«الطريق».. رحلة فلسفية تطرح تساؤلات الوجود

«عاشق وصوتي في الفضا حايم.. طال الطريق وأنا غريق هايم» كانت هذه أولى الكلمات التي بدأ بها العرض المسرحي «الطريق» على مسرح المركز الثقافي بطنطا، معبرة عن جوهره باختصار، وعن أصل العلاقة بين المحبين في بعض الأحيان.

جلست في «بنوار 7»، ومن أمامي مسرح المركز الثقافي، أركز في الإضاءة التي أدهشتني، وتُتلى على مسامعي ترانيم أشعار مسعود شومان، وتتأهب عيناي لظهور عناصر أكثر في العرض، حتى يزول الغموض واللبس.

العرض المسرحي «الطريق»

كانت المشاهد الأولى معبرة عن الحالة التي ينخرط فيها كل مجتمع لا يتفق على حاكمه، من محاولات السيطرة على الحكم، والوشاية بأعوان الحاكم، وترقب أخطائهم. وفي صورة موازية، برزت الألحان الصوفية وإتباع الطريقة كعنصر أساسي من عناصر المسرحية.

يكشف العرض عن طبيعة علاقة الولي والسلطان، متشابكًا مع التيمة الثقافية الأبرز لمدينة طنطا. وهي تميزها بمسجد الولي السيد البدوي. فقد كشف العرض عن علاقة السيد البدوي بالسلطان الظاهر بيبرس، سلطان مصر والشام ورابع سلاطين الدولة المملوكية.

السير في الطريق

بدأ العرض بإلقاء أشعار صوفية من تأليف الشاعر مسعود شومان، مع إبراز مريدي الولي وتابعيه كملمح أساسي من ملامح “السير في الطريق”. وهم لا يحيدون عن طريقة الولي. وتلا هذا المشهد الرئيسي مشاهد اتفاق الخونة، ومحاولات الشيعة لخلخة حكم السلطان وإثارة المشكلات. وهو ما يعكس بالفعل الحياة الاجتماعية والسياسية في مصر في تلك الفترة، وما بلغ السلطان لاحقا من أخبار هذه المؤامرات.

حاول بيبرس تأكيد دعائم حكمه، ومحاسبة هؤلاء الخونة وصدهم، فاستشار أعوانه في الحكم. وتعددت الآراء بين المحارب بالسيف أو بالحكمة أو حتى بالدعاء؛ وهو ما اتجه إليه بيبرس في نهاية حياته، من خلال مناجاته السيد البدوي في المنام.

السير في طريق الوهم

ينتمي العرض المسرحي «الطريق» إلى التصنيف التاريخي -الاجتماعي- الصوفي، ويعبر عن الحالة التي يلتبس فيها التابع للطريقة الصوفية، ومناقشته للولي حتى يتم عليه علمه، ويمنحه المعرفة. حتى وإن لم يصل إلى أي إجابات، كما حدث تمامًا في الحوار الذي دار بين السلطان بيبرس والسيد البدوي.

شعرت أن كل كلمة موجهة في العرض إليَّ، ليس كرسالة فقط أو نصيحة، بل كحالة شعورية انخرطت بها يوما ما مع نفسي. إذ أجابني العرض عن تساؤلات عدة دارت في خلدي: عن الحلم والواقع، وأيهما أكثر إنصافًا لي؟ عن الأفكار التي لم أزرها يومًا إلا في أحلامي. وأيضا نهاية طريق لا أدرى أكانت بدايته صحيحة أم لم تكن هناك بداية أصلًا؟ وماهية هذا الطريق. والطريقة التي تجعلني أسير فيه بهدوء، دون صدامات فكرية واسعة؟ عن العلاقات التي تتشكل حولي وتجذبني نحوها دون إرادة مني أو وعي؟

إجابة على التساؤلات

أجابني العرض عن كل تلك التساؤلات. وقدم لي رؤية وجودية مختلفة، لم أظن أن المسرح قادر على التعبير عنها يومًا بهذه البساطةٍ والجمال. عن كل تلك الأفكار التي تسكنني وتشككني أحيانا في وجود عالم موازٍ لما نعيشه في واقعنا.

