المسرح السكندري.. تاريخ غني بالإبداعات الفنية

“الإسكندرية مركز الفنون والثقافة”، هكذا كانت تلقب عروس البحر في الماضي، فمنها انطلق الكثير من الفنون، من بينها السينما والمسرح، الذي وضع لبناته الأولى الإغريق وارتبط وقتها بالطقوس والعادات الدينية.

ومع ظهور المسرح المصري الحديث كان للمسرح السكندري دورا بارزا في الحركة المسرحية والفنية في مصر، حتى أن كثيرا من المسرحيين في القرن الماضي مثل نجيب الريحاني وإسماعيل يس كانوا يختبرون نجاح مسرحياتهم بعرضها في الإسكندرية.

تاريخ

أورد كتاب “المسرح المصري في القرن التاسع عشر”، تأليف فيليب سادجروف، ترجمة عمرو زكريا، أن المسرح عرف في مصر في شكله الحديث مع دخول الحملة الفرنسية على مصر وذلك على أيدي مجموعة من فرق الهواة الأوروبية لتسلية قوات الحملة، وقبل قدوم الحملة إلى مصر كان هناك أشكالا من الدراما العربية الشعبية الموجودة في مصر متمثلة في فن “ألأراجوز” و”خيال الظل”.

وقدم الفرنسيون العروض التمثيلية أيام حملتهم على مصر وأقاموا مسارحهم الخشبية للترويح عن جنودهم، ولم يمنع اهتمام المصريين بالفرجة الشعبية من مشاهدة هذه العروض المسرحية، وبعد فشل الحملة الفرنسية على مصر لم ينقطع الاتصال بين مصر وأوروبا وكان لها أكبر الأثر على فن المسرح في مصر.

بداية

بدأت الحركة المسرحية في مصر بطريقة مختلفة، من خلال ترجمة نصوص كلمات الأوبرا لتجعل الأوبرا الإيطالية متاحة بشكل أكبر للجمهور العربي والتركي وكانت أول ترجمة من هذا النوع، ترجمة أوبريت أوفينباخ “هيلين الجميلة” نشرت في منتصف القرن التاسع عشر وكانت تحت إشراف رفاعة الطهطاوي.

ووفقا لكتاب “سنوات المجد والدموع”، تأليف راوية راشد، فإنه في عهد الخديوي إسماعيل كانت البداية الحقيقية للفن المسرح في مصر، فقد ظهر فيه العديد من الرواد المسرحيين من بينهم، سليم نقاش، ويعقوب صنوع.

وكان لترجمات رفاعة الطهطاوي دورا بارزا في إثراء الدراما المسرحية في مصر، وتم افتتاح العديد من المسارح والساحات المسرحية في القاهرة والإسكندرية، منها في القاهرة مقهى كبير بـ”حديقة الأزبكية” أطلق عليه المصريون “مقهى الكازينو” ملحق بساحة صغيرة كان يقدم عليها بعض الممثلين الأجانب بعض المشاهد التي تعتمد على المفارقات الساخرة، إضافة إلى الانتهاء من إنشاء دار الأوبرا.

وفي الإسكندرية، أعيد افتتاح المسرح الأوروبي الذي أقامه الفرنسيين إبان الحملة الفرنسية في الإسكندرية، وموقعه مسرح سيد درويش الآن، ثم أقيم بعد ذلك ثلاثة مسارح أخرى “زيزنيا”، “فيتوري”، “روسيني”.

وأحدث يعقوب صنوع وبعده الفنان جورج أبيض ويوسف وهبي ونجيب الريحاني نهضة في فن المسرح والإخراج المسرحي في مصر.

سيد درويش وسلامة حجاز

ذكر كتاب “الأغاني الحلوة والأغاني المرة وأساليب التلحين العربي” أنه كان للفنان الشعب سيد درويش والفنان سلامة حجازي دورا في إثراء المسرحية والغنائية ما يعرف بالأسلوب التعبيري في التلحين، وكانا هما أهم رواده في مصر، وأيضا كان لتعاون بديع خيري في كتابة الأوبريتات مع سيد درويش و نجيب الريحاني أثره على الأوبريتات المسرحية.

وبعد ذلك كان لإنشاء الفنان زكي طليمات أكاديمية الفنون دورا في إثراء الحركة المسرحية بفنانين أكاديميين من خريجي المعهد.

الحركة المسرحية السكندرية

“إحنا عاصرنا المسرح السكندري بداية من عام 1965، وسبقونا كان د.أبوالحسن سلام وحسين جمعة، هما أخرجا عرض الإسكندر الأكبر في المسرح الروماني”، هكذا بدأ عماد خطاب، فنان سكندري من هواة المسرح ومؤسس صفحة فنانون سكندريون بين الماضي والحاضر بفيسبوك، حديثه عن تاريخ الحركة السكندرية التي عاصرها.

