رهانات الذاكرة

ــ 1 ــ

مازِلت أطوف بدروب ذاكرتي، والذي صار أحد عاداتي التي أعتَّد بها. حيث إن ذلك لا يعد استعادة أو استحضارا لحدث عابر وفقط، أو كصندوق الذكريات، التقط منه ما يليق بالمناسبة، ولكنه تاريخ ممتد، وفعل يومي يعلن عن ميلاد الحياة اليومية دوما. لذا؛ لم أزل حائرا قبالة تساؤلاتي التي لا تُحصى، تائها في إجابات لم أحصد صحتها بعد.

مفاد ذلك، ما هي المشاعر التي تموج بوجدان الطفل العربي الآن، وتخص المصري تحديدا، وهو يشاهد عبر التلفاز أو الإنترنت ما يجري على الساحة الفلسطينية من أحداث فاجعة من تدمير للبيوت، وقتل وهدر لدماء الأطفال على وجه الخصوص. وبماذا نحدث الأطفال حينما تلوح الدهشة والألم على وجوه الصبية الأبرياء التي تتوق أن تعرف ما يحدث لأنهم صاروا أحد أجنحة هذا العالم المحيط بهم، والكون أيضا. هل سنكترث، ونبوح بالحقيقة؟ أم سنعتمد سبل الكذب والمراوغة كعادتنا؟ فنهدئ من انتفاضة الأطفال، بنظرية “حينما تكبر ستعرف كل شيء”.

ــ 2 ــ

من الأسف، لم أعد منذ أزمنة مديدة، مُحاط بصحبة حلقات الأطفال الذين عرفتهم، وحيث كانت المجاورة في كل شيء، المحبة، والمعرفة، والندية الحقيقية أيضا. لعل آخر هؤلاء، المخرج “أحمد رشوان” ابن شقيقتي الكبرى، والذي نشأ مهموما بالقراءة منذ طفولته ثم السينما بعد ذلك. حيث مثَّل لي في أعوام عمره، صاحب متفرد، فضلا عن الشقيق الأصغر “إسلام” الذي حاكاه في ميول عديدة.

ــ 3 ــ

عندما اصطحبني بعض الصحاب على أحد مقار منظمة الشباب (والتي لم أكن عضوا بها) بالإبراهيمية – شارع بورسعيد. عرفت أن المنظمة مشمولة بجناح يسمى بـ”الطلائع”، صبية وصبايا، زهورا يانعة في أعمار مختلفة، ربما كانت أواسط السبعينات، وكانت بدايات سنوات الوظيفة.

أسرتني الطاقة الحيوية والنضج لتلك الزهور. حيث برزت الميول الثقافية لدى “الطلائع” حتى تنامت الألفة والصحبة بيننا. فتأسست بالمقر مكتبة تشمل شتى صنوف المعرفة، وصحب ذلك “ندوة المكتبة” الأسبوعية لمناقشة وقراءة مستفيضة لأحد الأعمال الأدبية. ثم مجلات الحائط التي احتلت جدران الحجرات وحررها الناشئة من الكتاب. ونمضي إلى دور المسرح نشاهد المسرحيات الراقية، وإلى دور السينما نطَلِّع على التيارات الجديدة في السينما الأوروبية. وإلى معارض الكتاب التي تعقد في الإسكندرية، ونؤسس مرسما في إحدى الغرف لهواة الرسم. أو أن نمضي إلى مستشفى جمال عبدالناصر (كوستا اليوناني سابقا) أو إلى مستشفى المواساة بشارع أبو قير. نزور المرضى ونقدم لهم الورود والهدايا.. أو زيارة المتاحف والمواقع الأثرية، يصحب كل ذلك، حوار ونقاش حاد وجاد في آنٍ، ونهوى المسرح فنسعى إلى تكوين فرقة مسرحية تضمنا جميعا، نعد المسرحيات ونُمَثِل معا، ويُنشِد الفتية والفتيات “أخويا رايح الجبهة.. رايح القنال.. راح يحارب.. أخويا راجل كبير”.

وقتئذٍ، عرضنا على مسرح مدرسة الليسيه، المسرحية الانتقادية “مجلس العدل” لتوفيق الحكيم، وفي النهاية، كان صياحنا المُدًوي يغمر أرجاء الصالة:

العدل ويا المفتري.. ضد الفقير عشان فقير

ساوي أمورك تشتري.. وتعيش في وسط الناس أمير

مجلس العدل لتوفيق الحكيم
مجلس العدل لتوفيق الحكيم
ــ 4 ــ

في ثمانينات القرن الماضي، جرت مياه كثيرة وشهدنا تحولات نوعية أخرى. صار هؤلاء الفتية في عنفوان العمر، تتجهز بوعي حقيقي ومختلف، تتصدى للزيف والانحطاط الذي غَشِيَ أرجاء الحياة. تكد في اكتشاف القيمة والمعنى في وجودنا، وتجني ثمار التكوين. فصارت تعبأ أكثر بقضايا وهموم الحياة الاجتماعية بأسرها، مأخوذة بالشأن العام، تحمل الأمل في أن انتصار الحياة غير بعيد، تكمل المسار والبذل مع طلائع جدد. تعرف أن أطفال الحجارة لم تعد طي النسيان، وأن أطياف “ناجي العلي” و”غسان كنفاني” مازالت تتسع لسماء رحبة. وأن الوجود الإسرائيلي في معرض الكتاب ذات عام، تقلص وذَوَى، وأن الخريطة انتفضت في كتب التاريخ والجغرافيا. حيث طالها التشويه والتحريف، وبرزت تحديات أخرى ترد الاعتبار لدروب الكفاح والنضال في كافة الحقوق الإنسانية. وأن الترويج للمحو محض وهم وزيف، وقتها. عرفنا كيانات ذات ملامح وسمات متميزة، تمثل منعطفا مختلفا، وتعبر عن خلجات طافت بصدورنا، تتوق للحرية والعدل.

فكان ميلاد “لجنة الدفاع عن الثقافة القومية”، ودار “الفتى العربي” بريادة المناضلة الراحلة “صفاء زيتون”. حيث صنفت الدار كتبا ذات قوام خاص، كتابة بديعة ورسوم فاتنة لكُتَّاب ومبدعين كبار “بهجت عثمان ، “إيهاب شاكر”، “حجازي”، “عدلي رزق الله” وآخرين، ظلت حصنا منيعا يقاوم التلاشي.

اقرأ أيضا:

«العدالة».. قسمة غائبة

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر