دليل الفعاليات الثقافية فى مصر

الدليل - تعالى نخرج

الفيلم الفائز بنجمة «الجونة» الذهبية: «شاعر» ضد الشعر وسينما ترفض السينما!

هذا فيلم أصيل بشكل لا يكاد يصدق!

هو واحد من أفضل أفلام الدورة الثامنة من مهرجان “الجونة”، التي انتهت أمس، حيث حصل على جائزة أفضل فيلم روائي، وكان قد شارك في مهرجان “كان” الماضي في قسم “نظرة ما” وحصل على جائزة لجنة التحكيم، كما رشحته كولومبيا ليمثلها في الأوسكار، ولكن هذا التقدير يبدو قليلأ عليه، أو غير مناسب، ذلك أنه من طينة أخرى غير التي تصنع بها معظم الأفلام.

الفيلم اسمه “شاعر” A Poet أو بلغته الإسبانية الأصلية Un Poeta، أول عمل روائي طويل لمؤلفه ومخرجه سايمون ميسا سوتو.

على السطح يبدو بسيطا مثل الماء، ولكن “شاعر” عمل فني متعدد الوجوه بشكل فريد. كوميدي ومأساوي، واقعي وسوريالي، تقريري وفانتازي، صاخب وهامس، قاسٍ ورقيق، ساخر وحنون، نثره كالشعر وشعره كحوار كل يوم. يصعب تحديد نوعه، أو التأثير الذي يتركه فيك. يشبه بقية الأفلام، ولكن لا يشبهها.

على السطح يروي “شاعر” قصة رجل بائس، فقير، قبيح، كان في يوم ما، في شبابه، يجيد كتابة الشعر حتى اعتقد أنه شاعر كبير، وقرر ألا يفعل شيئا في حياته سوى كتابة الشعر. ولكن الشعر قرر ألا يواتيه. مطلق من سنين ولديه ابنة مراهقة توشك على الانتهاء من دراستها الثانوية، مغترب عنها، وحين يقابلها، يقترض منها خمسة آلاف بيزو (ما يقرب من ستين جنيها مصريا!). يرفض أن يعمل ويعيش عالة على أمه المسنة المريضة، وليزيد الطين بلة، مدمن للكحول، وحين يسكر يفلت منه الزمام، فلا يكف عن الثرثرة وارتكاب الحماقات!

****

حتى ثلث الفيلم الأول تقريبا نتعرف على أوسكار، الشاعر، وعالمه، ومظاهر الضياع الذي يعاني منه. وفي اللحظة التي نتساءل فيها عما يمكن أن يحدث له، عما إذا كان شيئاً في حياته سيتغير الآن، تأتينا الإجابة: يضطر أوسكار إلى قبول وظيفة مدرس ثانوي بفضل وساطة والحاح أخته، وفيما يواصل خيباته ويثير سخرية طلبته، يسألهم حانقاً: هل منكم من يقرأ الشعر؟ هل منكم من يكتب الشعر؟ يضحكون من جديد، ولكنهم يشيرون إلى طالبة ملونة بدينة منطوية على نفسها، ويقولون إنها يورلادي التي تكتب الشعر. بعد الفصل يتحدث أوسكار إلى  يورلادي. لديها كراسة ممتلئة بالرسوم الجميلة والقصائد. يطلب منها أن تعيره الكراسة، ويقرأها في البيت. يذهل من حلاوة وبساطة أشعارها.

إنها موهوبة وشاعرة بالفطرة. تكتب عن غرفتها الصغيرة وإحساسها بالأماكن والأشياء. يدرك على الفور أنه أمام مشروع شاعرة كبيرة. يقرر أن يتولاها برعايته، ويقدمها إلى أصدقاءه أصحاب مشروع بيت الشعر. يذهب لاستئذان جدتها ووالديها. تعيش يورلادي في أسرة كثيرة العدد في شقة فوق السطوح، تحت خط الفقر. إنها مرتبطة بأسرتها وتشعر بالمسئولية تجاههم رغم أنها لم تتخط الخامسة عشر، عندما يشتري لها ساندوتشا تحتفظ به لتعطية لأطفال أختيها. توافق على الذهاب إلى بيت الشعر والاشتراك في المسابقة طمعاً في الجائزة المالية وليس لإنها مهتمة بأن تكون شاعرة. كل ما تطمح إليه أن تطلي اظافرها وتتزين كفتاة.. ولكن موهبتها ظاهرة، والأوربيون الذين يدعمون جمعية الشعر سعداء بالفتاة لأنها تلبي كل تصوراتهم عن “مستحقي الدعم”، ووسائل الاعلام تسعى لتسطيح وتسليع كل شيء، ونكون قد وصلنا إلى ثلث الفيلم الأخير حيث يبدو أن كل شيء في طريقه إلى نهاية تقليدية سعيدة.

