المستشفى الإيطالي بالقصير.. من صرح علاجي إلى منارة للتعليم والتراث

ما إن تخطو أولى خطواتك في الشارع المؤدي إلى المستشفى الإيطالي بمدينة القصير، حتى يأسرك مشهدٌ مختلف تمامًا عن الملامح المعتادة لتلك المدينة التي تتشح بروح الطراز الإسلامي. حيث يبرز مبنى استثنائي بلون أصفر دافئ، يلمع تحت شمس البحر الأحمر كوميضٍ ذهبي يخطف الأبصار قبل القلوب.
مبنى تحمل جدرانه حكاية حضارة جاءت من الضفة الأخرى للبحر، لكنها امتزجت بروح الشرق. فالهندسة المعمارية تجمع بين صلابة الحجارة المحلية ورقة الأقواس المستوحاة من الطراز الإيطالي. في تناغمٍ بديع يعكس لقاء ثقافتين على أرض القصير، لقاء الشرق الساحر بالذوق الغربي الرفيع.
النشاة ومراحل التحول
“قصة المستشفى الإيطالي ليست مجرد حكاية عن مبنى عتيق، بل عن روحٍ عاشت أكثر من قرن، تنبض بالحضارة الأوروبية وتتنفس من هواء البحر الأحمر”، هكذا قال الدكتور طه حسين الجوهري، المؤرخ والباحث في تاريخ مدينة القصير.
وأوضح الجوهري أن هذا الصرح شيد في مطلع القرن العشرين، وتحديدًا عام 1912م، على يد مهندسين إيطاليين تشربوا من فنون عمارتهم القديمة. فانعكست بأناملهم على كل حجرٍ من جدرانه. كان البناء في بدايته كنيسة كاثوليكية خصصتها شركة الفوسفات الإيطالية لمهندسيها وعمالها. ليؤدوا فيها شعائرهم الدينية وسط مدينة تتوسد البحر والرمال.
كانت الكنيسة – كما وصفها الجوهري – قاعة فسيحة تشع بالسكينة داخل مبنى المستشفى. تتسلل إليها أشعة الصباح عبر نوافذ عالية تملأ المكان بحالة روحيةٍ آسرة. ومع مرور الزمن، تحول المكان تدريجيًا إلى عيادة خارجية تخدم أهالي القصير، فبدلت الجدران وظيفتها، لكنها احتفظت بخشوعها الأول.
ويضيف الجوهري أن راعي الكنيسة كان يقيم في الطابق العلوي من المبنى. حيث تعلو الواجهة مظلة خشبية يتدلى منها ناقوس كان صوته يعلن بدء القداس كل صباح. وعلى الناصية، وضعت ساعة فريدة التصميم، تتكوّن من مربعين متداخلين، تجسّد الدقة الإيطالية والذوق الرفيع.

على الطراز الكلاسيكي
أما عن طراز البناء، فيؤكد الجوهري أن شركة الفوسفات الإيطالية شيّدته على الطراز الكلاسيكي الممزوج بلمسة متوسطية، ببوابة ضخمة تقود إلى غرف رحبة ونوافذ شامخة. وكأنك تدخل عالمًا مهيبًا يلفه السكون. عالمٌ يسمع فيه البحر صوتك قبل أن يسمعه الناس، وتشعر داخله أن الزمن توقّف احترامًا لجلال المكان.
تخطيط المستشفى.. عمارة تتنفس الضوء وتروي الأسرار
يقف المستشفى الإيطالي بمدينة القصير كتحفةٍ معمارية نادرة، تدهشك منذ اللحظة الأولى، فالمبنى يبدأ بمدخل يشبه بوابات قصور الأساطير. ضلفتان نصف دائريتان تنفرجان ببطء لتقوداك إلى عالم آخر، تتداخل فيه الهندسة الإيطالية بالفخامة الشرقية.
تبلغ مساحة الصرح نحو ستمائة متر مربع، ويتكوّن من طابقين يرويان بفخامتهما عبقرية التصميم ودقّة التفاصيل. في الطابق الأرضي تمتد قاعات فسيحة ذات أسقف مرتفعة. تتخللها نوافذ ضخمة تمتد من الأرض حتى السقف، تسمح لضوء الشمس بأن يغمر المكان في حوارٍ صامتٍ بين الظلال والنور. ويمتد في منتصف المبنى ممر طويل يفصل بين القاعات. يقودك في نهايته إلى سلمين متقابلين تبدأ كل درجة فيهما من ساحةٍ مكشوفةٍ للسماء. تحيط بها أسوار خشبية عتيقة ما زالت تحتفظ بملمس الزمن القديم ورائحته.
وفي الطابق العلوي، تتوزع الغرف الواسعة بطرازها الإيطالي، بنوافذها الكبيرة التي تطل على الأفق كعيونٍ متأملة. وتذكرك سلالمها الصغيرة في بدايات كل غرفة بعراقة القصور القديمة. أما دورات المياه الداخلية، فهي رحبة الجوانب، عالية السقف، تتسلّل إليها أشعة الشمس من كل اتجاه، فتغدو الإنارة الطبيعية جزءًا من التصميم ذاته، لا مجرد إضافة معمارية.
إنه مبنى يتنفس الضوء، ويروي في صمته حكاية مبني يأبى الاختفاء، تنبض كل عناصره من حجر وخشب وزجاج، لتبقى القصير شاهدةً على زمنٍ مرّ لكنه لم يرحل.

