«المتحف الزراعي المصري».. نافذة على إرث مصر الطبيعي

بعد نحو تسع سنوات من الإغلاق، يعود المتحف الزراعي ليفتح أبوابه من جديد، مؤكدا مكانته كأكبر متحف زراعي في الشرق الأوسط، وثاني أقدم متحف من نوعه في العالم. شمل التطوير تحديث القاعات وتجديد أساليب العرض وتوسيع المساحات المخصصة للزوار، ليصبح أكثر جذبا وملاءمة للأسر والطلاب والباحثين. ويُفتتح المتحف، الذي تتجاوز مساحته ثلاثين فدانًا، رسميًا بداية من غدٍ، بعد فترة تشغيل تجريبية استمرت أسبوعين، خصصتها وزارة الزراعة لاختبار الخدمات واستقبال ملاحظات الجمهور.
أعمال التطوير
قال العميد فؤاد القمحاوي، مدير عام المتحف الزراعي والمتاحف الدولية بوزارة الزراعة: “التطوير تم على مرحلتين رئيسيتين. بدأنا بإعادة صيانة جميع المباني التابعة للمتحف مع التركيز على الحفاظ على بعض المقتنيات الأثرية الهامة. إضافة إلى أعمال صيانة فنية للمخطوطات القديمة التي تحتاج بعض منها إلى معالجة كيميائية دقيقة من قبل وزارة الآثار. وقد كان الهدف هو إتمام عملية تطوير شاملة للمتحف، تواكب ما يحدث في المتحف المصري الكبير”.
وفيما يتعلق بالحفاظ على الآثار، أوضح القمحاوي: منذ إغلاق المتحف، لم تتعرض أي قطعة أثرية للتلف، بفضل الجهود التي بذلتها وزارة الآثار والزملاء المسؤولون. حيث تتم مراجعة القطع بصفة دورية كل شهرين أو شهرين للتأكد من سلامتها وحمايتها من أي مخاطر. ونحن ملتزمون تماما بالحفاظ على هذه الكنوز التاريخية.
وأضاف: “حرصنا على التمسك بالأصالة والهوية الثقافية للمتحف، فالمتحف يحتوي على تراث زراعي مصري أصيل. وكل من تولى رئاسته كان له دور كبير في الحفاظ على هذه الهوية وتطويرها بما يتناسب مع كل مرحلة. كما عملنا على صون العديد من الزراعات النادرة والحيوانات التي تميز البيئة الزراعية في مصر”.
المتاحف الأكثر زيارة
أشار القمحاوي إلى أن الزائر غالبا لا يستطيع زيارة المتاحف الفرعية الثمانية دفعة واحدة، مضيفا: أول ما يقصده الزوار عادة هو متحف المقتنيات التراثية، الذي كان في الأصل قصر الأميرة فاطمة إسماعيل. ثم متحف المجموعات العلمية. والأخير يحظى بإعجاب خاص نظرا لاحتوائه على معروضات أثرية نادرة. مثل “زفة العروسة”، و”السوق المصري”، و”القهوة المصرية القديمة”، وهي معروضات تجسد جزءًا كبيرًا من التراث المصري الذي نعمل على الحفاظ عليه.
آراء الجمهور
حول مطالب الجمهور، قال القمحاوي: “الجمهور في الفترة الأخيرة كان يطالب بتطوير أساليب العرض داخل المتاحف. حيث كان يتوقع أن تكون العروض بصيغة ثلاثية الأبعاد مثل المتحف المصري الكبير. نحن لا نزال نواكب العصر ونطور المعروضات بشكل تدريجي. وقد بدأنا فعلا في تطبيق بعض الأساليب الحديثة مثل العروض التفاعلية باستخدام تكنولوجيا 3D في بعض المعروضات”.
وأكد أن وزير الزراعة يسعى لتسجيل المتحف كأول متحف زراعي من حيث الإنشاء والمساحة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو. مضيفا: “نحن في انتظار زيارة لجنة من اليونسكو لمعاينة المتحف وتقييمه بشكل رسمي”.
