المتحف المصري الكبير.. صرحُ انتظره جيلان وشهد تحولات مصر خلال 23 عاما
استمر العمل بالمتحف المصري الكبير على مدار ثلاثة وعشرين عاما، شاهدا على تحولات سياسية واقتصادية وثقافية عميقة شهدتها مصر. تعاقب جيلان في انتظار افتتاحه، إذ انطلقت فكرته في تسعينيات القرن الماضي، وواجه المشروع خلال تلك الفترة العديد من التحديات.
تغيرت خريطة الثقافة في مصر خلال فترة بناء المتحف المصري الكبير، وتعاقب الوزراء وتبدلت أحوال السياحة. لكن ظل المشروع حاضرا باعتباره أطول ملف ثقافي عمرا في التاريخ الحديث لمصر. وبالتزامن مع الاستعداد لافتتاحه رسميا، يرصد «باب مصر» رحلة هذا الصرح الأثري خلال 23 عاما. وتغير وضع المتاحف المصرية بين مرحلة التخطيط للمشروع ولحظة الافتتاح المنتظر.
سبب بناء المتحف المصري الكبير
عرفت مصر المتاحف مبكرا في تاريخها الحديث، ويعد المتحف المصري بميدان التحرير من المتاحف القليلة في العالم التي تم بناؤها لتكون متحفا منذ البداية. ويضم نحو 200 ألف قطعة أثرية من كنوز مصر القديمة. كما يصف الدكتور حسين عبدالبصير في كتابه “أسرار الفرعون الذهبي توت عنخ آمون”.
لكن المتحف المصري بالتحرير – الذي أنشئ عام 1902 – كان قد استخدم لضم مجموعات أثرية تجاوزت سعة أربعة مبان، وسرعان ما امتلأ. مما شكل دافعا للتخطيط لبناء المتحف المصري الكبير كأول متحف مخصص لحضارة واحدة في العالم.
وضع مخازن الآثار
ضم المتحف المصري بالتحرير عددا هائلا من الآثار. لكن جاءت مقبرة توت عنخ آمون عام 1922 لتشكل ذروة تلك الاكتشافات. وفق تقرير منشور بصحيفة “جارديان” البريطانية عام 2008.
ويتابع التقرير: “لم تكن تلك المقبرة سوى صفحة في سجل طويل من الكنوز المصرية. فالمقابر الملكية في تانيس احتوت على أقنعة ذهبية فاخرة وتوابيت فضية. بينما ظل نحو 80 ألف قطعة أثرية في أقبية المتحف، بعضها لم يُفتح منذ عقود”.
ولم يكن أحد يعلم على وجه الدقة عدد الآثار المخبأة هناك. حتى اكتُشف في مطلع الألفية الجديدة أنه لم يُجر جرد شامل منذ ثلاثينيات القرن الماضي. وتضيف “الجارديان” أن زاهي حواس، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار آنذاك. نزل إلى القبو ليجد مشهدا أقرب إلى الفوضى: صناديق مغلقة مغطاة بالغبار، مومياوات مكدسة فوق بعضها، وبقايا بشرية مبعثرة على الرفوف.

آثار توت عنخ آمون
خصص المتحف المصري بالتحرير قاعة لعرض آثار الملك توت عنخ آمون، لكنها لم تكن كافية لعرض المجموعة كاملة بسبب ضيق المساحة. فضلا عن خروج أجزاء منها في معارض خارجية.
ففي الفترة بين عامي 1976 و1979، عرضت آثار توت عنخ آمون بالمتحف البريطاني لمدة 6 أشهر. ثم جابت الولايات المتحدة ثلاث سنوات. وبحسب صحيفة “جارديان” حصلت الحكومة المصرية حينها على نحو 7 ملايين دولار من العرض الأمريكي وحده. خُصصت لتجديد مرافق العرض في المتحف المصري بالقاهرة.
