«الميدان».. ساحة الإمكان

لقد صار ذكر مفردة «الميدان»، استدعاءً لمعانٍ عديدة وعلامات نوعية، تحمل أكثر من دلالة، وتعلن عن قيمة رمزية أو صدى لأحداث ووقائع ذات تمثلات في الواقع. لذا، صار جزءا من الكون، وفضاءً علنيا تحلق بأجنحته جماهير غفيرة، كساحة للتعبير والتحرر، وقلب المدينة الذي يخفق بحكايات ومرويات الكفاح والنضال عبر العصور.

كل ذلك أكسب الميادين صوراً وأشكالاً من البوح، عكست التطورات السياسية والاجتماعية التي استغرقت التاريخ الاجتماعي والثقافي لمصر. حيث أفصحت عن مشاعر وانفعالات حاسمة، اصطحبت بأرجاء البلاد، والتمعت بآفاق مصر المحروسة، حيث تلاشت آفة النسيان التي تطوق الذهنية العربية دائماً.

***

ومن الملامح التي وسمت الميادين اتساعها واكتظاظها ببشر لا يسكنوها، وبنايات شاهقة شبة خالية أو مهجورة من أصحابها. حيث لا أحد يعرفهم، غير أن مقاهي روافد وشوارع الميادين الممتدة احتشدت بحشود من الشبان والفتية، من الصبيان والبنات. حيث احتلت زوايا وأركان وسط البلد مقاهٍ وكافتيريات، تراوح روادها من البسطاء مروراً بالميسورين، وفدوا من كافة أرجاء المدينة. حتى صارت تلك المقاهي محطة يومية للتلاقي، حيث تواشجت العلاقات والصلات. وبرزت نقاط التعبير عن الذات بين الشبان: الغناء، والرقص، والموسيقى، والكتابة، والسينما، والمسرح. شملتهم كل تلك الهموم الراقية، حتى الكتابة والرسومات على الجدران التي تحوطهم.

لتحدث امتدادا جديدا في محاولة لاستكمال حلم ما بعد الهزيمة وتجسيده. صدرت مجلة “جاليري 68” نحو البحث عن مصائر أخرى وتحديات مغايرة، في كافة أشكال التعبير في الفنون والآداب خارج النص الرسمي. وتشكلت كيانات فنية مستقلة “فرقة أولاد الأرض” نموذجاً. كما كتب سعد الله ونوس “حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران”. وكتب سعد الدين وهبة “المسامير” 67 “وسبع سواقي” 68 “وبير السلم” التي صادرتها الرقابة ومنعت من العرض، حيث استشرفت عديد من المسرحيات الهزيمة حيث تفجرت معارك فكرية إثر تناولها قضايا شائكة.

“الفرافير” “والمهزلة الأرضية” ليوسف إدريس وكذلك “المخططين” التي منع تمثيلها ليلة الافتتاح بقرار من شعراوي جمعة وزير الداخلية وأمين التنظيم السياسي آنذاك. فضلاً عن “بنك القلق” لتوفيق الحكيم “وثرثرة فوق النيل” “وميرامار” لنجيب محفوظ.

***

كل تلك التجارب والمحاولات نتاج مخاض طويل، جاء في موعده، دون صلات وتفاعلات مباشرة مع ما حدث في أوروبا في العام 1968. جيل أتى مع تمرده وفرادته وليس مع حركة الموجة الجديدة وحدها. وليس لديه رموز جيفارا أو هوشي منه وحده، بل استلهم نهوضه مع وعيه وإرادته، وصلابته.

إذن بماذا تفسر تدافع الآلاف من أبناء السد العالي لحماية محطة كهرباء السد، حينما تردد أن إسرائيل ستضرب المحطة؟ أو محاولات اشتباكات وصدامات قتالية خارج السرب، نفذها جنود بسطاء في اصطياد طائرة للعدو أو تدمير دبابة.

ومن الظواهر اللافتة، أن ميادين محطات القطار كباب الحديد في القاهرة ومحطة مصر وسيدي جابر في الإسكندرية، حفلت بضجة عارمة وصارت أشبه بسوق كبير وعابرين من شتى أنحاء القطر المصري، من قرى ومدن الدلتا، ومن جنوب الوادي، المسافر والمقيم.

***

ميزت تلك الميادين تناثر المقاهي العديدة، والمطاعم، والمحلات المتنوعة، والأسوار الحديدة التي تطوق ساحات تلك الميادين التي غمرتها الفوضى. وأخرى جرى عليها الاستبعاد من الصون والتطوير، فخلا من الازدحام، كميدان التحرير (الإسماعيلية). حيث تجتر الذاكرة ثكنات الجيش البريطاني بقصر النيل وملاحم الكفاح آنذاك.

وكذلك ميدان الخرطوم، ومحطة الرمل، والمنشية بالإسكندرية. حيث حملت كل تلك الميادين رمزية ملهمة، واستعادة موحية، تقاطعت مع تاريخ من المقاومة والتحدي. حيث دأبت السلطة على قهر ذاكرة متوهجة دوماً، حتى أفرطت في تشييد بنايات البنوك، ومراكز الاستثمار، والفنادق الشاهقة. كل ذلك لوأد ما أنجبت تلك الميادين من لحظات تاريخية.

في تلك الآونة، جرت هجرة من الأحياء والأنحاء التي تدنو من تلك الميادين، للعمل في المركز لسعة العيش والرغد. وأتت من الأقاليم المجاورة عمالة غفيرة، تتردد على القاهرة صباحا وتعود في آخر الليل. مثلما جاء شبان وسط البلد ومكثوا على المقاهي حتى مطلع الفجر. كل هذا الزخم، مثل يقظة ووعى بالأخطار التي تلازم البلاد.

اقرأ أيضا:

«غارة» الصحافة على الوزارة

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.