مدينة ثقافية متكاملة
منذ اللحظة الأولى التي تطأ فيها قدماك أبواب المتحف، تدرك أنك أمام مساحة تفوق حدود المكان المعتاد. فهو ليس مبنى واحدًا. بل أشبه بمدينة ثقافية كاملة تتوزع على 8 مبانٍ منفصلة، تحتضن متاحف فرعية متخصصة، تعرض أكثر من 100 ألف قطعة أثرية. وبين القاعات والحدائق والتماثيل والنباتات النادرة، يتحول المتحف إلى سجل حي لتاريخ علاقة المصري بالأرض، من عصور ما قبل التاريخ حتى الزمن الحديث.
من بودابست إلى القاهرة
تعود قصة المتحف الزراعي إلى الملك فؤاد الأول، الذي تأثر أثناء وجوده في أوروبا حين حضر احتفال الألفية المجرية عام 1896، والتي كانت أبرز فعالياتها إنشاء المتحف الزراعي المجري في بودابست، أول وأكبر متحف زراعي في العالم. وقد استلهم الملك فؤاد هذه التجربة، ورأى أن مصر- التي قامت حضارتها منذ آلاف السنين على الزراعة – جديرة بأن تمتلك متحفا مماثلا يوثق تاريخها الزراعي. فاستقدم عددا من مصممي المتحف الزراعي المجري لوضع تصور لمتحف في القاهرة يعكس خصوصية التجربة المصرية.
من قصر الأميرة فاطمة إلى متحف فؤاد الأول
اختيار موقع المتحف لم يأت صدفة، حيث وقع الاختيار على قصر الأميرة فاطمة، ابنة الخديوي إسماعيل، ذلك القصر الذي تحول من مقر ملكي إلى نواة لمؤسسة ثقافية كبرى. الأميرة فاطمة لم تكن شخصية عابرة في التاريخ المصري. فهي التي تبرعت بأراضٍ شاسعة كانت تملكها – من موقع المتحف الحالي وحتى جامعة القاهرة – كما قدمت مصوغاتها لبناء الجامعة المصرية. فقد كان حلمها أن يحصل أبناء مصر على التعليم، وأن تترسخ قيمة العلم في المجتمع.
في الثلاثينيات، جرى تحويل القصر ليكون المقر الرئيسي للمتحف، فامتزجت جدرانه المزخرفة مع قاعات العرض الزراعية. وقد ظل المتحف مرتبطًا باسمها حتى بعد أن افتتحه الملك فاروق عام 1938 تحت اسم متحف فؤاد الأول الزراعي. هكذا بقيت بصمة الأميرة فاطمة حاضرة في ذاكرة المكان، شاهدة على أن مشروع المتحف لم يكن فقط قرارًا ملكيًا، بل أيضًا ثمرة عطاء إنساني لامرأة آمنت بالعلم والزراعة والتعليم كركائز لبناء مصر الحديثة.
ثمانية متاحف في متحف واحد
منذ افتتاحه الأول لم يكن المتحف الزراعي مجرد مبنى يحتفظ بمقتنيات متناثرة. بل وُلد مشروعًا متكاملًا حمل في داخله 8 وجوه مختلفة، يروي كل واحد منها فصلًا من تاريخ مصر الطبيعي الممتد عبر آلاف السنين. كان متحف المجموعات العلمية، أول الأقسام التي جُمعت. حيث قُدمت فيه نماذج ووسائل إيضاح لحياة الريف المصري. بدءًا من أدوات الفلاحة البسيطة وصولا إلى المجسمات التي تجسد ملامح المجتمع الزراعي وصور الفلاح المصري، ذكرا كان أو أنثى.
