القاهرتان (12): بين رضوى ويحيى حقي.. هل قنعت المدينة القديمة فعلا بماضيها؟

بدا أن المدينة الحديثة التي شيدها إسماعيل تمثل مستقبل البلاد بينما تركت وراء ظهرها المدينة القديمة. وكما أشرنا في الحلقات السابقة فإن الأعمال العمرانية الكبرى مثلت على وجاهتها في الواقع خصامًا أكيدًا بين سياقين تاريخيين هما ماضي البلاد ومستقبلها. بعد ما يزيد عن قرن من الزمان قدمت رواية قطعة من أوروبا لرضوى عاشور -نُشرت عام 2005 – وصفًا تفصيليًا للمدينة الحديثة وموقعها من المدينة القديمة مع بيان لحالة التناقض بين المدينتين أو قل بين سياقين جد مختلفين عمرانيًا ومجتمعيًا.

تتناول رواية عاشور تاريخ مصر الحديثة بداية من عصر إسماعيل حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وذلك من خلال ما مر على المدينة الحديثة من تحولات اجتماعية وسياسية، تحكي الرواية قصة هذه المنطقة التي تعتبرها عاشور شأن الكثيرين «قطعة من أوروبا». راوي رضوى عاشور هو شخصية أسمته الناظر، وتأتي دلالة الاسم من مهمته التي هي مراقبة ثم نقل ما عاشه من خلال بصره وبصيرته.  ولد الناظر عام 1936 في شارع قصر النيل، أحد أقدم الشوارع في المدينة الحديثة، خلال صفحات الرواية يوجه الناظر حكاياته إلى حفيدته شهرزاد، التي يذكرنا اسمها براوية حواديت ألف ليلة وليلة، مع أن الراوي في رواية عاشور هو الناظر وليس شهرزاد.

***

وبشكل عام تتوالى مرويات الناظر خلال صفحات “قطعة من أوروبا” فتتقاطع الحكايات عن القاهرة الحديثة من منظور اجتماعي وسياسي وحضري. وتتصل الأحداث الوطنية الكبرى بحياة المدينة وحياة الناظر فنجد سياقًا متماسكًا عبارة عن محطات تاريخية تبدأ بإنشاء المدينة الحديثة، ثم تتناول الحرب العالمية الثانية وكساد ما بعد الحرب وصولًا إلى حريق القاهرة وحركة الجيش في يوليو 1952، تنتقل الحكايات إلى المرحلة الناصرية وما تلاها وصولًا إلى الانفتاح الاقتصادي.

تمتد حكايات الناظر إلى عصرنا الحالي فنجدها تتطرق إلى المظاهرات ضد الغزو الأمريكي للعراق والانتفاضة الفلسطينية في القدس، ولم تمنع هذه الرؤية الأفقية الممتدة للأحداث الناظر من أن يؤرخ لنا طرفًا من حيوات بعض الشخصيات السياسية والاقتصادية البارزة في زمانها مثل الخديو إسماعيل وشيكوريل وتوماس كوك وآخرين. لكن اللافت للنظر هو أن رواية عاشور تعرض بوضوح لثلاثة مشاريع تحديثية تبدأ بالمشروع الذي تبناه إسماعيل، ثم الحداثة التمصيرية القومية التي كرسها عبد الناصر وأخيرًا الحداثة الأمريكانية في عهدي السادات ومبارك.

***

في الفصول الأخيرة من الرواية، يستحضر الناظر العلاقة بين المدينة القديمة والمدينة الجديدة التي سميت في زمن إسماعيل القاهرة الرومية وذلك خلال مراحل تشييد الأخيرة:

“كان هذا الحي الجديد، القاهرة الرومية كما يسميها بعض المؤرخين يخلف وراءه القاهرة الإسلامية، يتركها مستتبة في ماضيها، قانعة به أو غارقة فيه، ويتطلع إلى عالم جديد، يسحب إليه المدينة بمؤسسات حكمها وقصور حكمها ومراكزها التجارية، ينقلها غربًا -لا مجاز هنا- أقصد الغرب الجغرافي.”

لا تذكر الفقرة السابقة أية قرارات سياسية تم اتخاذها في هذا السبيل لكنها تقطع بهيمنة المدينة الجديدة على “العالم الجديد” في وقت قنعت فيه المدينة القديمة بتدهورها وانتماءها للعالم القديم وكأن ذلك من محض اختيارها! لكن بالنظر إلى عام نشر الرواية 2005 نتبين أن “قطعة من أوروبا” تسير في نهج حركة الحفاظ على تراث وسط القاهرة العمراني والمعماري وهي المجهودات الدؤوبة التي لفتت الانتباه إلى قاهرة إسماعيل باعتبارها منطقة ذات قيمة تاريخية وحضارية.