ومع تدشين مشروع المتحف المصري الكبير، جرى تخصيص معرض رئيسي لعرض مجموعة كنوز الملك توت عنخ آمون كاملة لأول مرة منذ اكتشاف مقبرته عام 1922. وتضم نحو 5000 قطعة أثرية. إلى جانب 12 معرضا رئيسيا توثق تاريخ مصر عبر العصور.
عهد فاروق حسني
بسبب حالة الفوضى التي كانت عليها المخازن الأثرية، تنبه فاروق حسني وزير الثقافة من عام 1987 حتى 2011، إلى أهمية الحفاظ على التراث المصري. فشهدت فترة وزارته إنشاء 45 متحفا من شمال مصر إلى جنوبها.
وقال فاروق حسني في كتابه «فاروق حسني يتذكر زمن من الثقافة»: “كان تراث مصر الثقافي أغلبه في المخازن، وكانت المتاحف القليلة القائمة أقرب للمخازن. وأعدنا صياغة المتاحف الأثرية، وتطوير المتحفين الإسلامي والقبطي ومتحف دار الكتب”.
كما أنشئت متاحف جديدة مثل: النوبة، التحنيط، مير بتاح، خبيئة الأقصر، مجد طيبة، طنطا، الوادي الجديد، المنيا، سوهاج، العريش، شرم الشيخ، متحف مكتبة الإسكندرية. ومتحف فيلا الطيور بالإسكندرية، النسيج بكوم أمبو، التماسيح، الخزف الإسلامي، الطيور، وإيمحوتب في سقارة.
مشروعات المتاحف
في عام 2018 أصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، تقريرا ضمن كتيب «مصر في أرقام» أوضح أن إجمالي عدد المتاحف في مصر بلغ 72 متحفا موزعة على 19 محافظة. وبحسب دراسة للدكتور حسين دقيل، لم يتجاوز عدد المتاحف التابعة لوزارة الآثار 50 متحفا. وبلغ إجمالي الإيرادات التي حققتها عام 2016 حوالي 45 مليون جنيه من زيارة 974.4 ألف شخص.
أما في إحصائيات عام 2023، فقد بلغ عدد المتاحف المفتوحة للزيارة 83 متحفا، منها 73 متحفا للفن والتاريخ، و10 للعلوم والطبيعة فيما يشهد عام 2025 افتتاح المتحف المصري الكبير. كما شهدت السنوات الأخيرة ظهور ما يُعرف بـ”المدن الإبداعية”. ورشحت الجيزة وأشمون لقائمة المدن الإبداعية التابعة لليونسكو لتفوقهما في صناعة الأفلام والحرف والفنون الشعبية.

مصير المتحف المصري بالتحرير
تحدث فاروق حسني عن متحفي “الحضارة” و”المصري الكبير”، ووصفهما في كتابه بأنهما سيكونان من أعظم متاحف العالم. وقال عن متحف التحرير: “هو أول مبنى في العالم أقيم خصيصا ليكون متحفا. وقد صممه المعماري الفرنسي مارسيل دورونون عام 1897، وتم افتتاحه رسميا عام 1902”.
وأضاف: “كنا نخطط لتحويله إلى مركز أثري عالمي على غرار المراكز البحثية في المتاحف الكبرى مثل مدرسة اللوفر، ليتعلم فيه الأطفال والكبار أهمية الأثر وكيفية الحفاظ عليه”.
وبحسب “ناشيونال جيوجرافيك” لم يتم الإعلان الرسمي حتى الآن عن خطة نهائية لمستقبل المتحف المصري بالتحرير. ورغم احتفاظه بعدد كبير من الآثار، بدأ استخدامه مؤخرا للمؤتمرات والفعاليات الثقافية.
تخطيط المتحف المصري الكبير
يرجع التخطيط لبناء المتحف المصري الكبير إلى عام 1992، حين أعلن لأول مرة عن مشروع إنشاء المتحف. وفي عام 2002، وضع الرئيس محمد حسني مبارك ووزير الثقافة فاروق حسني حجر الأساس. لبناء المتحف على مساحة تبلغ 872 ألف قدم مربع.
