بعد جولة «مدبولي» في السيدة عائشة.. لماذا انتصر «القُبح» على التراث؟

 خلال السنوات الأخيرة، تعمدت الحكومة إخفاء أية بيانات أو معلومات حول طبيعة ما يحدث داخل حيز القاهرة التاريخية، وخاصة في منطقة الجبانات. لكن، بمرور الوقت ومع قرب الانتهاء من تنفيذ جزء كبير من هذه المخططات، بدأت بعض الخطط تتكشف، وهي التي تصفها الحكومة عادة بكلمة «تطوير»، وهو المصطلح الذي يرفضه أغلب المتخصصين، إذ اعتبروا أن ما يحدث داخل المدينة القديمة لا يمكن وصفه إلا بعمليات «تفكيك وتدمير» للنسيج العمراني للمدينة.

منذ أيام، تفقد الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، سير الأعمال في محيط منطقة السيدة عائشة، وهي المنطقة التي شهدت – أيضًا – في السنوات الأخيرة تغيرات جذرية نتيجة هدم مئات المباني القديمة. وخلال الجولة، اعتبر «مدبولي» أن تطوير المنطقة يستهدف إعادة إحيائها بما يليق بتاريخها ومكانتها، من خلال إعادة تخطيطها.

على الجانب الآخر، كشفت محافظة القاهرة -للمرة الأولى- بعض الأرقام التي تظهر عمق الأزمة التي حدثت داخل المدينة التاريخية خلال السنوات الأخيرة. فقد أعلن المحافظ، خلال جولته مع رئيس مجلس الوزراء، عن إعادة تخطيط منطقة السيدة عائشة حول منطقة القلعة ومسجدي السلطان حسن والرفاعي. وكشف العديد من الأرقام الهامة، منها بينها إزالة  60 عقارًا سكنيًا، و123 عقارًا تجاريًا تضم 347 محلًا وعيادة ومخزنا، إلى جانب إزالة 120 باكية (سويقة)، و133 عقارًا بمنطقة عرب يسار، و5 بلوكات مطلة على شارع صلاح سالم. كما أعلن عن نقل موقف السيرفيس بالكامل وإنشاء موقف مؤقت خلف مسجد السيدة عائشة. وأشار إلى أن الهيئة الهندسية للقوات المسلحة تنفذ محور صلاح سالم البديل بطول 2 كم مربع، وقد تم الانتهاء من تنفيذ 1200م مربع،

 ويتبقى 800 م مربع. كما أعلن أن المحافظة تعمل على إزالة منزل كوبري الأباجية باتجاه صلاح سالم، وأن الهيئة الهندسية تقوم بجميع أعمال التطوير؛ سواء منطقة عرب يسار، أو السيدة عائشة، أومحور صلاح سالم البديل، بالتنسيق مع المحافظة.

لم يجب البيان الصادر عن عدد من النقاط، من بينها عدد المقابر التي هدمت داخل المنطقة، والتي تعد جزءًا من نسيج القاهرة المسجل على لائحة التراث العالمي لليونسكو. كذلك، لم يشر البيان إلى وجود حفائر أثرية من عدمه، رغم وقوع المنطقة داخل حيز عمراني يعود إلى تاريخ نشأة مدينة القاهرة.

غياب الخطط

الدكتورة جليلة القاضي، أستاذ التخطيط العمراني بجامعات باريس، اعتبرت أن ما حدث في منطقة السيدة عائشة خرج بهذه الصورة نتيجة غياب الخطط الواضحة للمنطقة. تقول: «لم نجد مشروعًا متكاملًا، بل غلبت العشوائية على المشروع. لم تكن هناك، مثلًا، خطة لربط المنطقة بالأحياء المحيطة. فقرارات الهدم اتخذت بشكل تدريجي وعشوائي وفج، دون الرجوع للمتخصصين، ومنها قرارات هدم جبانة السيوطي وفك المآذن الأثرية الموجودة بالمنطقة. فضلًا عن قرارات هدم منطقة عرب آل يسار، التي كان من المفترض ترميم مبانيها ووضع خطة لإعادة استخدامها.

لكن، في النهاية، تقرر هدمها ومحوها بالكامل. واستبدالها بنماذج هندسية رديئة لا تحمل أي قيمة. نماذج سيئة لا محل لها من الإعراب. وأنا متأكدة أنه سيأتي يوم وسيتم إزالة هذه النماذج المعمارية السيئة، فمنطقة القلعة بالكامل مسجلة كأثر، وعرب آل يسار كانت تقع داخل حرم قلعة صلاح الدين. لذلك، يجب محاكمة كل المتواطئين الذين سمحوا بهدم المنطقة، لأنها مسجلة ضمن حدود القاهرة في اليونسكو».

طغيان القوة

ترى «جليلة» أنه دائمًا ما تم الترويج لكوبري السيدة عائشة باعتباره نموذجا سيئا، لكنها، في المقابل، تعتبر أنه كان من الممكن تفكيكه وإعادة تصحيح الأخطاء الهندسية الموجودة فيه. تقول: «على الأرض، البديل المطروح هو تنفيذ محور مروري داخل منطقة الجبانات. وكان الأولى تخصيص مسار سياحي داخل الجبانات وترك كوبري السيدة عائشة كما هو، مع إصلاح العيوب الهندسية. هذا الارتباك سببه غياب أي خطط هيكلية للمنطقة، فضلًا عن غياب التخطيط أو الفكر أو المنهج، إذ يتم عادة تجاهل الدراسات الموضوعة الخاصة بتقديم الحلول والبدائل. وهذه الأمور قادتنا لتلك الكارثة».

وتضيف أن الحلول لم تعد مطروحة، نظرًا لعدم السماح لأحد لمناقشة هذه المشروعات، إلى جانب تراجع دور منظمة اليونسكو في حل الخلافات. وتشرح وجهة نظرها قائلة: «منظمة اليونسكو جزء من منظمات الأمم المتحدة. وهذه المنظمة لم تعد فاعلة على مستوى الدول. نعيش اليوم حالة أفول لجميع المنظمات التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية. وقد فقدت هذه المنظمات دورها نظرًا لأن المعايير والقيم قد تغيرت؛ إذ أصبح هناك طغيان للقوة والغطرسة».

عرب آل يسار بعد التطوير.. تصوير: شهاب طارق
عرب آل يسار بعد التطوير.. تصوير: شهاب طارق
ظاهرة تفكيك الكباري المعدنية

الخبير العمراني عمرو عصام اتفق أيضًا مع جليلة فيما يتعلق بغياب الخطة، إذ اعتبر أن مشكلة ميدان السيدة عائشة ومحيطه سببها غياب أي مخطط عام منشور عما يجري داخل المنطقة، وهو أمر مهم من وجهة نظره للباحثين والمتخصصين لتقييم أي مشروع بشكل كامل. يقول: «بالنسبة لكوبري السيدة عائشة المعدني، فقد تم وضعه في مرحلة لاحقة من تنفيذ طريق صلاح سالم، ولم يكن ضمن التخطيط الأصلي للطريق.

هناك فجوة زمنية بين المشروعين، فصلاح سالم جرى تنفيذه في منتصف الخمسينات، بينما كوبري السيدة عائشة نُفذ في ثمانينيات القرن الماضي. وقد أهدته بلجيكا إلى مصر مع مجموعة كباري أخرى. وظاهرة إهداء الكباري ظهرت من جانب العديد من الدول الأوروبية التي أرادت وقتها تطوير المواصلات العامة وتحسين المشي واستخدام الدراجات؛ وبالتالي، كانت هناك رغبة في تفكيك الكباري المعدنية وإهدائها للدول النامية، ومنها مصر. وتم وضعه في هذا المسار، بخاصة مع زيادة الحركة المرورية في المنطقة، وزيادة أعداد السيارات الخاصة.

هذه المنطقة تعد ذات أهمية مرورية كبيرة جدًا، مثلها مثل ميدان العتبة، والعباسية، ورمسيس. وهي ملتقى لمجموعة من خطوط المواصلات الهامة التي تربط بين الخطوط الداخلية، والأحياء المختلفة، مثل القلعة، والخليفة، والإمام الشافعي، ومصر القديمة والجيزة. وصولًا إلى ضواحي القاهرة الجديدة، ومدينة نصر، ومصر الجديدة».

فصل القرافة

ويكمل «عصام»: تزايدت مشاكل كوبري السيدة عائشة بشكل كبير، وظلت هناك دائمًا مطالبات بإزالته. وقد استندت هذه المطالبات إلى عدة أسباب، منها أسباب وظيفية مثل تزايد الحوادث. وأخرى جمالية، حيث اعتبر الكوبري فاصلا بصريا وقاطعا للمنطقة. لكن، من الناحية الوظيفية، فهي الأهم بسبب كثرة حوادث الطرق في المنطقة.

أما بخصوص محور صلاح سالم البديل، فهو فكرة قديمة تعود إلى عام 2021. وهو جزء من مشروع المهندس هاني الفقي؛ وبناء عليه، تم هدم أجزاء من المقابر التاريخية. أما المحور البديل فهو يمتد بعرض نحو 40 مترًا تقريبًا. ما يجعله عنصر فصل كبيرا لمنطقة القرافة.

وعن الخطوة التالية قال إنه سيتم فك كوبري السيدة عائشة والاعتماد على محور صلاح سالم البديل لنقل الحركة المرورية عبر شمال وجنوب صلاح سالم. وبالتالي، تحويل منطقة السيدة عائشة لطريق خدمة. كما سيتم استخدام محيط ميدان السيدة عائشة كطريق خدمة بطيء. وهو أمر إيجابي لحركة المشاة، لكنه أيضا يمثل علاجا مؤقتا وليس حلا مستداما.

