«الضيف أحمد».. من تمي الأمديد وإليها

في صباي، كنت أذهب وابن عمي لنلعب في حوشٍ فسيح قرب بيتهم مع أبناء الحي في قرية تمي الأمديد بمحافظة الدقهلية. وعلى جانب الحوش كان هناك بيت قديم متهالك، أكلت جدرانه الأيام، فكنا نقفز من فوق سوره لنلعب بداخله، ونستظل به من حر الشمس ساعاتٍ طويلة، ثم يعود كل منا إلى بيته. ولم يكن أحد منا آنذاك يعرف شيئا عن صاحب هذا البيت، ولا خطر ببالنا يوما السؤال عنه.

مضت الأيام بحلوها ومرها… وكبرت وازددت معرفة واهتماما بالوسط الفني والثقافي، وكنا نفاخر بأن من بلدنا فنانا كبيرا خطفه الموت، قبل أن يصبح زعيما كبيرا كما تنبأ له أقرانه وأساتذته ومحبوه. كان ذلك الفنان هو الضيف أحمد.

وبعد بحث بدأته بسؤال أقاربه في قريتي. ثم بتتبع كل ما هو متوفر عنه من معلومات على الإنترنت، وجدت صورا لذلك البيت القديم الذي كنت ألعب فيه أيام الصبا. وفي إحدى الصور ظهر الباب العتيق، فانتعشت الذاكرة: هنا كنا نلعب، هنا كنا نلهو في أيام الصبا، وبقي السؤال ملحًّا: عن ذلك النجم الذي هاجر إلى القاهرة عاصمة الفن والثقافة. وطبيعة علاقته بتمي الأمديد؟ والأهم ما علاقة ذلك المنزل الغامض بطفولتي؟

من مولده إلى مرحلة ما قبل الجامعة

بدأت في جمع المعلومات من أهالي القرية عن الضيف أحمد الضيف، الذي ولد في 12 فبراير عامَ 1936، في أسرة مكونة من سبعة أولاد، لوالده الحاج أحمد الضيف، عمدة القرية آنذاك، بحسب ما ذكره لنا بعض أبناء القرية، وتنتمي أسرته لعائلة “الشرايفة”، إحدى أكبر عائلات القرية، ويعتقد أنها تعود في نسبها إلى السادة الأشراف من آل البيت.

لم تسعفني المصادر بتفاصيل كافية عن تلك المرحلة الأولى من حياته، ولا بشيء يوضح طبيعة التعليم الذي كان يتلقاه أبناء القرية في أربعينيات القرن الماضي. ورغم ذلك، يمكننا أن نتصور نشأته الأولى تصورا عاما، وفق العام المشترك بين أبناء ريف الدلتا في ذلك الوقت.

الأرجح أنه تلقى تعليمه الأول في كُتّاب القرية- إذ لم تكد تخلو قرية منه في ذلك الوقت- فربما حفظ القرآن أو بعضَا منه، وتعلم القراءة والكتابة. ويعزز  ذلك ما لاحظته في بعض أعماله الأولى، إذ كان يقرأ النصوص العربية بلغة فصيحةٍ ونطقٍ سليم، ما يدل على نشأة سوية ودراية سابقة بتجويد الحروف العربية، وغالب الظن أن هذه المهارة تأسست في كتاب القرية.ومحل تلك النشأة، بغلبة الظن، هو كُتاب القرية. فقد يكون قد حصّل فيه من التعليم ما أهله فيما بعد ليلتحق بعده بالمدرسة الابتدائية ثم الثانوية.

ثلاثي أضواء المسرح
ثلاثي أضواء المسرح
من الابتدائية للثانوية

وكذلك لم أجد شيئا يوضح اسم المدرسة الابتدائية التي التحق بها الضيف. وهل كان في القرية وقتئذٍ مدرسة ابتدائية أم لا؟ لكن تجمع المصادر أنه اجتاز الابتدائية إلى الثانوية. وبالبحث تبين أن القرية لم يكن بها مدرسة ثانوية قبل سنة 1969. السنة التي أنشئت فيها مدرسة تمي الأمديد الثانوية المشتركة، وهي باقية إلى اليوم.

وأظن أنه التحق بإحدى مدارس المنصورة أو السنبلاوين. وكلا المدينتين على نفس المسافة تقريبا من قريته، وهما أكثر تمدنا، ويربطها بهما خط السكة الحديدية قبل أن يزال عنها حوالي سنة 1986. وهو المتوقع من عمدة القرية أن يكون حريصًا أن يتلقى ولَدُه التعليم المناسب على أكمل وجه.