المستشفى الإيطالي.. شاهد على قرن من التحوّلات
يقول عادل عايش، رئيس مجلس إدارة جمعية المحافظة على التراث بالقصير، إن مبنى المستشفى الإيطالي مر بمراحل متقلبة عبر تاريخه الطويل. لكنه يصر على البقاء وخدمة أهالي المدينة. وأوضح عايش أن المبنى هجر في سبعينيات القرن الماضي، بعد نقل الخدمات الطبية إلى موقع مستشفى القصير القديمة الحالية. فترك خاليًا ومهملاً حتى تحوّل مع مرور الوقت إلى مكب للقمامة، وأصبح عرضة للانهيار، قبل أن تمتد إليه يد الإنقاذ.
وأشار إلى أن الجمعية تسلّمت المبنى رسميًا من شركة الفوسفات عام 1998م، وبدأت أولى خطوات الترميم. حيث تم تنفيذ مشروع تراثي معماري بتمويل مشترك بين مستثمر أجنبي من السويد وشريك مصري هو المحاسب فريد منصور – رئيس مجلس إدارة الجمعية حينها – بتكلفة إجمالية بلغت نحو مليون وثلاثمائة ألف جنيه. عبر شركة متخصصة في ترميم المباني التاريخية.
وأضاف عايش أن المنحة لم تكن لإعادة المبنى فقط لحالته الأولى، بل لإعادته إلى دوره الخدمي. فتم إنشاء مركز للتدريب والتعليم وتنمية مهارات أبناء القصير في مجالي اللغات والكمبيوتر. مع برنامج خاص للأطفال من ذوي الاحتياجات التعليمية الخاصة ( Special Needs).
بعثة تدريبية للسويد
يوضح عايش أن الجمعية أطلقت بعثة تدريبية إلى السويد ضمت 20 شابًا وفتاة من أوائل خريجي كلية التربية بالغردقة، قسم اللغة الإنجليزية عام 1998، لتعلّم أسلوب “التعليم بالممارسة” (Learning by Doing) في مدينة ستوكهولم. واستمرت البعثة لمدة 45 يومًا في إبريل 1999م، تحت إشرافه شخصيًا.
وتابع رئيس الجمعية قائلاً: “عندما عاد أفراد البعثة، فتحنا مركزًا مجانيًا لتعليم أبناء القصير اللغات والكمبيوتر. وخدمنا أكثر من 1200 طالب من أبناء المدينة. وقتها تبرع وزير الاتصالات الأسبق الدكتور أحمد نظيف للمركز بعدد 27 جهاز كمبيوتر دعمًا للمبادرة. التي كانت تُعد الأولى من نوعها في البحر الأحمر”.
ونوه بأن المبنى انتقلت إلى جمعية الهلال الأحمر عام 2005. غير أن الأنشطة توقفت تدريجيًا، حتى أعيدت الأمور إلى نصابها عام 2018 بعد توفيق أوضاع الجمعيات الأهلية على مستوى الجمهورية. فعادت جمعية المحافظة على التراث لتتولى إدارة المكان من جديد.
واختتم حديثه قائلاً: “اليوم لم يعد المستشفى مجرد مبنى قديم،.بل أصبح مركزًا ثقافيًا تراثيًا يضم معرضًا للصور التاريخية، وآخر للحرف اليدوية. إلى جانب صور القطع الأثرية التي استخرجتها الجمعية بالتعاون مع البعثة الانجليزية. والتي بلغ عددها نحو 2500 قطعة، تم وضعها في مخزن البحر الأحمر للآثار بقفط. كما خصص جزء من المبنى ليكون معهدًا لتعليم الفنون والحرف”.

جمعية المحافظة على التراث.. تنعش نبض القصير القديم
من جانبها، تضيف نجاح طايع، مديرة مركز الحرف اليدوية في المركز الثقافي، أنه عقب تحول المستشفى الإيطالي إلى مقر لجمعية المحافظة على تراث القصير، لعبت الجمعية دورًا محوريًا في إحياء روح القصير القديمة. فكانت اليد التي أعادت الحياة إلى بيت الشيخ توفيق، ذلك البيت الذي أصبح منارة سياحية، وامتزج فيه عبق الأصالة مع الحداثة، بأيدٍ حانية وجهود مخلصة.
وأضافت أن الجمعية قامت بترمبم البيت ليعود كما كان، شامخا بحجارته التي تفوح منها رائحة الماضي الجميل. وأكدت طايع أن للجمعية دورا بارزا في ترميم وتجديد قلعة القصير، ذلك الحصن التاريخي العريق. إذ نجحت في أن تستعيد القلعة هيبتها. وتتوهج جدرانها مرة أخرى تحت أشعة الشمس التي لم تفارقها يومًا.
وتصف طايع، مبنى المستشفى قائلة: “يبدو من الخارج كأنه قصر من قصور الأساطير، ببوابته العملاقة التي تفتح لتستقبل الداخلين كأنها فم الزمن. ويشعر من يدخله كأنه في حضرة صمت عميق لا تكسره سوى همسات التاريخ. فكل زاوية وكل غرفة تتحدث عن عصور مضت، وعن أرواح مرت هنا وتركت أثرها في هذا البناء”.
اقرأ أيضا:
«قصر الحكومة العثماني» بالقصير.. من مركز للسلطة إلى أطلال منسية
«مسجد الفرّان».. الحارس الأمين على شاطئ البحر الأحمر
حكاية «مدينة سفاجا».. مناجم الفوسفات وصوت التاريخ العابر للأجيال