«الميلودراما والحداثة»: علمنة الأساطير في الخطابات العامة والسينما

«الميلودراما»، بمعنى ما، هي إعادة إنتاج «نثرية» لأساطير التضحية والفداء الكبرى. ومصادفة استيراد الميلودراما إلى مصر تجعل هذا النوع الفني في سياقنا العربي مرتكزا على أسطورة الفداء الأقدم والأكثر رسوخاً في المنطقة: قصة إيزيس وأوزوريس وحورس، الذين يمثلون ثالوثاً مصرياً امتد تأثيره عبر البحر المتوسط في ثقافات عديدة شمال وجنوب وشرق المتوسط قبل المسيحية. بهذا المعنى، فإن الميلودراما، وقد أعيد إنتاجها في السينما في القرن العشرين، إما تحكي حكاية زوجة مكلومة وأم حامية مضحية، مثل إيزيس وهي تبكي زوجها القتيل وتلملم أشلاءه وتحمي ابنه وتربيه، أو تروي قصة أب ذبيح وغائب، مثل أوزوريس، يتعرض للخيانة من أقرب الناس إليه ويتعرض لعنف بدني ظالم، ويختفي من حياة أسرته أو يموت.

ثم دخل المنطقة العربية تأثير إضافي، تحمله صيغة قصة الفداء التي تأسست في حكاية الإله الإغريقي ديونيسوس، والذي كان المؤرخ الإغريقي هيرودوت يساوي بينه وبين أوزوريس من ناحية، وتأثير قصة الإله الرافدي تموز من ناحية أخرى، وبفعل التأثير المسيحي من ناحية ثالثة. هكذا ظهر نمط ثالث في قصص الفداء الكبرى القديمة، والتي استعادتها الميلودراما في القرن العشرين، لا سيما في السينما. لا يحكي هذا النمط قصة تضحية بأب أو بأم، بل قصة تضحية ابن ذبيح أو مصلوب، مثلما تعذب شاب في أوج تفجره بالحياة وارتبط بفكرة الخصب والتزاوج (ديونيسوس وتموز) أو صلب شاب يبشر بالبعث والحياة بعد الموت (المسيح).

***

لو تأملنا أفلامنا الميلودرامية الكبرى في تاريخ السينما العربية، لوجدنا أنها تعتمد على التضحية بضلع واحد على الأقل من أضلاع ذلك المثلث: التضحية بالأب في فيلم “البؤساء” لكمال سليم مثلا، أو التضحية بالأم في فيلم “بائعة الخبز” لحسن الإمام مثلا، أو التضحية بالابن في فيلم “الخطايا لحسن الإمام” مثلاً.

كأن الميلودراما بوصفها وعاء الإنتاج الثقافي للحداثة تقوم بعلمنة مرويات كبرى، مثلما قامت الحداثة بعلمنة مفاهيم وبنى اجتماعية مسيحية كانت قائمة في العصور الوسطى. هكذا، علمنت الحداثة الأوروبية قصص الفداء المسيحي، وعلمنت الحداثة العربية قصة الفداء الأوزيري، ومعهما قصتا فداء المسيح والحسين.

وكانت نتيجة تلك العلمنة في باب الميلودراما المصرية، أن السينما -لا سيما في زمن الأبيض والأسود- قد انشغلت بقصص ترتكز على التضحية: إما بأب مثل أوزوريس، أو بأم مثل إيزيس أو السيدة مريم (أو بتنويعة التضحية بأخت مثل السيدة زينب)، أو ترتكز القصة على التضحية بابن أو شاب مثل تموز أو المسيح.

التضحية من أجل حياة أفضل ووطن حر

بغض النظر عن المعطيات اللاهوتية والروحية، لو نظرنا لقصة صلب المسيح بمنطق سياسي ومادي، لوجدنا أن خلاصتها تأكيد على أن تقدم عجلة التاريخ (نحو الخلاص، نحو السعادة، نحو الاستقرار، أو الأفضل، أو الجديد) يتطلب التضحية بشاب أو بالشباب، أي يتطلب أن يضحي الشباب من أجل حياة أفضل للجماعة أو المجتمع. التضحية بالشاب لتتقدم عجلة التاريخ هو النموذج المسيحي بامتياز.

لو قرأنا حياة وصلب المسيح قراءة لا تقتصر على التفسير الروحي، لأدركنا أن تضحية المسيح بجسده تدفع جماهير شعبه، ومن انضم إليهم من شعوب الإمبراطورية الرومانية، إلى تشكيل مقاومة معرفية وعاطفية غير مسلحة لهيمنة إمبراطورية عسكرية غاشمة. وأوضح تطبيق لهذا النموذج السردي موجود في تضحيات شباب المناضلين بحياتهم في ميلودراما التحرر الوطني. مثلا في حالة فهمي/ صلاح قابيل، المناضل الطلابي في رواية وفيلم “بين القصرين” لنجيب محفوظ وحسن الإمام، الذي مات برصاص قوات الاحتلال، فساهم في إذكاء شعلة التحرر الوطني. وكذلك استشهاد الشاب ابن شيخ القرية في فيلم “شيء من الخوف” لحسين كمال، كان المحرك الذي ألهب حماس أهل القرية، فحملوا جثته على الأعناق وانضموا في موكب عاطفي مهيب أطاح بفتوة القرية الظالم.

وفاة الشاب حسن السبكي، ابن الشيخ يحيي شاهين، ليلة عرسه، تثير المشاعر بشكل متعاظم ومتسارع، وهو موقف من مواضعات الميلودراما: أن تتحول لحظة فرح قصوى إلى لحظة حزن وابتلاء شديدين. لكن صياغة الموقف سينمائياً تؤكد المجاز المسيحي، ففكرة “الشهيد العروس”، وفكرة “عروس السماء”، تصبغ جسد الشاب المغطى بملابس العرس البيضاء، وبدلاً من أن تزفه القرية بدمائه إلى الكنيسة، فهي تشيعه في موكب يزفه مجازاً إلى فكرة الوطن -المرأة (بدلاً من أن يتزوج امرأة ليلة عرسه، ضحى بدمائه فتزوج مصر).

التضحية بالشرير

لا يقتصر نموذج التضحية الأسطوري في الميلودراما على التضحية بشخصيات خيرة، سواء كانت في موقع الأب أو الأم أو الابن. بول كوتس، المنظر السينمائي الكندي المتخصص في الميلودراما، وله أطروحة غاية في التفرد فصلها في كتابه عن “الفيلم في مفترق الطرق بين الثقافة الرفيعة والدارجة”، يطرح كوتس أن نمط شخصية الشرير، الذي يتواتر ظهوره في الميلودراما، والذي كثيرا ما ينتهي به الحال إلى الموت جزاء على شره، أو إلى التعرض لعقاب بسبب خسته، يمثل عودة حديثة لنمط “الضحية” في العصور البدائية القديمة. كانت الجماعات القديمة تذبح ضحية بشكل طقسي دوري لتصب عليها جام غضبها، وتفرغ فيها نزعاتها العدوانية، ليتحقق السلام بين أفراد الجماعة بعد ذلك الطقس. وهذه هي الفكرة التي طورها عالم الأنثروبولوجيا الشهير فرانسوا جيرار في كتابه عن “العنف والمقدس”.

بهذا المعنى، فوفاة الشرير في الميلودراما ليست مجرد عقاب أخلاقي، بل هي عملية شعائرية تطهيرية تهدف إلى طمأنة الجماعة. ونظرية كهذه قد تجعلنا نعيد النظر في تاريخ الميلودراما السينمائية الكلاسيكية. يمكننا أن نرى في الشرير، إذاً، جزءًا من طقس لا يكتمل بدون عقاب الشرير. وهذا الطقس ركيزة من ركائز عملية “التعزية والطمأنة” التي تسعى الميلودراما إلى المداومة عليها، في إطار وظيفتها الاجتماعية.

ربما كان زكي رستم، في أدوار الشر، تجسيداً مهماً لذلك النمط الذي يلعب في محصلة الأمر دور “كبش الفداء”. يلفت النظر، في مجموع أدوار الشر التي أداها زكي رستم، دور تاجر المخدرات في “رصيف نمرة خمسة” (1956)، ودور الزوج القاسي في “أين عمري؟” (1956)، ثم في “نهر الحب” (1960). لم تكن أدوار زكي رستم هنا أدواراً درامية فقط، بل كانت لها أبعاد طقسية. كان يؤدي دور الشرير الذي يمثل في الفيلم دور “الذبيح”، الذي يضحى به -بطريقة عادلة بمعنى من المعاني- لتنقية الجماعة من الشرور.

***

في “رصيف نمرة خمسة” لم يكن “رستم”، تاجر المخدرات، مجرد شرير عادي، بل كان رمز الخائن الذي يسمح للقوى الخارجية بتسميم الأمة بهدف إضعافها والسيطرة عليها. أما رمزية قيام الجاويش فريد شوقي بالتصدي له، (وليس الملازم أو الرائد، ناهيك عن اللواء)، فهي رمزية واضحة، تتضافر وتتقدم جنبا إلى جنب مع قيام إسماعيل يس بتجسيد أدوار الفرد والعريف والجاويش في أفلام الجيش والطيران والأسطول.

في الخمسينات، كانت دولة التحرر الوطني تبني صورة ابن البلد النموذجي والبطل الشعبي الخارج من الطبقات البسيطة والبورجوازية الصغيرة، وهو يخوض صراعا ملحميا في مواجهة أشرار خارجين على القانون والوطنية خارقين للعادة، متعاونين مع الخارج، مثل زكي رستم. لهذا، كان زكي رستم مهما لإبراز استقامة وبطولة (ابن البلد/ابن الثورة)، الذي يقف نداً للشرير، (الجاويش في “رصيف نمرة خمسة” أو الضابط في “نهر الحب”).

تحول زكي رستم من الموظف الطيب في “معلش يا زهر” (1950)، والطبيب النبيل الذي يستسلم للغواية ثم يتوب في “موعد مع إبليس” (1955)، إلى تاجر المخدرات في “رصيف نمرة خمسة”، وإلى الباشا في “نهر الحب”، يمكن تفسيره بأنه يؤدي دور الطيب أو الشرير بما يؤثر في جمهور ما بعد ثورة يوليو 1952، في إطار سياق يسعى فيه المجتمع إلى تهدئة النفوس بعد تقلبات الثورة وانتفاضاتها العنيفة.

وعلى كل حال، فتراوح زكي رستم بين أدوار الطيب والشرير في الخمسينات والستينات، وتحول فريد شوقي من أداء دور الشرير في الأربعينات إلى البطل الشعبي في الخمسينات، ليست مسألة تواريخ شخصية لمسارات النجوم الفنية، بل علامات على أن النجوم لا يهتمون بمواقعهم من المنظومة الميلودرامية. لا يهم أن يلعب الممثل دور الطيب أو الشرير، بل المهم أنه يلعب دورا ما في المصفوفة الميلودرامية. المهم أنه يشارك في إنتاج واستهلاك فائض العاطفية العالي الذي يلزم ويتلازم مع صعود الخطاب القومي.

التضحية بالأب وبالقديم

ميلودراما الخمسينات والستينات تلازم مرحلة التحرر الوطني، وتزدهر فيها ملامح “أب غائب” أو “ميت”، أب يضحي به الفيلم كمعادل لاهتزاز صورة الأب/ الملك أو العرش الذي أطاحت به الثورة، أو كمعادل لرحيل الأب/ الاستعمار البريطاني. من بيده السلطة، وضامن القانون، ومصدر النعم والأرزاق في العصر الملكي، يختفي ويترك فراغاً مقلقاً تتفاوض الميلودراما معه لتخفف من وطأته.

في “رصيف نمرة خمسة” لا نرى أبا لفريد شوقي. ليس فقط الأب/العرش هو الذي يموت لتقوم الجمهورية، بل هو أيضا الأب من مرحلة ما قبل التحرير. في “رصيف”، لا وجود فيه لأب يعادل العرش ولا لأب يعادل “ابن البلد”. ابن البلد يظهر في عالم لا أب فيه ويعمل كفرد أو عريف أو جاويش. لا نرى الضابط إلا لماما في الفيلم، بينما صورة الضابط ملء السمع والبصر في المجال العام وفي الصحافة منذ يوليو 1952.

لكن هناك صورة أخرى لإقصاء الأب وقتله، وهي تخصيص دور الشرير له. أما “الأب الشرير” في سينما الخمسينات والستينات، فهو زكي رستم بامتياز. في “رصيف”، ينتحل زكي رستم موقع الأب، بوصفه في أواسط العمر ومعلما صاحب تجارة، وغريمه من طبقة قريبة نسبياً منه، هو العريف والجاويش.

***

في “نهر الحب” زكي رستم هو الزوج الأكبر سناً، وهو “الأب المعادل للعرش الملكي”، الذي يشغل منصباً مرموقاً في المجتمع، وغريمه في فيلم عز الدين ذو الفقار هو الضابط عمر الشريف. ورغم أن الضابط في الفيلم هو الذي يتجاوز الحدود ويقع في غرام سيدة متزوجة، ورغم أن الرجل الأرستقراطي هو زكي رستم الزوج الشرعي المخدوع، إلا إن الفيلم يقدم الضابط بوصفه الطيب والزوج بوصفه الشرير، لأن الضابط هو الذي يحمي الزوجة المعذبة ويقدم لها الحب والحماية. الحب وحرية المرأة هما اللذان يخلقان هذا القلب للموازين الأخلاقية. وهذه هي الحداثة التي ترعب الملايين من المصريين.

لا يبدو أن فاتن حمامة قد انتحرت في النهاية، مثلما في رواية تولستوي “آنا كارنينا”، لكنها تموت تحت عجلات القطار فيما يبدو حادثاً، وهي الميتة التي تختم معظم الاقتباسات السينمائية العالمية للقصة.  بهذه الوفاة، يعتدل الميزان الأخلاقي، وهكذا بين صفوف جماهير المشاهدين يهدأ روع من تروعه انقلابات الحداثة على صعيد الأخلاق، إذ يرى الزوجة تختار أن تحب رجلا غير زوجها فقط انصياعا لعاطفة الحب.

***

ينتهي الفيلم وقد انتصرت “الظروف” للأخلاق، بشكل جزئي. حيث تموت “الخائنة”، لكن دون إدانة حقيقة لها، ودون إدانة لحبيبها الضابط.  فالحب والانتماء للشباب وللجيش هي مصادر الشرعية والأخلاقية في الفيلم. بل إن مفتتح الفيلم وخاتمته يسودهما صوتان من خارج الكادر، يربطان بين الربة إيزيس بوصفها إلهة للحب، وبين شخصية فاتن حمامة/آنا كارنينا. أي أن الضحية هنا هي إيزيس، كأم تموت لكي يعيش ابنها مغسولاً من عارها، وكحبيبة لا يتوجه حبها للزوج العجوز كما في القصة الفرعونية، بل يتوجه على العشيق الشاب المنتمي لمؤسسة حداثية تدفع عجلة التحديث في البلاد.

بهذا المعنى الذي يقلب الأدوار الأسطورية، وينتصر لمؤسسات التغيير السياسي في البلاد، “فنهر الحب” فيلم ثوري. وهو فيلم ملتبس، لأن الأب يزاح بوصفه شريرا لا يتحمل الحب ولا الشباب، ولأن الأم تزاح، لكن دون إدانة أخلاقية كاملة، ولا تمجيد لا تشوبه شائبة لتصرفاتها.

الشر وفائض العاطفة

لا تقدم الميلودراما شريرا يبث سمومه اعتباطاً، لأن الشر قديم في الأرض، أو لأن معدن الشرير خسيس. الشرير جزء من منظومة بلاغية لم تخترعها الحداثة، لكن وظفتها في سبيل إنشاء فائض عاطفة وفائض مظلومية وهي “عملات” أو “صكوك” النزعة القومية الحديثة. القومية لا تنتج شيئا جديدا، بل “تضارب” على أجساد الناس بإضفاء القيمة عليهم بمجرد وجودهم. أنت مصري ولهذا قيمته، ليس لأنك تنتج كذا أو تقدم كذا للبشرية، بل قيمتك في مجرد وجودك.

هكذا استطاعت الفكرة القومية في أوروبا أن تحشد الولاء للدول القومية الحديثة دون أن تلزم نفسها بتقديم خدمات اجتماعية، وإن دأبت على السعي لتقديم بعض الخدمات للمواطنين. لكن بدلا من التركيز على توزيع الخبز، كانت النزعة القومية تركز على توزيع فائض القيمة العاطفي، الفخر بأننا فرنسيون أو إنجليز، إلخ. إحدى وسائل توزيع فائض القيمة العاطفي هذا كانت الميلودراما. وربما وجدنا في ميلودراما مرحلة التحرر الوطني بمصر معادلاً لتلك الحالة.

اقرأ أيضا:

دموع فريد وشموع «غادة الكاميليا»: الحزن في السينما والحداثة

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.