وبدأت أعمال تمهيد الأرض لبناء المتحف الجديد على موقع مساحته 100 فدان بجوار الأهرامات، بحسب تقرير لصحيفة “جارديان” منشور عام 2008، الذي أشار أيضا إلى أن الحكومة اليابانية وافقت على قرض بقيمة 300 مليون دولار لتمويل المشروع. كما وثق التقرير نقل تمثال رمسيس الثاني – الذي يبلغ ارتفاعه 36 قدما- من رحلة استغرقت عشر ساعات عبر شوارع القاهرة، في مشهد تابعه العالم.
مشروع ثقافي وأثري
يصف الدكتور حسين عبدالبصير في كتابه “أسرار الفرعون الذهبي توت عنخ آمون” المتحف المصري الكبير بأنه: “أعظم مشروع ثقافي وأثري وفني ومتحفي في العالم. وهو المشروع القومي لمصر في القرن الحادي والعشرين، شأنه شأن المشروعات المصرية الكبرى مثل بناء هرم الملك خوفو في مصر الفرعونية. وقناة السويس في عهد الخديو إسماعيل”.
تبلغ مساحة المتحف 117 فدانا، وتجاوزت تكلفته مليار دولار. ويضيف عبدالبصير: “سيضم المتحف كنوزا فنية وروائع من الآثار المصرية القديمة منذ عصور ما قبل التاريخ إلى العصرين اليوناني والروماني. وسيضم حوالي 100 ألف قطعة أثرية، نصفها مخصص للعرض، والنصف الآخر للدراسة”.
خطط سابقة
كان من المقرر افتتاح المتحف في عام 2013، وبدأت الاستعدادات لذلك قبل سنوات. ووفق كتاب “مأساة نفرتيتي وأخواتها التي سرقت وهربت خارج البلاد” للدكتور قاسم زكي. فقد حاولت مصر عام 2009 استرداد قطعها الأثرية الهامة من المتاحف العالمية.
وجاء على رأس الأولويات حجر رشيد، حيث طلب الدكتور زاهي حواس، رئيس المجلس الأعلى للآثار حينها، من المتحف البريطاني استعارة الحجر لمدة 3 أشهر لعرضه في افتتاح المتحف المصري الكبير. لكن رد المتحف البريطاني كان واضحا، مؤكدا رغبته في بقاء القطع ضمن منظومة العرض الدائمة لديه.
تأجيل الافتتاح
رغم أن الافتتاح الرسمي كان مقررا عام 2013، فإن الأحداث السياسية لعام 2011 تسببت في تأجيله. كما تأثر دخل مصر السياحي نتيجة الانخفاض الكبير في أعداد الزوار. ثم جاءت جائحة كوفيد -19 لتؤجل المشروع مجددا. وأدت الاضطرابات والحروب في المنطقة إلى تأجيل الافتتاح أكثر من مرة، وفق ما ذكره موقع “ناشيونال جيوجرافيك”.
التأثير على السياحة
رغم التأجيلات المتكررة التي شهدها مشروع المتحف المصري الكبير، لم يخفت الحماس الشعبي والعالمي لافتتاحه المرتقب. وبحسب “ناشيونال جيوجرافيك”، يتزامن موسم الافتتاح مع فترة الذروة السياحية في مصر. حين يعتدل الطقس وتزداد الوفود السياحية خلال فصل الشتاء.
وتسعى مصر لاستقبال 30 مليون سائح بحلول عام 2028، مقارنة باستقبال 15.7 مليون سائح في عام 2024. وبالعودة إلى عام 2002، كانت مصر قد استقبلت نحو 5 ملايين و192 ألف سائح. وارتفع العدد تدريجيا حتى بلغ 8 ملايين و608 آلاف سائح في نهاية 2005، وفق موقع “الاقتصادية” نقلا عن اللواء أبو بكر الجندي، رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء آنذاك.
اقرأ أيضا:
من اللوفر إلى المتحف المصري الكبير GEM.. تقنيات الواقع الافتراضي تُعيد إحياء التاريخ
الصحافة العالمية تحتفي بالمتحف المصري الكبير: الحدث الثقافي الأبرز في العقد الجاري