****

فجأة تنقلب الأمور في لحظة شؤم لندخل إلى فصل ختامي يقطع الأنفاس ويفجر أنواعاً من المشاعر وصولا إلى “كليماكس” مثالي يترك المشاهد في حالة يرثى لها من التأثر ما بين الحزن والبهجة.هذه هي القصة، باختصار، ولكن كما هي العادة في الفن، فإن المهم هو الطريقة التي تعالج بها القصة، وما الذي تريده حقا من وراء القصة.

بوستر الفيلم
بوستر الفيلم
****

هل يدور “شاعر” حول شخصية أوسكار، التي لا تثير سوى “الشفقة” كما تخبره ابنته؟

وجه من وجوه الفيلم يدور بالفعل حول الشخصية الرئيسية، وهذا بالفعل اسلوب المخرج والمؤلف سايمون ميسا سوتو. كل من فيلمه القصير الأول “ليدي” Leidi (2014) الذي حصل على السعفة الذهبية من مهرجان “كان” وفيلمه الروائي الأول “أمبارو” Amparo (2021) يحملان اسمي الشخصيتين الرئيستين في الفيلم، الأولى فتاة صغيرة تبحث عن حبيبها ووالد طفلها حديث الولادة، والثانية أم عزباء تحاول حماية ابنها الوحيد من التجنيد الإجباري بتدبير خطة لايداعه السجن! سوتو صنع أيضا فيلما قصيراً بعنوان “أم”  Madre (2018) ضمن فيلم مجمع عن النساء اللواتي تعرضن للاعتداء الجنسي، يدور أيضا حول فتاة مقهورة.

هذا هو عالم سوتو الذي يبحث عن المهمشين ليروي حكاياتهم التي تجسد مشاكل وواقع كولومبيا وأمريكا اللاتينية وتلك الجماعات الفقيرة البائسة في كل مكان. وكما يلاحظ القارئ كل أفلامه تحمل عناوينها كلمة واحدة تشير إلى اسم الشخصية الرئيسة أو صفتها، وفي ثلاثة من أربعة أفلام صنعها فإن الشخصية الرئيسة فتاة صغيرة.

لكن “شاعر” ليس عن شخصية أوسكار فحسب. هو أيضاً عن الفتاة يورلادي الشاعرة الحقيقية في الفيلم. وعنوان الفيلم قد يشير إليها كما يشير إلى أوسكار. وهي تنتمي أيضاً إلى عالم سوتو من المهمشات قويات الشخصية المكافحات.

ولكن “شاعر” ليس فقط عن أوسكار ويورلادي، فهو فيلم يمتلئ بالشخصيات، وهذه الشخصيات وحيواتها ترسم صورة بانورامية واقعية وناقدة لمجتمع يحول أفراده إلى كائنات أنانية خائفة ومدعية. إن مشكلة أوسكار، كما مشكلة يورلادي، أنهما صادقان وحقيقيان في مجتمع يتسم بالكذب والادعاء. هو يدرك أنه لم يعد يستطيع كتابة قصيدة صادقة كما كان يفعل في بداية شبابه، ويرفض أن يساير الوسط الثقافي المدعي. يسخر سيتو من مشاهير الحياة الثقافية، بمن فيهم الشاعر “الكبير” والناشر اللذين يديران “بيت الشعر”، وسعيهما لنيل رضا الممولين الأوربيين بأي وسيلة، كما ينتقد “شعر المناسبات” و”الصوابية السياسية”، وفعاليات “المظاهر” التي تفقد الفن معناه.

****

في مشهد معبر من الفيلم يتجادل أوسكار مع صديق له (والإثنان في حالة سكر بين) عن أفضل شاعر في تاريخ كولومبيا. المشهد ساخر وكوميدي كمعظم الفيلم، وبه إشارة إلى أشهر أدباء البلد وهو جابريل جارثيا ماركيز الذي وضعت صورته على العملة الورقية من فئة الـ50 ألف بيزو (تظهر ورقة العملة في مشهد لاحق يثير الكوميديا أيضا).

أوسكار يرى بجزم وحزم أن أكبر شعراء كولومبيا هو خوسيه أسونسيون سيلفا (1865- 1896)، الذي مات منتحراً في الثلاثين من عمره، والذي يعد أبو “الحداثة” الشعرية في كولومبيا وأمريكا اللاتينية، حيث اتسمت أشعاره بمعالجة موضوعات بسيطة تحمل فلسفة عميقة، كما يقول مثلاً في مطلع إحدى قصائده:

“لماذا نولد، يا أمي، أخبريني، لماذا نموت؟”

هذا الحزن الشفيف والبراءة والبساطة في التعبير تشبه قصائد يورلادي التي تتردد عبر الفيلم، والتي يمكن، بطريقة ما، اعتبارها امتداداً لمفهوم أوسكار عن جوهر الشعر الحقيقي. هذا الجوهر الذي كان غائباً عنه، ويستعيده مجدداً، من خلال تعرفه على يورلادي وتجربته معها. هذه خلاصة الرحلة الدرامية التي يمر بها أوسكار، والتي تشير إلى أن “ثيمة” الفيلم الأساسية هي السؤال عن جوهر الفن: الشعر، والسينما التي يحاول أن يصنعها سايمون سوتو.

هو أيضاً يسعى لصنع أفلام بسيطة كالماء، عميقة كالمحيط. بجانب قصص أفلامه المأخوذة من الحياة اليومية فهو يعتمد بشكل أساسي على الممثلين غير المحترفين. كل من أوبيمار ريوس الذي يلعب دور أوسكار وريبيكا أندرادي التي تلعب دور يورلادي ومعظم ممثلين الفيلم إناساً عاديين يمثلون لأول مرة. ولمزيد من اضفاء الصبغة “الواقعية” و”الارتجالية” فإن الفيلم مصور بكاميرا الـ”16 مم” المنزلية القديمة، ويعتمد في معظم مشاهده على الكاميرا المحمولة التي تتحرك وسط الشخصيات دون قطع. هذا الاسلوب على “واقعيته” شبيه بمنهج “بريخت” في كسر الايهام والتأكيد على المشاهد كل فترة بوجود الصنعة وضرورة أن يشاهد ويحكم بعقله.

****

ويمتد هذا الاسلوب إلى العناصر الفنية الأخرى مثل المونتاج الحاد جدا كما في أعمال الهواة، والموسيقى المختفية غالبا وإن كانت تذكر بين الفينة والأخرى بوجودها الخارجي القوي. الأمر نفسه مع أداء ريوس لشخصية أوسكار، الذي يتحرك من “مفتاح منخفض”  low key بسيط وهادىء أحياناً و”مفتاح شديد الارتفاع” أحياناً، حيث يصرخ ويتحرك بهيستيرية مبالغ فيها أحياناً. والحقيقة أن من ضروب الهزل ومجاملات المهرجانات المزرية ألا يفوز ريوس بجائزة أفضل ممثل في “الجونة”!

يتقلب “شاعر” بين الواقعية والمبالغة الميلودرامية، بين الضحك والبكاء، بين السخرية من شخصياته والعطف عليهم، بين انتقادهم دون رحمة وحبهم دون شروط!

يتنقل مثل أداء بطله بين ألوان الطيف، كلوحات الطريق متقلبة الوجوه، أو تلك اللعبة القديمة التي لا أذكر اسمها، والتي يظهر فيها وجه حين تحركها بسرعة.

هذا عمل متفرد وأصيل لصانع أفلام متفرد وأصيل.

اقرا أيضا:

عن أفضل أفلام مهرجان «الجونة»: الكابوس الأمريكي كما تنبأ به أورويل وجسده ترامب!

زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.