وتابع: “في هذه الفترة كان في ازدهار في المسرح، كان ينقسم لأكثر من جهة، مسرح الثقافة الجماهيرية، المسرح العمالي، مسرح الجامعة، المسرح المدرسي الذي كان يخرج به مخرجين كبار وكان في مسابقات وأكثر المخرجين المشاهير في هذه الفترة، كان سيد الدمرداش وكان في هذا الوقت اللي ماسك التوجيه المسرحي الفنان عثمان محمد علي، وأيضا كان في مسرح الشركات، الذي كانت في أغلب المسابقات يحصل فريق الإسكندرية على المركز الأول، وأيضا في مسرح الجامعة كانت تقام المسابقات وهذا المسرح هو الذي أخرج النجوم مثل الفنان محمود عبدالعزيز ويوسف داوود”.

وأضاف خطاب، “كنا ولاد صغيرين بنطلع على قصر ثقافة الأنفوشي في بحري وقصر ثقافة الحرية وأذكر أنه من أنشط فترات الثقافة في الإسكندرية عام 1970م، عندما تولى الفنان فاروق حسني رئاسة قصر ثقافة الأنفوشي قبل أن يصبح وزيرا، وتولى محمد غنيم وكيل وزارة الثقافة للعلاقات الخارجية، فقد قاموا بعمل أوبريت “ليلة من ألف ليلة” باستخدام موسيقى حية بطولة مطرب سكندري هو إبراهيم الملاح والمطربة نادية صلاح من إذاعة الإسكندرية، وكان الأوبريت تأليف بيرم التونسي وضم أكثر من 50 أو 60 ممثلا وأحدث وقتها ضجة ونجاح كبير”.

الفنان عماد خطاب

ونوه خطاب بأنه إبان فترة النكسة كان هناك المخرج سيد حافظ في قصر ثقافة الحرية، وهو من أطلق تجربة المسرح الطليعي وجمع الطلبة من هواة المسرح، وكنا نلقي مجموعة من القصائد الوطنية ونغنيها لتحفيز ورفع الروح المعنوية.

ولحن الأغنية حمدي رؤوف، وكان يأتي إلينا جمهور يصل إلى 200 فرد، وأيضا من العلامات والعروض المسرحية في فترة السبعينات كان عرض “سعد اليتيم” بقصر ثقافة الأنفوشي الذي أخرجه د.أبوالحسن سلام، مؤسس قسم المسرح بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، وجاء بعد ذلك الفنان عبدالغفار عودة الإسكندرية، وأسس المسرح المتجول أو مسرح الغرفة، وكانت عروضه في مسرح سيد درويش، وأيضا أخرج د.هاني مطاوع عرضا بالإسكندرية، والفنان فهمي الخولي، وقدمت فرقت الإسكندرية أكثر من 30 عرض.

واختتم الفنان عماد خطاب حديثه عن خططه الثقافية القادمة، وقال إنه سبق له قبل أزمة كورونا عقد لقاءا ثقافيا تحت عنوان “صالون في الشارع” لنقل فكرة الثقافة الفنية إلى الشارع باستضافة 100 فنان في مجالات مختلفة في مقهى، وسيكون اللقاء القادم الذي تأجل بسبب أزمة الوباء تحت عنوان “المسرح السكندري على مدار 50 عام”.

ويوضح  الدكتور جمال ياقوت، أستاذ المسرح بكلية الآداب جامعة الإسكندرية ومخرج مسرحي ومؤسس مهرجان مسرح بلا إنتاج، أن هناك عدة عوامل جعلت من الإسكندرية ذات طابع مميز في الإبداع الفني بشكل عام والإبداع المسرحي بشكل خاص، ومن تلك العوامل العامل البيئي ووجود البحر الذي يحفز على الخيال، الإسكندرية بحكم موقعها الجغرافي هي مدينة متعددة الثقافات عاش بها جنسيات متعددة جعلت أهلها على وعي ثقافي كبير، كما أنه يوجد مؤسستين تعليمتين للمسرح متمثلة في المعهد العالي للفنون المسرحية فرع الإسكندرية وكلية آداب قسم مسرح.

وتابع: معظم المسرحيين السكندريين مهمومون بفكرة الذات، دائما تجدهم يتحدثون عن أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية،كما يوجد بينهم فكرة تواصل الأجيال، فالجيل الجديد يتعلم من القديم، كما أن معظم المسرحيين السكندرين يمارسون المسرح لأنهم يحبوه ولذلك يخلصون له ويخرجون فيه أفضل مالديهم وأنا شخصيا رغم أني أصنف من المحترفين أحب العمل مع الهواة.

وعن أهم المراكز التي أثرت الحركة المسرحية في الإسكندرية يشير “ياقوت” إلى أن الجهات التي تمارس المسرح في الإسكندرية محدودة وتعتبر قصور الثقافة ونوادي المسرح التي تعتبر التجارب الأهم لأنها تتيح فكرة التجريب والخروج عن المألوف فيها مساحة حرة للشباب للإبداع، وأرى أن تجربة نوادي المسرح هي التي أخرجت لنا الكثير من الممثلين الكبار الموجودين على الساحة الفنية إضافة إلى المسرح الجامعي.