في هذه المرحلة بدأت تتكون شخصية الضيف. إذ بدأ التمثيل على مسرح مدرسته الثانوية، وكانت المدارس في ذلك الوقت تُعنى بذلك الأمر، وهو أيضا ما يرجح أن مدرسته كانت خارج القرية. ولعل بذلك أتاح له التنقلَ ورؤيةَ الناس خارج القرية، والاحتكاكَ بمختلِفِ طبقات الشعب. من فقراء وشحاذين على الرصيف، إلى أساتذة متمدنين في المدرسة. إضافةً إلى نشأته الريفية. وبدأت تتضح معالم المستقبل الذي يرجوه بعد الثانوية. ليبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة بعيدة تماما عن القرية، فيرحل إلى القاهرة، عاصمة الثقافة العربية ودوحة الآداب والفنون، ويلتحق في جامعتها بكلية الآداب.

الضيف على مسرح كلية الآداب

التحق الضيف أحمد بكلية الآداب عام 1956م، علمنا ذلك من المصادر التي تكاد تجمع على تخرجه فيها سنة 1960، وتوفرت لدينا معلومات ما يعطينا تصورا جيدا عن هذه المرحلة. من ذلك ما حكاه صديقه فاروق فلوكس: “التقيت بالضيف سنة 1956 ونحن طلبة في جامعة القاهرة. وكونّا فرقة اسمها الضيف وفلوكس، وقدمنا اسكتشات كوميدية، واشتغلت في مسرحية الإخوة كرامازوف من إخراجه، وكان مخرجًا عبقريا).

وفي حوار له أجرته معه الكواكب: (كان صديقًا لي في الجامعة، وكنا معا نتقاسم العملَ في كل مكان، حتى أننا ألفنا مسرحيةً كوميدية بالإنجليزية، وحققتْ نجاحا غير عادي. كان عملاقا في الكوميديا، ومخرجا داخل الجامعة، ومحبا للأدب العالمي، ويستمتع بإخراجه).

وفي لقاء للضيف مع الكاتب الكبير ثروت أباظة، في ضيافة سلوى حجازي (نشر مقطع منه على يوتيوب)، أوضح الضيف فلسفته في الإضحاك، وصرح بأنه كان يدرس في قسم الفلسفة وعلم النفس بالكلية، خلافا لما تذكره بعض المصادر من أنه تخرج في قسم الاجتماع، وأكد أن هذه الدراسة كان رافدا معرفيا مكنه من الوصول إلى الجماهير والتأثير فيهم.

صعود نجم

تخرج الضيف من الجامعة سنة 1960م، كما ذكرت. وانطلق بعد ذلك حتى سنة 1963 التي تمثل نقطة مفصلية في حياته. حيث ظهر في عدد من الأفلام بأدوار ثانوية، لكنها كانت كافية لحفر موهبته في أذهان المشاهدين. وليس أدل على ذلك من مشهد لا يتجاوز الدقيقة ونصف، جمعه برشدي أباظة في فيلم عروس النيل. وكلنا يحفظ كلام ذلك المجذوب: (أنا ليه؟ أنا إمتى؟ أنا ازاي؟ … أنا جيت من الفضا، من غير سفينة…).

وفي العام نفسه، اختاره فؤاد المهندس ليشارك في مسرحيته الشهيرة مع شويكار وعادل إمام: (أنا وهو وهي). وكان اكتشاف الأستاذ للضيف سابقا حينما شاهده على مسرح الجامعة. فأعجب به وتنبأ له بمستقبل كبير.

بعد ذلك، تعددت مشاركاته في الأفلام والمسرحيات حتى وفاته المبكرة، ومن أهمها: مسرحية (طبيخ الملائكة) سنة 1964 مع رفيقيه سمير غانم، وجورج سيدهم، وذاع صيتُ الثلاثي بسببها.

سمير وسيدهم

في سنة 1967، انضم الضيف رسميا إلى الثنائي سمير وسيدهم ليحل محل الفنان عادل نصيف. الذي شاركهما عرض (دكتور الحقني). ثم انفصل عنهما. فبحث الثنائي عن ثالث، وذهبوا أولا إلى فاروق فلوكس فاعتذر إليهما لانشغاله. ورشح لهما صديقه الموهوب الضيف أحمد، ليصبح هو صاحب فكرة ثلاثي أضواء المسرح. وأكثر من ذلك أنه أخرج للفرقة بعض المسرحيات. منها: (كل واحد ولُه عفريت)، وكتب كثيرا من إفّيهاتها وقفشاتها. بل ذكرت بعض المصادر أن له محاولات في تلحين بعض الأغاني للفرقة.

