«الممشى السياحي لقناة السويس».. التاريخ مكانًا للتنزه

في قلب مدينة بورسعيد، وعلى ضفاف قناة السويس الأسطورية، يقف «الممشى السياحي» شاهدًا على عبق التاريخ المصري وروح التطوير الحديث. هذا الشريط الحضاري الممتد بمحاذاة المجرى الملاحي لا يمثل مجرد متنفس ترفيهي للمواطنين والزائرين، بل يُعد لوحة فنية مفتوحة تحاكي ذاكرة المدينة، وتعيد إحياء مجدها العريق كنافذة بحرية وثقافية لمصر على العالم.
بدأت ملامح الممشى السياحي تتشكل بالتوازي مع إنشاء مدينة بورسعيد بعد حفر قناة السويس، حيث كانت المنطقة مجرد رصيف وسور حديدي يفصل المارّة عن المياه الزرقاء، وتزين ضفته تماثيل وأبنية بحرية ومراسي تاريخية.
من جذور المجد إلى عصر التحديث
مع مرور الزمن، أصبح الممشى مقصدًا تجاريًا واجتماعيًا، تتنوع أسفله المحال بين مبيعات الهواتف والمطاعم والمثلجات.
وفي ظل توجهات الدولة نحو التنمية المستدامة وتطوير الواجهات البحرية، أطلق مشروع شامل لتطوير الممشى على مراحل. بدأت بتأهيل رصيف الميناء السياحي، ثم امتدت إلى الممشى ذاته. حيث أعيد تصميمه ليعكس وجهًا عصريًا يليق بتاريخ بورسعيد وموقعها العالمي.
يمتد الممشى من مرسي المعديات على ضفة قناة السويس جهة مدينة بورسعيد، وصولا إلى قاعدة تمثال “فرديناند ديليسبس” عند الميناء السياحي. وهو ينقسم إلى محاور رئيسية تربط بين ساحة مصر والميناء: محور بمحاذاة قناة السويس لمتابعة حركة السفن، محور يربط المناطق السياحية ببعضها. محور للخدمات الترفيهية (مطاعم، أكشاك، كافيهات)، ومطعم شرقي عالمي على الممشى.
ممشى ديليسبس.. مسار يحكي الحكاية
يُعد شارع فلسطين، الذي يحتضن ممشى ديليسبس، من أهم شوارع مصر التاريخية، ويحمل قيمة رمزية كبرى. يضم الشارع أول فنار خرساني في العالم صممه المهندس “فرنسوا كونيه”. ويجاوره مبنى “القبة” التابع لهيئة قناة السويس، الذي شيده نجله “إيدموند كونيه” على الطراز الإسلامي الفريد.
منذ نشأته، كان هذا الممشى واجهة مصر أمام العالم، يحتضن نصبًا تذكاريًا لـ”فرديناند ديليسبس”. وتمثال “الأنزاك” تخليدًا لمشاركة نيوزيلندا وأستراليا في الحرب العالمية. إلى جانب “سبيل الملكة فيكتوريا”، وفندق “كازينو بالاس” الذي استضاف ملوكا وزعماء مثل غاندي وأم كلثوم. وكان موقعا لتصوير أفلام خالدة مثل “حب ودموع” و”إشاعة حب”.

محمود فشارة: هذا الشارع واجهة مصر الحقيقية
قال الدكتور محمود فشارة، أحد المهتمين بالتراث ومؤسس متحف “حكاية مدينة” الكائن ببيت لهيطة المطل على الممشى السياحي وقناة السويس، في تصريح خاص لـ«باب مصر – بحري»: “أنا ليا وجهة نظر عن الشارع ده. هو من أهم شوارع مصر ويمكن الأهم على الإطلاق. حيث يطل على أهم مجرى ملاحي، هو واجهة مصر للعالم”.
وأوضح أن الشارع كان يعرف في بدايته بـ”رصيف فرنسواه جوزيف”. ثم أصبح “شارع فرنسواه جوزيف”، ويضم أول فنار تم بناؤه بتقنية الخرسانة المسلحة في التاريخ من تصميم المهندس “فرنسوا كونيه”. ويوجد به مبنى القبة التابع الذي يعد من أبرز معالم بورسعيد.
وأشار إلى أن الشارع احتوى على عدد من النصب التذكارية، منها تمثال ديليسبس الذي كٌتب أسفله “فتحنا الأرض للسلام”، وتمثال “الأنزاك”. مما يدلل على أن هذا الشارع كان مخصصا لعرض رموز العالم أمام من يمر عبر قناة السويس.
سبيل الملكة فيكتوريا
أضاف “فشارة” أن الشارع ضم أيضا “سبيل الملكة فيكتوريا”، الذي تم تشييده في ذكرى مرور 60 سنة على توليها حكم بريطانيا. وكان به أيضا “مول سيمون أرزت” الذي يحتوي على أكبر المحال التجارية. وفيه إعلانات توضع على العمارات حتى للماركات العالمية، التي لا توجد في بورسعيد ولا مصر كلها سوى به فقط. لكن الذي يضع إعلان هنا العالم كله يراه. وهذه فكرة من الضروري أن يتم استغلالها وإعادتها مرة أخرى.
ولفت إلى أن الشارع احتوى أيضا على فندق “كازينو بالاس” الذي شهد زيارات نزلاء من الأمراء وملوك العالم مثل “الزعيم الماهيتاما غاندي، وكوكب الشرق أم كلثوم، وملك السعودية. وتم تصوير فيه فيلم “حب ودموع لفاتن حمامة وأحمد رمزي، وفيلم إشاعة حب. وأردف: “باختصار كل الدنيا كانت هنا، تم إزالة كل التحف هذه، وأنشأت محلات تجارية لبيع الهواتف المحمولة وبعدها تم إزالتها وعودته مرة أخرى كسور بشكل وطراز حديث”.

تطوير شامل يليق بتاريخ المدينة
انطلقت أعمال تطوير الممشى على عدة مراحل، أولها رصيف الميناء السياحي ثم الممشى نفسه. حيث تم هدمه وتطوير السور الذي يسمح برؤية مياه المجرى الملاحي لقناة السويس، ووضع مسطحات خضراء وكراسي ذات طراز فريد وإضاءة مميزة على أحدث مستوى. مع إزالة حديقة التاريخ وتصميم ساحة مصر، التي يتوسطها تمثال كبير مقابل لباب رقم (1) لميناء بورسعيد السياحي.
وفي إطار التطوير، التقى محافظ بورسعيد السابق اللواء عادل الغضبان بعدد من أصحاب المطاعم لمناقشة إنشاء مطعم شرقي بتصميم عالمي فريد. يضاهي المطاعم الأوروبية، في موقع استراتيجي نادر على مدخل قناة السويس. وذلك بالتعاون مع الأجهزة التنفيذية وممثلي قطاع السياحة.
استرداد حقوق الدولة وتنظيم الاستخدام
أصدرت محافظة بورسعيد بيانًا بشأن المحال التجارية أسفل الممشى السياحي، أوضحت فيه انتهاء عقود التشغيل، ووجود مديونيات تقدر بـ3 ملايين جنيه. وقد أمهل الجهاز التنفيذي شاغلي المحال لإخلائها تمهيدًا لإعادة تطوير شارع فلسطين وفتح الرؤية البصرية نحو القناة. ضمن مخطط إعادة بورسعيد على الخريطة السياحية العالمية.
استكمال التطوير بتكلفة 180 مليون جنيه
تم تنفيذ مشروع تطوير الممشى السياحي في بورسعيد على 3 مراحل. استغرقت كل منها عدة أعوام من التطوير ورفع الكفاءة. وقد أنجزت المرحلة الثالثة مؤخرا بتكلفة إجمالية 180 مليون جنيه، على امتداد 1.2 كم. وبتصميمات حديثة تراعي الطابع التاريخي للمنطقة.
شملت أعمال التطوير استخدام بلاطات إنترلوك مقاومة للعوامل البيئية، وتركيب مقاعد وخدمات عصرية. إلى جانب توحيد واجهات المحال التجارية، وتنسيق حضاري مع مساحات خضراء وأعمدة إنارة ملكية.
كما شهد الافتتاح عروضًا رياضية واحتفالات شعبية تفاعلية امتدت حتى “ساحة مصر”، بالتزامن مع الذكرى الـ12 لثورة 30 يونيو. في إشارة إلى استمرار التنمية والتطوير.

ساحة مصر.. بين الأصالة والمعاصرة
من بين الأماكن والمتنزهات الهامة التي تم تغييرها وتطويرها بالكامل “حديقة التاريخ”، التي كانت تقع في مقابل بداية الممشى السياحي أمام باب رقم (1) لميناء بورسعيد السياحي. كانت الحديقة تحتوي تضم أنواعا من الزهور النادرة ومسرح روماني صيفي مكشوف تقام عليه الفعاليات الثقافية والفنية المختلفة.
وقد تحولت هذه الحديقة إلى “ساحة مصر”، والتي أٌنشئت على مساحة 2100 م². وتضم تمثالًا مهيبًا لامرأة مصرية تحمل قرص الشمس، بارتفاع يتجاوز 20 مترًا، في مشهد رمزي يعكس كفاح المصريين خلال حفر القناة. ويحيط بالتمثال نافورة مضيئة بقطر 7 أمتار، ومساحات للجلوس ومطاعم وكافيهات. ضمن رؤية فنية متكاملة تربط الماضي بالحاضر.
حديقة التاريخ.. من مزار شعبي إلى “ساحة مصر”
كانت تعرف سابقًا بـ”حديقة التاريخ”، وتقع أمام مبنى ديليسبس التاريخي. وتحوّلت إلى “ساحة مصر” ضمن مشروع “حدائق بلا أسوار”. واحتفظت الحديقة بهويتها الشعبية، لكنها ارتدت ثوبًا عصريًا، يتضمن إضاءة ديكورية، مسارح مفتوحة، ونقاط جذب للفعاليات الثقافية.
اقرأ أيضا:
«فنار بورسعيد».. أول صرح خرساني في العالم على ناصية التاريخ والملاحة