أما متحف القطن فجاء ليُخلد تاريخ “الذهب الأبيض”، ذلك المحصول الذي شكّل العمود الفقري للاقتصاد المصري لقرون. وإلى جانبه نشأ متحف المملكة النباتية ليكون بمثابة حديقة علمية داخل جدران المتحف. حيث تعرض عينات من نباتات وأشجار بعضها نادر أو اندثر من الطبيعة ولم يبق إلا هنا، مثل نبات “البرساء” الذي كان مقدسًا عند المصري القديم.
ولأن مصر هي أقدم حضارة زراعية على وجه الأرض، أنشئ متحف الزراعة المصرية ليحفظ هذا التاريخ في داخله. ويضم أدوات طحن حبوب تعود إلى نحو خمسة عشر ألف عام، إلى جانب مومياوات لحيوانات وطيور كانت رفيقة الفلاح في الحقل والمعيشة.
متحف لكل العصور
مع تعدد الحضارات التي عبرت أرض مصر، أنشئ متحف العصور اليونانية والرومانية والقبطية والإسلامية. الذي تعكس مقتنياته أثر كل عصر في تطوير أساليب الري والزراعة وإدارة الأرض.
ولم يغب البعد الشعبي عن المتحف، فجاء متحف المقتنيات التراثية ليعرض أدوات الحرف اليدوية والنماذج بالحجم الطبيعي لبيت الفلاح وملبسه وأثاثه. أما البهو السوري أو الشامي كما يطلق عليه، فقد أُضيف خلال فترة الوحدة بين مصر وسوريا ليحمل جانبًا من التراث العربي المشترك. حيث تعرض فيه الأزياء الشعبية والآلات الموسيقية والمجسمات التي توثق العادات الريفية في بلاد الشام.
ويكتمل المشهد بمتحف الصداقة المصرية الصينية، الذي افتُتح لاحقًا ليعكس أبعاد التعاون بين البلدين. مقدّمًا قاعات تعرض الخزف والتحف الصينية التي ارتبطت بتجارب الزراعة والتبادل الثقافي.

قاعات المتحف
يقسم المتحف إلى عدة قاعات رئيسية تقدم كل واحدة تجربة متكاملة:
- قاعة الآلهة: تعرض تماثيل الآلهة المرتبطة بالزراعة مثل أوزيريس، إيزيس، سخت وحابي.
- قاعة الديورامات: تضم ثلاث لوحات بانورامية تبرز مشاهد الصيد، العمليات الزراعية، والصناعات الغذائية.
- صالة المحاصيل والصناعات الزراعية: تضم عينات من القمح والشعير والذرة والبقول والنباتات الطبية والعطرية. بالإضافة للصناعات الغذائية التقليدية مثل صناعة الخبز والزيوت والبيرة.
- قاعة نهر النيل: تضم تماثيل إله النيل ومومياوات التماسيح والأحياء المائية.
- قاعة الطيور والحيوان: تضم هياكل وعظاما ومومياوات لمختلف الكائنات المصرية القديمة. بما فيها الحيوانات الأليفة والبرية.
سجل حي للزراعة المصرية
ما يميز المتحف الزراعي أنه لا يقتصر على عرض القطع الأثرية فحسب. بل يفتح نافذة واسعة على حياة المصري مع الأرض في كل مراحلها. فمن التماثيل والأدوات البدائية لحفر الترع والقنوات وزراعة الحبوب. إلى الوثائق والصور التي تؤرخ للملكية الزراعية في القرن التاسع عشر. ثم قاعات القطن الذي كان أحد أعمدة الاقتصاد المصري، وصولًا إلى قاعات حديثة تروي مسيرة التعاون الدولي. كل قسم في المتحف يضيف سطرًا جديدًا إلى سجل مصر الزراعي.
اقرأ أيضا:
رحلة في أرشيف البحر.. حكايات المصايف المصرية من ورق البردي إلى الشاليهات
حوار| «سام كين»: كنت أريد الكتابة عن مصر.. وكتابي «عشاء مع الملك توت» ليس خيالا صرفا
حين كتب الأصدقاء على ورق البردي: رسائل ووصايا من مصر القديمة