وذلك لأن محور صلاح سالم البديل سيشكل في المستقبل القريب حاجزا داخل القرافة؛ وبالتالي ستكون هناك صعوبة في التنقل بين منطقة السيدة عائشة بعد التطوير. وبين أهم جزء في القرافة وهو الإمام الشافعي وما حولها. وهذا يعني أن ميدان السيدة عائشة والأجزاء الشمالية من القرافة سيتم فصلها عن بقية الأجزاء. وبالتالي فالعبور لمنطقة الإمام الشافعي سيسبب خطوة كبيرة جدًا. وعلى الأغلب سيكون الحل هو وضع أنفاق، أو سلالم مشاة. وهو أمر سيقوض فرص تكامل القرافة كوحدة متماسكة بسبب عرض محور صلاح سالم البديل الذي يبلغ حوالي 40 مترًا. وهو أمر سيؤدي لفصل الأطراف عن بعضها.

فرص مهدرة

يرى «عصام» أن جزءا من المشروع يتعلق بخطة الهيئة القومية للأنفاق لمد خط المترو الرابع بالمنطقة. ومن المقترح أن يربط هذا الخط مدينة 6 أكتوبر بالقاهرة الجديدة، مرورًا بعدة محطات رئيسية منها محطة مجرى العيون، والسيدة عائشة، والقلعة؛ وبالتالي ستتصل المنطقة خلال السنوات المقبلة بثلاث محطات مترو.

وعلى الرغم من إلغاء الكوبري وتحويل الحركة في محيط السيدة عائشة إلى حركة بطيئة- وهو أمر سيكون له أثر إيجابي على تحسين حركة المشاة والتكامل بين مشروع مترو الأنفاق المقترح- إلا أن مدينة القاهرة ستخسر فرصة تحقيق التكامل بين وسائل المواصلات النفقية (كالمترو) والسطحية. لذلك، كان من المهم التفكير في شبكة للترام تربط بين محطات مترو الأنفاق القائمة والمقترحة. وبين المناطق التراثية والأثرية الموجودة داخل القاهرة التاريخية. وبالتالي فنحن أمام فرصة حقيقية مهدرة.

منطقة عرب آل يسار.. تصوير: شهاب طارق
منطقة عرب آل يسار.. تصوير: شهاب طارق
مشكلة أكبر

وعن مقترح إنشاء حديقة تمتد شمالًا من ميدان القلعة وحتى مسجد السيدة عائشة، أجاب: وجود طريق بعرض ست حارات مرورية في الجزء المتاخم لمسجد السيدة عائشة. سيكون له تأثير كبير على فصل حركة المشاة وتقويضها. وتشير البيانات المنشورة حول المشروع المقترح إلى وجود أنفاق مشاة للعبور بين الحديقة والمناطق المجاورة. إلا أن ذلك يقودنا لمشكلة أكبر، وهي أن استخدام الأنفاق داخل مصر غالبًا ما يكون حلًا غير فعال. فهناك صعوبة في استخدامها ليلا، بسبب انعدام الإحساس بالأمان. ولأنها دائمًا ما تحتاج إلى إضاءة وصيانة بصورة مستمرة. ولهذا السبب، تتجنب العديد من الفئات استخدامها، خصوصا النساء والفتيات خلال ساعات الليل.

أما سلالم المشاة، فهي عادة ما تكون صعبة الاستخدام بالنسبة لذوي القدرات الخاصة وكذلك كبار السن. وبالتالي، فهي تقوض فرص اتصال المناطق المحيطة بها. أما فيما يخص المتنزهات والحدائق، فمن المفترض أن تكون متصلة جيدا بالمجتمعات المحيطة بها والمناطق السكنية. مع ضرورة عدم فصلها بمحاور مرورية سريعة.

غياب الحلول المستدامة

أخيرًا يؤكد «عصام» ضرورة التفكير في ميدان السيدة عائشة وفقًا لعلاقته بميدان السيدة زينب، وميدان الأوبرا، والعتبة، ورمسيس والتحرير. يقول: «من المهم التفكير في علاقة المدينة ببعضها. فالخط الرابع لمترو الأنفاق كان يمكن أن يمثل فرصة جيدة لتحسين التنقل والوصول للقاهرة التاريخية من خلال محطات مجرى العيون، والعتبة، والقلعة. وبالتالي، كان من الضروري التفكير في تحقيق ربط واتصال جيد بين الميادين المختلفة عبر التكامل بين خطوط المترو (الأول، والثاني، والثالث، والرابع). وتحسين التنقل من خلال شبكة للمشاة، مع إعادة التفكير في شبكة الترام».

ويضيف: «هذه الأمور كانت ستقودنا لتقليل تكلفة التلوث داخل القاهرة الكبرى. فضلًا عن المحافظة على المباني التراثية والأثرية، بجانب تحسين الوصول بين الميادين وبين الاستعمالات والأنشطة داخل المناطق الأثرية والتراثية. مع تحسين السياحة الداخلية. لكن، في النهاية، فالعمل يتم بشكل منعزل. والمحصلة هي غياب الحلول المستدامة على المدى المتوسط والبعيد».

اقرأ أيضا:

«إبراهيم طايع»: الصحافة عملت على «شيطنة» قضية المقابر!

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.