وفي اللحظات التي اختارت الأميرة عائشة زوجا للظاهر بيبرس من ابنة أعدائه، لأجل إمكانية التحالف. تيقنت أنه لا بد من تضافر الجهود دومًا للمصلحة العليا. لا سيما إن كانت مصلحة الوطن. مع عدم إغفال الجانب النفسي في هذه العلاقات المتشابكة، التي أبرزها الكاتب طارق عمار ببراعة في مؤلفته «الطريق».

سيرة مستمرة في الوجدان المصري

أكد الكاتب طارق عمار، مؤلف العرض، في حديثه لـ«باب مصر»، أن «الطريق» نص ينتمي إلى حد بعيد للمسرح التاريخي. حيث يستعرض واقعة تاريخية شهيرة، وهي الوقيعة التي حدثت بين العارف بالله «أحمد البدوي» والسلطان الظاهر بيبرس. وانتهت بتبرئة البدوي من تهمة محاولة استعادة الخلافة الفاطمية على حساب الدولة في ذلك الوقت.

وأضاف أن النص هو نتاج جهد بحثي شاق استمر نحو عشر سنوات. وما لفت نظره إلى هذه الواقعة هو أنها حدثت بين شخصيتين متجذرتين في الوجدان الشعبي المصري، فبيبرس له سيرة شعبية تحمل اسمه. والبدوي يحتل مكانة روحية بارزة، بدليل الأعداد الغفيرة التي تحضر إلى مولده كل عام. وتأثيرهما ظاهرة جديرة بالتأمل.

وأشار المؤلف إلى أن اللمسات الصوفية في العرض ضرورية، بحكم أن البدوي من كبار أقطاب التصوف في مصر والعالم الإسلامي. لكن الحالة الصوفية التي غلفت العرض، كانت نتيجة لاختيارات المخرج في تناول النص كعرض مسرحي. وتوظيفه للكوادر العاملة معه، كالأشعار التي صاغها بنفحة صوفية الشاعر مسعود شومان، ولحنها الموسيقار عبدلله رجال. بالإضافة إلى مجهود طاقم التمثيل.

العرض المسرحي «الطريق»
العرض المسرحي «الطريق»
الطريق والطريقة

وألمح قائلا: «العلاقة بسيطة بين ثنائية «الطريق والطريقة» في العرض. ما أرت قوله هو إن الدولة- أي دولة- لا يمكن أن تسير وتنمو وتحقق رفاهية شعبها دون عقل حاسم يستطيع مواجهة الأخطار في التوقيت وبالأسلوب المناسبين. لكن، في ذات الوقت، فإن الجانب الروحي هو غذاء الوجدان. ولكي تستقيم الأمور، يجب أن يمتزج العنصران معا لتحقيق حالة من التناغم بين العقل والروح».

كما أوضح أن الطريق هو رحلة إنسانية داخل النفس، والنص قائم على تفكيك ما يعتري الشخصيات من حالات انفعالية متباينة تدفعها لاتخاذ قرارات حاسمة في توقيتات حاسمة. وتأثير تلك القرارات على الشخصيات الأخرى، والعكس.

وفسر التحام الأشعار بالنص بقوله: “البنية الكلاسيكية للنص المسرحي لا تنطبق على نص «الطريق». والإحساس بأن العرض ذو طابع شعري، هو نتيجة حتمية لاستخدام البنية التعبيرية في الكتابة. سواء على مستوى البناء العام للنص المسرحي، أو على مستوى اللغة. وبالتالي، فإن اللغة كانت أكثر ميلاً لاستخدام المجاز منها للغة السرد التقليدي”.

رحلة داخلية للنفس بوسيلة سوية

كما عبر عن كتابته للشخصيات ومدى دلالتها على رموز لأفكار ومفاهيم. حيث إن كل شخصية تحمل رمزيتها الخاصة داخل الإطار التعبيري العام للعمل، وهو أمر محتم مع استخدام هذا المنهج في الكتابة. والرسالة التي يأمل إيصالها هي أن الإنسان هو صانع مصيره من خلال اختياراته الفردية الخالصة، وأن التناغم بين العقل والروح هو ما يمكن الإنسان من اتخاذ الخيار السليم في التوقيت المناسب.

واختتم حديثه بالتعبير عن إيمانه العميق بالمسرح، قائلًا: «أنا مؤمن بأن المسرح قادر على فعل أي شيء. بما في ذلك طرح التساؤلات الوجودية في عصر يشوبه الكثير من انعدام اليقين والتشكك في كل شيء. بل إنه قادر على الوصول إلى إجابات شافية لمثل تلك التساؤلات».

عرض فلسفي وتأملي

يعرِّف المخرج المسرحي أسامة شفيق، مخرج العرض، «الطريق» بأنه عرض مسرحي فلسفي وتأملي، يتناول رحلة الإنسان في البحث عن المعنى والحقيقة. ويمزج بين الفلسفة والصوفية، ويطرح تساؤلات حول الوجود والإنسانية.

ويوضح أن التحدي الأكبر الذي واجهه أثناء الإعداد للعرض، كان كيفية تقديم أفكار فلسفية معقدة بطريقة مبتكرة ومشوقة للجمهور. مع الحفاظ على عمق الفكرة والمعنى. ويضيف أنه تدخل بشكل كبير في إعادة بناء النص. دون المساس بالسياق الأصلي لكتابة طارق عمار، ليناسب الرؤية الإخراجية والتصميم المسرحي. بما يضمن انسجام العناصر وجعل العرض أكثر تأثيرًا وتماسًا مع الجمهور.

كما يفسر ثنائية «الطريق والطريقة» التي وصف بها العمل، بأن الطريق يمثل الرحلة الداخلية للإنسان. بينما الطريقة تمثل الوسيلة أو النهج الذي يسلكه الإنسان في هذه الرحلة. موضحا أن العرض يطرح تساؤلات حول الطريق الصحيح والطريقة المثلى لتحقيق هدف سام من شأنه الرقي بالأمة.

العرض المسرحي «الطريق»
العرض المسرحي «الطريق»
التأمل الصوفي والنقد لحالة الإنسان المعاصر

أشار شفيق إلى أنه أراد أن يمتزج العرض بين التأمل الصوفي والنقد لحالة الإنسان المعاصر. حيث يبحث الإنسان عن المعنى في عالم سريع التغير. معللًا ذلك بأن العرض يقترب كثيرًا من مسرح الوجدان والمسرح الصوفي، كونه يخاطب الروح والعواطف، ويحفز الجمهور على التفكير العميق وإعادة تقييم مواقفهم الفكرية.

واختتم حديثه مع «باب مصر» متمنيا أن يخرج المتلقي من العرض وهو يحمل أسئلة حول معنى الحياة والوجود. ودوره في فهم قضايا وطنه، مشيرا إلى أن مشروعه القادم سيتناول موضوعات مشابهة. وسيستكشف جوانب أخرى من التجربة الإنسانية.

فريق العمل

«الطريق» من تأليف: د. طارق عمار، وإخراج: أسامة شفيق، أشعار: د. مسعود شومان، موسيقى وألحان: عبد الله رجال، مخرج منفذ: حسن خليل، كريوجرافيا: أحمد جمال، سينوجرافيا: محمد محسن، تصميم إضاءة: أحمد راضي، مكياج: نسرين نصر.

بطولة العرض

يشارك في العرض عدد من أعضاء فرقة الغربية القومية المسرحية، منهم: سمير يوسف، محمد عبد العزيز، أحمد راضي، سمر مسعد، منار السيد، مارينا أمير، محمد جمعة، حسن عطية، أحمد الشريف، محمد السايس، محمد علاء، محمود قناوي، محمد هشام، ماجد صلاح، مصطفى فحل، ياسين أمجد، عبد الرحمن سمير، صلاح زكريا.

وتضم هيئة الإخراج كلا من: هاني رمضان، مروة فريد، حنان عامر، ورامي الشناوي. العمل من إنتاج الإدارة العامة للمسرح برئاسة سمر الوزير، وبالتعاون مع إقليم غرب ووسط الدلتا الثقافي برئاسة أحمد درويش، وفرع ثقافة الغربية برئاسة وائل شاهين.

اقرأ أيضا:

«هدى سلطان».. صوت الغربية الدافئ الذي لم يغًب

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.