صاحب هذه الحركة كما يعلم الكثيرون نزعة نوستالجية لما يسمى بالزمن الجميل واصطلح هؤلاء على أن زمنهم الجميل هو الفترة التي سبقت إسقاط حكم أسرة محمد علي بيد الضباط الأحرار لاسيما من كان منهم على شاكلة بطل رواية رد قلبي “علي عبد الواحد” أو علي ابن الجنايني. على أية حال ليس الحكم على “جمال” الزمن الجميل أو على ما فعله ابن الجنايني بالباشا موضوع هذه الحلقات وإنما نتساءل هل كانت هذه هي نفسها الصورة الذهنية التي تكونت عند المصريين الذين عايشوا صعود نجم قاهرة إسماعيل وأفول نجم قاهرة المعز؟

***

 

في محاولة للوصول إلى إجابة غير متحيزة للتساؤل السابق نعتقد أنه من الواجب وضع بعض الحقائق بين يدي القاريء منها أن رضوى عاشور – وهي من أعظم أدباء جيل الستينات – ولدت في عام ١٩٤٦ في منطقة المنيل الهادئة بالقاهرة، يعني أنها لم تشهد تاريخيًا أو عمرانيا عملية صعود وأفول نجمي المدينتين القديمة والحديثة – بعكس حالة نجيب محفوظة  المولود سنة ١٩١١ بحي الجمالية بالقاهرة القديمة – ربما ذلك التفاوت الزماني والمكاني هو السبب في أن تتبنى رضوى عاشور في روايتها نظرية المهندس الفرنسي هنري بيرون عن وضع المدينتين في أن تصبح أحداهما متحفًا مفتوحًا و الأخرى مدينة عصرية تعبر عن حداثة زمانها. شرح تيموثي ميتشل في كتابه المهم “استعمار مصر” نظرية بيرون الذي كان بالمناسبة مسؤولا عن تدريس الهندسة المعمارية في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة سنة ١٩١٠:

“[يجب] الحفاظ على المدينة القديمة في سياق أن يظهر للأجيال القادمة من خلالها كيف كانت مدينة الخلفاء التقليدية، لكن مع بناء مدينة عالمية منفصلة تمامًا عن الحي الأصلي… بالتالي يكون هناك قاهرتان: القاهرة الحديثة، بلا شك الأكثر جاذبية، والقديمة، التي يبدو قدرها أن تطول معاناتها وأن تخفق في الصمود أمام رياح الحداثة. إحداهما هو القاهرة للفنانين – يعني قاهرة المعز-، والأخرى قاهرة خبراء الصحة العامة والحداثيين “.

***

في سنة ١٩٤٠ أي قبل مولد رضوى عاشور بست سنوات، نشر أحد رواد الحركة الأدبية الحديثة في القرن العشرين في مصر يحيى حقي (1905 – 1992) مجموعته القصصية “قنديل أم هاشم” وفي آخر المجموعة قصة بعنوان “بيني وبينك” وصف حقي نهاية جولة أحد سكان المدينة القديمة في أحياء المدينة الحديثة، تعكس الجملة القادمة مشاعر الراوي ونظرته التي تنبئ برأي مجتمعي عن المدينة الحديثة… في عز صعودها:

“أجوس بعدك خلال القاهرة فأعود من أحيائها الأوروبية بقلب فاتر كليل وطعم بين المر والحلو، كفقير يرتد عن زيارة ابنه الغني العاق، وإن عزّ على قلب أبيه.”

يحيى حقى
يحيى حقى

 

نستطيع بسهولة استنتاج غربة الراوي في المدينة الحديثة مع حالة من السأم لم تفلح معها نظافة شوارع المدينة الأوروبية وحسن تنسيقها. لكن المثير هو رؤية الراوي للعلاقة بين المدينتين على أنها علاقة أبوية. إلا أن الابن، الذي يمثل المدينة الحديثة، يجمع بين القوة والثروة بعكس والده، الذي يمثل المدينة القديمة. وعلى الرغم من ثروة الابن وسطوته فإن هذا الأخير يجحد حق أبيه الذي منحه الحياة! هذه العلاقة على طرافتها وقسوتها معًا لتعبر عن أنانية المدينة الحديثة تجاه المدينة القديمة المهجورة والمتدهورة كما توضح لنا أن المدينة القديمة، ممثلة في سكانها، كانت تتألم لقسوة الإهمال والجحود فلم يكن استسلامًا ولا رغبة حرة منها لأن تكون “قانعة بماضيها أو غارقة فيه”.

***

نتفق مع يحي حقي بلا شك، فالقاهرة القديمة، المدينة الأم ذات التسعة قرون، هي الرحم الذي خرجت منه المدينة الحديثة. رغم ذلك فقد وجدت المدينة القديمة نفسها في مواجهة ابنتها الصاعدة، الصعود الذي أصبحت المدينة القديمة بسببه في وضع يُرثى له كما يقول أندريه ريموند:

“كانت المدينة القديمة، التي تم التضحية بها لصالح المدينة الحديثة منذ عهد إسماعيل، مهملة إلى حد ما بينما كانت المدينة «الأوروبية» تتطور: اًهملت الطرق، والعناية بنظافتها كانت سيئة، إمدادات مياه الشرب كانت غير مكتملة، شبكات الصرف الصحي كانت متواضعة أو غير كافية. وقد تفاقم البلى في هذه الأحياء – أحياء المدينة القديمة- بسبب النمو السريع للسكان، الذين أثرت كثافتهم بشكل كبير على تهدم البنايات وعلى سوء الخدمات العامة”.

اقرأ أيضا:

القاهرتان (11): عالمان في حالة تضاد

 

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر