريخًا عميقًا يعود إلى ما قبل حفر قناة السويس.

وشهد “بيت المساجيري” أيضا تصوير فيلم “حكايات الغريب”، المأخوذ عن قصة للكاتب جمال الغيطاني. وغنى فيه الفنان محمد منير أغاني فرقة “أولاد الأرض” السويسية. وتمنح هذه الأعمال البيت حضورًا في ذاكرة المصريين. فهو من ناحية موقع تاريخي عريق. ومن ناحية أخرى أحد مواقع التصوير السينمائي لمشاهد هي الأجمل في تاريخ الكوميديا المصرية.

شاهد على عبقرية البناء المصري

بالرغم من مرور نحو 200 عام على بناء بيت المساجيري في مدينة السويس، إلا أن عبق التاريخ وأصالة الماضي لا تزال تنبض بين جدرانه وساحاته. يعد هذا البيت من أعرق المباني في المدينة، إذ يحتفظ بكثير من ملامح العمارة القديمة التي تعكس دقة البناء ورُقي الذوق الفني آنذاك.

تُدهشك الأسقف الخشبية المصنوعة من عروق متينة، لا تزال قائمة تتحدى الزمن، بينما تضفي الأبواب الضخمة والنوافذ المرتفعة لمسة من الهيبة والوقار على المكان. لم تكن هذه العناصر مجرد تفاصيل معمارية، بل كانت تعبيرًا عن عمق ثقافي واجتماعي، وحرصا على التهوية والإضاءة الطبيعية داخل المنزل.

البيت ليس مجرد مبنى، بل سجلٌّ حيٌّ يروي قصص أجيالٍ مضت، وتجسيدٌ للفخامة التي ميزت العمارة في تلك الحقبة. إنه شاهد حي على عبقرية البنّاء المصري الذي صاغ من الحجارة والخشب تحفةً لا يزال الزمن يقف أمامها بإجلال.

أقدم مبنى تراثي إنشائي غير مسجل كأثر

يقول فاروق خزيم، مدير هيئة تنشيط السياحة الأسبق في السويس: “موقع بيت المساجيري بعد حفر القناة لفت أنظار الفرنسيين. فاختاروه موقعا لإدارة الحركة الملاحية بالمدخل الجنوبي لقناة السويس، عقب افتتاح القناة عام 1869. وقد تولت الشركة الفرنسية للملاحة، أول شركة أدارت الحركة في القناة، تجهيز المكان بالمعدات والأجهزة ليكون مركزا للتحكم في حركة المدخل الجنوبي ومرور السفن التجارية. وكان يشهد تواجد المرشدين الملاحيين ومشرفي الحركة.

وأضاف أن هذا الوضع استمر عدة عقود، حتى أنشأت الشركة الفرنسية مباني جديدة للمديرين وكبار المرشدين بمنطقة بورتوفيق. وهي المباني والفيلات والاستراحات التابعة لهيئة قناة السويس حاليا.

ويوضح “خزيم” أنه على الرغم من أن بيت المساجيري هو أقدم مبنى تراثي إنشائي في السويس. ويزيد عمره عن 200 عام، إلا أنه غير مسجل كأثر إسلامي. فقد زارت اللجنة الدائمة للآثار البيت عام 1989. وضمت أكثر من 30 عالم آثار، تناوبوا على زيارة “البيت” لأكثر من شهرين. فحصوا خلالها جميع أركانه ومنشآته. وفي النهاية، انتهت اللجنة إلى عدم وجود شواهد أثرية تثبت أن البيت أثري. مثل الزخارف المعمارية أو اللوحات الرخامية المسجل عليها بيانات للمنشأ، أو الكتابات الزخرفية. ومع ذلك، أشادت اللجنة بالحالة الإنشائية للبيت رغم مرور الزمن.

إرث عظيم يحتاج إلى اهتمام

يرى كثير من سكان السويس أن بيت المساجيري لا يجب أن يترك للاندثار. ويقول المؤرخ السويسي الدكتور سادات غريب، إن بيت المساجيري ليس مجرد بناء قديم، بل يمثل وثيقة حية لتاريخ مصر الملاحي والتجاري. ويؤكد أن إعادة ترميمه وتحويله إلى متحف أو مركز ثقافي يمكن أن يساهم في الحفاظ على هذا الإرث وتقديمه للأجيال القادمة، باعتباره مثالاً على تداخل التجارة والتكنولوجيا والعمران في صناعة الحضارة.