فرقة الإسكندرية

“المسرح أبو الفنون يمثل لي حياتي وعشقي كله الأول والأخير، فهو إلى جانب الميديا المتمثلة في السينما والتلفزيون للمسرح مكانة كبيرة وهو المتعة الحقيقية للفن التمثيل بالنسبة لي”، هكذا استهل الفنان إسلام عبدالشفيع، فنان في فرقة الإسكندرية التابعة للبيت الفني للمسرح، حديثه عن عشقه المسرح، مضيفا “بيختلف عن السينما والفيديو إنك في حالة من التدفق والتواصل المشاهد بتسلم بعض داخل الحالة بعيدا عن السينما التي تفتقد هذا التواصل، لكن أيضا لها متعتها”.

الفنان إسلام عبدالشفيع بفرقة الإسكندرية التابع للبيت الفني للمسرح

وأشار عبدالشفيع إلى أن المسرح السكندري له مكانة خاصة وذكريات تربيت عليها، فمنه انطلقت موهبتي بداية من المسرح المدرسي عندما كنت تلميذا، بعد ذلك اشتركت بالتمثيل في فرق المدارس في التربية المسرحية التابعة لإدارة شرق التعليمية حتى وصلت الآن أني تخرجت في المعهد العالي للفنون المسرحية قسم تمثيل وإخراج، وأعمل في فرقة الإسكندرية المسرحية التابعة للبيت الفني للمسرح.

وتابع: للحركة المسرحية في الإسكندرية تاريخ طويل جدا وللعلم فرقة الإسكندرية موجودة من زمان من التسعينات تقريبا وكان مقرها مسرح “سيد درويش” قبل أن يصبح دار أوبرا الإسكندرية حاليا، وبعد ذلك تعرضت الفرقة في فترة للغلق، بعد ذلك تشكلت مرة أخرى بعد وجود خريجين مسرح من الإسكندرية منذ عدة سنوات.

وأوضح أن الحركة المسرحية السكندرية ليست قائمة فقط على البيت الفني للمسرح، لكن متمثلة أيضا في الهيئة العامة لقصور الثقافة، متمثلة في نوادي المسرح وفرق القصور والفرقة القومية الخاصة بالإسكندرية وفرق مركز الشباب والجامعة، كل هذا يوضح أن لدى الإسكندرية حركة مسرحية قوية لا يختلف عليها أحد وتحقق نجاحات كثيرة في المهرجانات داخل مصر وخارج مصر وهذا من زمن حتى الآن.

وذكر الفنان أنه بالنسبة للعروض التي أتذكرها وتركت أثر طيب لدي من الحركة المسرحية السكندرية، هناك العديد منها وأتذكر في فترة كنت طالبا في المدرسة، عرض للراحل الفنان عادل شاهين مسرحية في قصر ثقافة الأنفوشي أو الحرية تحت عنوان “عريس لبنت السلطان”، و”الملك هو الملك”، “جبال الحديد” إخراج وبطولة محمد السيد، فكانت هذه العروض وغيرها بمثابة المعلم الذي شكل وجداني وساعد على تنمية موهبتي.

المسرح العمالي 

يحكى سعيد الصباغ، فنان مسرحي سكندري ومصحح لغوي، عن تاريخ المسرح العمالي في الإسكندرية، أنه بعد قيام ثورة يوليو 1952 بدأ انتشار القطاع العام وازدياد عدد الشركات، وعند تشكيل إدارات تلك الشركات تم إدراج نادي باسم “لجنة نشاط العاملين” بكل شركة يمارس العمال فيه كل الأنشطة “رياضة – موسيقى – مسرح – ندوات أدبية”.

وتابع: تم  إنشاء فرق مسرحية في كل شركة تعرض نشاطها المسرحي على جماهير العمال سواء كان داخل قاعة بالنادي أو خارجه بمسارح كبيرة (إسماعيل يس- بيرم التونسى- الأنفوشى).

من روائع المسرح السكندري العمالي
من روائع المسرح السكندري العمالي

وفي عام 1966م وقعت وزارة الثقافة بروتوكولا مع وزارة الصناعة، لدعم وانتشار الحركة المسرحية، فتولت وزارة الثقافة عمل مسابقات بين الشركات، ثم بدأت العروض تنتقل إلى الإسكندرية وبمناسبة عيد العمال من كل عام في شهر مايو تتم تصفيات عروض المسابقة على مسرح سيد درويش.

وأضاف الصباغ  أنه من أبرز المخرجين السكندريين الذين ظهروا من هذا المسرح، سيد خطاب شركة باتا، عبدالسلام عبدالجليل ستيا، محمد يوسف هيئة البريد، محمد قنديل شركة البترول، سعيد الصباغ، ش إسكندرية للزيوت، المستخلصة الغذائية.

واختتم الفنان المسرحي بقوله: “للأسف  في منتصف التسعينات بدأت فكرة خصصت شركات القطاع العام، التي أدت إلى انتهاء الحركة المسرحية العمالية ولم تنهض حتى الآن”.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر