«العوامية» بالأقصر.. مئة عام وطقوس المولد النبوي لم تتغير

منذ أكثر من مئة عام، لم تتغير طقوس أهالي قرية العوامية بمحافظة الأقصر في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، إذ ظل المشهد كما هو، يحتفظ بعبق التاريخ وروحانية المناسبة الدينية، في عادة سنوية لا تزال حية رغم موجات الحداثة.
طقس الدورة
من أهم المظاهر الاحتفالية في العوامية “الدورة” أو الموكب، حيث يشارك العشرات من أبناء القرية حاملين العصي والشوم الغليظة، مرددين المدائح النبوية على أنغام المزمار البلدي، ويجوبون شوارع القرية وحاراتها في أجواء أشبه بكرنفال شعبي. تختلط أصوات المزمار بوقع أقدام الخيول والجمال والحمير.
رحلة بين دواوين العائلات
تنطلق الدورة في صباح يوم المولد من أمام ديوان عائلة آل مطاوع بعزبة الحوادقين، لتبدأ رحلة طويلة تمر على جميع دواوين العائلات في القرية، وتنتهي أمام ديوان عائلة آل عيد.
وخلال المسيرة يستقبل الأهالي المشاركين بالترحاب، ويقدمون الشاي والشربات والأطعمة الخفيفة، في طقس متوارث لم يتغير. ورغم انتشار مكبرات الصوت و”الدي جي” في بعض القرى المجاورة، ما تزال العوامية متمسكة بتراثها، فلا صوت يعلو على صوت المزمار البلدي والمدائح النبوية.
يقول محمود الطيري، أحد منظمي الدورة: “نحن متمسكون بتراثنا القديم، لم نغير فيه شيئًا. شهدنا قرى أخرى تستبدل المدائح والإنشاد بالدي جي أو الأغاني النوبية، وهذا لا يمت بصلة إلى الاحتفال بالمولد النبوي. أما نحن فنتمسك بالمدائح التقليدية مثل (طلع البدر علينا) و(طه يا رسول الله)، ونجوب القرية كلها رغم مشقة السير، التي نراها ممتعة، مليئة بالروحانيات والبهجة”.

مشاركة الأجيال
اللافت في دورة العوامية أنها عادة موروثة جيلاً بعد جيل. ورغم أن كبار السن كانوا في الماضي أكثر حضورًا، فإن المشاركة اليوم باتت في الغالب للشباب. يقول الحاج عبدالصبور عبدالوهاب، أحد كبار القرية: “زمان كنا نركب الجمال ونشارك خلف الدورة، وكان الكبار دائمًا في الصفوف الأولى. اليوم تغيّر الأمر، فأغلب المشاركين من الشباب، ربما لانشغال الكبار بالحياة، لكن الطقوس نفسها لم تتغير. ما زالت العوامية وفية لعاداتها”.
بهجة ودفء اجتماعي
لا تقتصر الدورة على الإنشاد والسير فقط، بل تتخللها طقوس اجتماعية وروحية، إذ ينضم شباب العائلة التي يصل إليها الموكب للمشاركة في التحطيب أو رقصات الخيول على وقع المزمار والطبول، بينما يوزع على الأطفال الحلوى والمقرمشات، فيتحول الموكب إلى عيد مصغر يملأ القلوب بالفرح.
ويشير عبدالحميد الراوي، أحد أهالي القرية، إلى أن الدورة تؤدي أيضا دورًا اجتماعيًا: “الدورة ليست مجرد احتفال ديني، بل هي مناسبة لإعادة الوصل بين العائلات. إذا كان هناك خلاف أو مشاحنة بين أسرتين، تكون الدورة فرصة للإصلاح وتجديد المودة. كل البيوت تفتح أبوابها للموكب، وهذا بحد ذاته يعزز الألفة والمحبة”.

التراث في مواجهة الحداثة
على الرغم من التغيرات الجذرية التي شهدها الريف خلال العقود الأخيرة، يصر أهالي العوامية على ممارسة طقوسهم كما هي. بالنسبة لهم، المولد النبوي ليس مجرد ذكرى عابرة، بل هو تجسيد للهوية والذاكرة الجماعية للقرية.
ويؤكد الطيري: “المدائح النبوية ليست مجرد قصائد في مدح النبي، لكنها وسيلة لربط الأجيال الجديدة بتراثهم الديني. حين يردد الشباب (طلع البدر علينا) أو (إيه العمل يا أحمد)، فإنهم يستحضرون أجواء بدر والمدينة”.
مشهد سينمائي حي
من يشاهد الدورة من خارج القرية، يظن نفسه أمام مشهد سينمائي حي: صفوف الرجال بالعصي، يتبعهم الخيول والجمال المزينة، فيما تتعالى أصوات المزمار والطبول. النساء والأطفال يقفون على جانبي الطرقات يصفقون ويهتفون، والبيوت تتزين بالأعلام الخضراء، في صورة مبهرة تجمع الدين بالتراث بالفرح الشعبي.

تراث مهدد أم حي للأبد؟
رغم تمسك العوامية بهذا الاحتفال، يبقى السؤال: هل ستظل “الدورة” صامدة في مواجهة سطوة الحداثة وتغير الذائقة الشعبية؟ يرى البعض أن استمرارها لأكثر من قرن دليل على قوتها وقدرتها على البقاء، خاصة أنها مرتبطة بالعاطفة الدينية والاجتماعية معا.
ويقول الراوي مطمئنا: “كل جيل يأتي ويضيف شيئًا بسيطًا، لكن الجوهر لا يتغير. الدورة ستظل ما دام هناك حب للنبي صلى الله عليه وسلم، وما دام هناك أهل متمسكون بتراثهم”.
وهكذا تظل العوامية نموذجًا حيًا لقرية مصرية صعيدية تحافظ على موروثها الديني والاجتماعي منذ أكثر من قرن. فدورة المولد النبوي ليست مجرد احتفال، بل مشهد يختزل معنى الانتماء والتواصل بين الأجيال. وبينما تسير الحياة سريعا نحو الحداثة، يظل صوت المزمار البلدي والمدائح في شوارع العوامية شاهدًا على قوة التراث،وقدرته على البقاء.
اقرأ أيضا:
«ليلة الملوخية».. عادة متوارثة للاحتفال بالمولد النبوي بنجع العقاربة
«إحياء إسنا التاريخية».. مشروع يحصد جائزة «الآغا خان» للعمارة 2025
«مرماح منشأة العماري».. 150 عامًا من الفروسية في مولد النبي بالأقصر