كما أن إعادة إحياء خط السكك الحديدية، ولو من خلال مسار تراثي أو سياحي، يمكن أن يعيد ربط المدينة بتاريخها، ويوفر فرصة لتنمية اقتصادية قائمة على الذاكرة والتاريخ.

وتابع: المراكب كانت تدخل من قناة السويس، التي ربطت بين البحرين الأبيض والأحمر، وغيرت خريطة التجارة العالمية. وبمجرد عبورها إلى خليج السويس، كانت تتوجه إلى ميناء بورتوفيق أو إلى الأرصفة القديمة المطلة على الخور، وهناك تبدأ عملية التفريغ، حيث تنتقل البضائع من السفن إلى المخازن، ومنها إلى قطارات السكك الحديدية، وقبل حفر القناة، كانت هذه المنطقة جزءا من طريق الحرير.

 

بيت المساجيري: ذاكرة ملاحية عتيقة

يقول الباحث والمؤرخ حسام الحريري، إن تاريخ بناء بيت المساجيري يعود إلى عام 1862 في عهد محمد سعيد باشا، وتم تشييده على يد الشركة الفرنسية “Les Messageries Maritimes”، والتي يعني اسمها “البريد السريع”.وكان الهدف من بناء هذا البيت أن يكون مركزًا لنقل الرسائل والبضائع والأفراد من الشرق الأقصى إلى أوروبا، قبل افتتاح قناة السويس.

وتابع: لذا لم يكن البيت مجرد مبنى، بل مركزا ملاحيا متكاملا أسسته شركة فرنسية تعد من أوائل الشركات التي أدخلت نظام “التوكيلات الملاحية” إلى الشرق الأوسط، وكانت هذه الشركة تتولى عمليات التنظيم والتنسيق بين السفن القادمة وبين وسائل النقل االبري والسكك الحديدية، لتصبح همزة وصل بين العالم الخارجي وبين السوق المصري الداخلي.

ولفت إلى أن هذا البيت، الذي يقف شامخا رغم تغير الزمن، تحول بمرور الوقت إلى رمز لمرحلة كاملة من تاريخ الملاحة والنقل في مصر. ومن هنا، انطلقت أفكار تأسيس شركات قطاع عام لاحقاً مثل “دمنهور” و”المنيا” و”القبارى”، والتي ساهمت في تنظيم حركة التجارة والنقل عبر الموانئ المصرية، خاصة في فترة ما بعد التأميم.

أقدم خط سكة حديد

ويضيف الحريري أن من أبرز مظاهر النشاط في تلك الحقبة كان خط السكك الحديدية الذي يمتد من أمام بيت المساجيري حتى العاصمة القاهرة. هذا الخط، الذي يعد ثاني أقدم خط سكة حديد في مصر، وثالث أقدم خط في العالم، كان يلعب دوراً جوهرياً في نقل البضائع التي تصل عبر المراكب من الخارج إلى الأسواق المحلية، خاصة في القاهرة.

وكان القطار ينطلق من السويس محملاً بالبضائع، من الزيوت والحبوب والقطن، إلى الأجهزة الصناعية والمنتجات الاستهلاكية. وعلى متنه أيضاً ركاب من جنسيات مختلفة، من تجار وعمال ومهاجرين يبحثون عن فرص جديدة. وكان الخط يمر بعدة محطات، ليمثل شرياناً حيوياً يربط الميناء بالعاصمة، ويعزز مكانة السويس كأحد أهم المراكز الاقتصادية في مصر.

يغير خريطة المنطقة ويزيد المنافسة

يشير “الحريري” إلى أنه مع الوقت، ومع دخول الألفية الثالثة، تلاشى هذا الخط الحديدي العريق. وتغيرت خريطة النقل والاقتصاد، وتحولت الأولويات. ودخلت الشاحنات والطرق السريعة بقوة على خط المنافسة. ما أدى لانخفاض الاعتماد على السكك الحديدية. واندثار هذا المسار التاريخي الذي كان يوما ما محورا للتنمية.

وترافق ذلك مع تغيرات أخرى في البيئة المحيطة، فقد تم ردم البحر المواجه للبيت، مما غيّر شكل المنطقة بالكامل. وبعد افتتاح القناة تحوّل هذا المنزل إلى مركز لإدارة الحركة الملاحية، حيث كانت تدار من خلاله عمليات عبور السفن والبضائع عبر السويس. واستمر هذا الدور لسنوات، قبل أن تنتقل العمليات إلى منشآت أحدث في منطقة بورتوفيق. ومع ذلك، ظل البيت شاهدًا على تاريخ طويل من النشاط البحري والتجاري.

من مركز تجاري إلى سكن شعبي

يضيف المؤرخ حسام الحريري، أنه مع تراجع دور الميناء وتوقف خط السكة الحديد. فقد بيت المساجيري وظيفته الأساسية كمركز ملاحي، وتحول مع مرور السنوات إلى مبنى سكني يأوي 8 عائلات. بالإضافة إلى استخدام بعض غرفه كمخازن للبمبوطية. وهم الباعة الذين يعملون في مهنة البيع للسفن الراسية في الميناء، ويشكلون بدورهم جزءا من النسيج الثقافي والاقتصادي للميناء.

ويؤكد المؤرخ أن أهمية بيت المساجيري لا تقتصر على دوره البحري فقط، بل تمتد أيضًا كونه شاهدًا على أحداث تاريخية وسياسية. فقد كان أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ملاذًا آمنًا لسكان السويس، الذين احتموا بخنادقه تحت الأرض من القصف الجوي. هذا الدور الوطني أضاف إلى المكان قيمة تتجاوز الجانب المعماري أو الوظيفي.

وهكذا، تحوّل المكان من صخب السفن وصفير القطارات إلى سكون نسبي يعبّر عن تغيّرات عميقة في وظائف المدن وتاريخها. ولم يتبق من الماضي إلا الذكريات، وبعض المعالم المتهالكة التي تقاوم الزمن. لتحكي للأجيال الجديدة عن عصر كانت فيه المراكب والقطارات ترسم ملامح الحياة.

 تفاصيل دور ومكونات المساجيري مع السفن والتجار

يوضح عامر عبدالله، مفوض شركة النقل والمحطات وأحد سكان البيت، أن البيت يتكون من طابقين: كان الطابق الأول يستخدم كمخزن لمخلفات السفن. بينما يضم الطابق العلوي غرفًا واسعة، ويعلو المبنى صواري وبرجان خشبيان لا يزالان قائمين حتى اليوم.

في تلك الحقبة، كان على سطح البيت تلسكوب ضخم يستخدم لتحديد جنسية السفن العابرة. وبمجرد التعرف عليها، يقرع جرس كبير لتنبيه العمال، ويرفع علم الدولة التي تنتمي إليها السفينة على الصاري. ثم يتحرك العمال على لنشات وسفن صغيرة لنقل البضائع من السفن إلى السكك الحديدية، التي كانت تمر حينها بشارع بورسعيد لنقل البضائع إلى القاهرة.

وبين المراكب التي كانت ترسو على بحر الخور، والقطارات التي كانت تذهب إلى القاهرة، تشكلت ملامح السويس القديمة، مدينة ميناء نابضة بالحياة، تتوسط طرق التجارة وتجمع بين الشرق والغرب. واليوم، يقف بيت المساجيري شاهداً على كل هذه التحولات. إنه أكثر من مجرد مبنى، إنه حكاية مدينة بأكملها، تحتاج إلى من يرويها، ويحافظ عليها، ويعيد لها الحياة من جديد.

عامر عبدالله: “هنا ولدت.. في بيت المساجيري”

يشير عبدالله إلى إنه وُلد وعاش حياته كلها في بيت المساجيري. وأن البيت يحتفظ برونقه وروحه الأصلية، رغم مرور العقود. ولا يزال شاهداً على عبور الزمن بكل تفاصيله. ويضيف أن الأبراج والتلسكوب ما زالت في أماكنها، كدليل على عظمة البناء ودقة الغرض الذي أنشئ من أجله.

ويروي أن اليابانيين قاموا بردم بحر الخور خلال أعمال توسيع قناة السويس، حيث استخدموا التراب الناتج من الحفر لردم أجزاء من البحر بدلاً من نقله إلى الضفة الأخرى، مما أدى إلى اندثار جزء كبير من المعالم الطبيعية والتاريخية التي كانت تميز المكان.

اقرأ أيضا:

حكايات الكابتن غزالي.. كيف يخطط نجله لإحياء فرقة «ولاد الأرض»؟

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.