وقد أكد عدد كبير من الفنانين أهميته ودوره البارز في فرقة الثلاثي، منهم: الزعيم عادل إمام، وفاروق فلوكس، ولبنى عبد العزيز، وأسامة عباس الذي يقول: (كان العقل المدبر لفرقة الثلاثي، والقائد دائما في البروفات).<p>وفي نفس العام، ظهر الثلاثي بأدوار رئيسية في فيلم (7 أيام في الجنة)، إلى جانب حسن يوسف ونجاة وعبد المنعم مدبولي، من إخراج حسام الدين مصطفى، وحقق الفِلم نجاحا مبهرا. وتأتي سنة 1968 ليقدم الثلاثي لأول مرة على التلفزيون المصري: فوازير ثلاثي أضواء المسرح، ثم أتبعها الثلاثي بفوازير: (وحوي يا وحوي) سنة 1968، فكانت ملهمة لكلَّ الفوازير الشهيرة فيما بعد.

النهاية المبكرة

ظل الضيف أحمد على هذا الوهج معطاءً بلا توقف، حتى أتت سنة 1970 لتنطفئ شعلته في عز أوْجها، ويفارق الحياة شابًّا في سن مبكرة لم تتجاوز 34 سنة، تاركا نبيلة مندور التي تزوجها قبل موته بسنوات قليلة، وابنتَه الوحيدة رشا التي كان يحبها حد الجنون، ولم يمهله القدر ليراها تكبر وتزهر وتثمر، وترك أيضًا أعمالا ومشاريع عديدة قيدَ التنفيذ، ورحل دون أن يحقق ما كان يرجوه لنفسه، ويتوسمه فيه أساتذته وزملاؤه ومحبوه.

لا أنسى يوما كنا نشيع فيه جنازة أحد أبناء القرية، وكنت في صحبة صديقي أحمد الضيف، من أقرباء الضيف أحمد. وزرت معه أقاربه الراحلين، ووقفنا عند قبر والده الذي رحل مبكرا هو الآخر، ولعله سمي (الضيف) تيمنا بالضيف الكبير.

ثم أشار بيده إلى قبر مجهول المعالم، وقال: (عارف مين مدفون هنا؟)، فعجبت لسؤاله، وقلت: “لا”. فقال:(دا قبر الضيف أحمد الممثل المشهور). فتوجهنا نحوه وقرأنا له الفاتحة. كان من الطريف أنني عرفت قبر الضيف قبل أن أعرف بيت العمدة الذي نشأ فيه. واتخذته العائلة بعد ذلك مضيفة لها في المناسبات.

كأنه مقدرٌ ومكتوبٌ على بعض العظماء الكبار ألا تُعرَفَ أقدارُهم. ويُعادَ اكتشافُهم إلا بعد أن يرحلوا وتُودعَ أسماؤهم في رف من رفوف خزانة (الزمن الجميل). مكلَّلةً بالحسرة والبُكا ونَدب الحظ.

ثلاثي أضواء المسرح

كان “ثلاثي أضواء المسرح” وقتها في الأردن يعملون على تصوير مسرحية من إخراج الضيف نفسه، بعنوان: الراجل اللي جوِّز مراته. وبعد انتهاء الرحلة، عادوا جميعا. وعاد الضيف… لكنه عاد ليدفن في القرية التي شهدت مولده ونشأته، وراقبت نجاحه وشهرتَه من بعيد. لتشهد هذه المرةَ رحيله عنها إلى الأبد، عقب سكتة قلبية مفاجئة.

<p>عاد إلى القرية التي شهدت انطلاقته الأولى، وبقي في نفسي بعض الأسئلة التي لا أجد لها جوابا شافيا، منها: كيف كانت علاقة الضيف بالقرية التي هجرها؟ هل هجرها عن قِلىً؟ أم كان يتبع حلمه فقط؟ وهل انقطعت علاقته بها بعد الشهرة والصيت العريض؟ أم كان وفيًّا إليها حتى النهاية؟ هل كان يخطط إلى العودة إليها؟.. لكنه عاد بشكل إجباري في النهاية جثة وارت الثرى في تراب تمي الأمديد.

وظل سؤال آخر ملح: لمَ لمْ يُجعلْ على قبره لوح من رخام يدل الزائرين إليه؟ أكان أهله في إنكار لموته غير متقبلين للواقع الأليم الذي اختطفه منهم في عز شبابه؟ فأبَوا من غير قصد أو أبت عليهم نفوسهم أن يكتبوا فوق قبره بعد دفنه: هنا يرقد المرحوم الضيف أحمد الضيف، 1936م-1970م. لتحتفظ القرية بذكرى وحيده له ممثلة في لوحة علقت أعلى مدخل منزله القديم كتب عليها: “هنا عاش الضيف أحمد”.

اقرأ أيضا:

عندما التقى حسين السيد وسمير غانم.. سر نجاح «ثلاثي أضواء المسرح»

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. من فضلك اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.